الثلاثاء، 23 أبريل 2013

هل علم الرسول (ص) والأئمّة عليهم السلام علماً بما كان وما يكون أو علمهم بما يحكم به العقل؟



كتبت من محاضرة صوتية ألقاها الشيخ عام 1995م في الكويت


البحوث إن شاء الله تعالى ستكون في المسائل العقائدية وما تحتاج إليه الآية أو الرواية من شرح وبيان.
والمطلوب في هذه المحاضرة هو الكلام عن علم الأئمة ، فهل علمهم هو بما كان وما يكون، أو علمهم فقط بما يحكم به العقل من الضرورة بما يكون مرتبطاً بالشريعة كتاباً وسنّة، أو أنّ علمهم لا يكون إلاّ في القضايا العامّة ولا يرتبط في القضايا الجزئية؟ وسنفصّل الكلام في هذا.
وهل أنّ علمهم حضوري أو حصولي؟ وما المراد من العلم الحضوري لو قلنا بأن علمهم كان حضورياً؟
ثم هناك أجوبة على اختلاف المسالك في المقام، فمن جملة المسالك مسلك العرفاء، وما هو المناسب على مسلك الفلاسفة، وما يمكن أن نستفيده للتتبّع في الكتاب والسنّة، وهل هي جميعاً تصبّ في مصبّ واحد، أو تختلف نتائجها بتبع المسالك؟
فما المراد من العلم الحضوري؟ وهل هو من خصائص الحق سبحانه وتعالى، أو يمكن أن نعمّمه إلى المخلوق؟
هذه هي المسألة الأولى في علم الإمامة التي يجب الالتفات إليها، فما هو تعريف العلم الحضوري؟ وما هو تعريف العلم الحصولي؟ لنرى أي العلم الحضوري يتناسب مع ممكن ولو كان سيد الكائنات (ص) ، أو هو أمر من خصائص الحق تعالى؟
أما العلم الحصولي فهو ارتسام صورة الشيء في الذهن، فأنا قد أحصل على كثير من الأمور التي كانت غائبة عنّي، أي: ما كانت حاصلة لديّ، فصورتك مثلاً أو صورة البناء وهكذا صورة زيد أو عمرو أو الكثير من الأشياء نحصل عليها تحصيل اكتسابٍ، فنكتسبها من الخارج، وقد كان الذهن خالياً منها، وكل ما كنت شاهدته في مدينة دخلتها وشاهدتها فانطبعت صورتها في ذهني، وهكذا صورة الكثير من الإخوان، وبمجرد أن أستعيد ذاكرتي مرّة ثانية تأتي تلك الصورة وتكون واضحة في ذهني، فهذا علم اكتسابي حصولي وهو حصول صورة الشيء في الذهن.
وفي العلم الحصولي يمكن الخطأ والصواب، بينما في العلم الحضوري لا يمكن الخطأ، فدائماً العلم الحضوري يكون قطعياً ويقينياً.
والعلم الحصولي يختلف باختلاف أدواته وسلامتها وسقمها، فإذا كانت العين سالمة فما تعطيك من الصور تكون صحيحة، وكذلك في جميع الأشياء كالسمع والشمّ والذائقة مثلاً، وكذلك ما نتوصّل إليه بالمعقول أيضاً قد يصاب بالخطأ لمقدّمات خاطئة، فقد نجزم بأمر تقليداً وموروثاً لأكثرية وما شاكل هذه الأمور، ولذا نشاهد بأنّ البوذي جازم باعتقاده، وأنا وأنت نراه خاطئاً عقلاً، وهو جازم في عبادته للأوثان، وربما ينحطّ العقل البشري ويتجاوز هذه المرحلة من العبادة حتى يعبد جرذياً وما شاكل هذه الأمور.
واليهود يرون أنفسهم على الحق وكذا النصارى، والمسلمون على اختلاف فرقهم الثلاث والسبعين، فكلّ واحد منهم جازم قاطع بأنه مصيب، والمصيب لا يمكن أن نتكلّم معه إلاّ أن نردّده بمناشىء اعتقاده، أي: لابد أن نردّده في مقدّماته التي أوصلته إلى هذه النتائج.
فالعلم الحصولي هو المكتسَب من الخارج، اكتسبناه بعقل أو بأدوات حسّية فقد يقع فيه الخطأ.
فإن قلتَ: العقل لا يصاب بالخطأ.
قلنا: هذا كلام حقّ ولا نتردد فيه، لكن الإنسان قد يتنزّل إلى الوهم فيتصوّر الموهوم معقولاً، فمن يتّبع الآخرين في المعتقدات فإنّه ما سمع نداء العقل، وإنّما سمع نداء الأكثرية أو الموروث وغيره، فحينما ودّع عقله ودخل في الوهم أخطأ، وإلاّ فالعقل لا يخطىء.
وخلاصة القول: إنّ العلم الحصولي الحاصل بواسطة الصور بينك وبين الواقع تكون الصورة الحاكية عن الواقع واسطة، والصورة ربما تكون خاطئة تابعة لأدواتها الحسّية أو العقلية.
أما العلم الحضوري وهو: حضور الشيء بنفسه لدى العاقل، فمن المستحيل أن يقع فيه خطأ؛ لأنّه حضور الشيء، وليس حضوراً لصورة الشيء، وفرق عظيم بين حضور الشيء وبين حضور صورة الشيء، فصورة الشيء قد تكون غير مصيبة للواقع، أما الشيء بنفسه فلا يقع فيه الخطأ.
وهاهنا سؤال دقيق، وهو: هل حضور الأشياء لدى العالِم بها من خصائص الحق سبحانه وتعالى، أو يمكن لي ولك ولمخلوق وممكن أن يوصف بالعلم الحضوري؟
إنّ الكائنات معلولات الحق، فلما كانت معلولة موجودة بإرادة إلهيّة صارت حاضرة لدى الحق، فهي معلومة أزلاً قبل إيجادها، وهي معلومة بعد إيجادها؛ لأنها متعلّقة بالحق، ولذا فإنّ من صفات الحق أنّه قيّوم، والقيّوم ما قام بنفسه وأقام غيره، فالقيّومية تثبت العلم الحضوري لله، ولسنا بصدد الدخول في المسائل التوحيديّة.
وهناك كلام يتردّد دائماً والكثير يتساءل: هل علمهم عليهم السلام حضوري أم حصولي، أم حضوري وحصولي؟
أولاً نأتي إلى العلم الحضوري، فنقول: إذا كان العلم الحضوري هو حضور المعلوم لدى العالم، فقد ورد عن النبي (ص) ــ لما سأله جابر عن أول شيء خلقه الله قبل الأشياء ــ : ( إن الله تعالى خلق قبل الأشياء نور نبيّك من نوره) ([1][1]) ، وهناك روايات تقول: إنّ العقل والكلام عن العقل هو سيّد الكائنات محمّد (ص) ، فإذا كان الأمر هكذا نتساءل: إذا كان الرسول (ص) وأهل بيته الكرام هم العقل بإطلاق الكلمة فكل ما هو من شؤون العقل يكون حاضراً عندهم، ولا يكون مكتسباً، وقد ورد في كلامهم :
( إلهي متى غبت حتى يكون غيرك دليلاً عليك) ، ( بك عرفتك وأنت دللتني عليك) ، ( يا من دلّ على ذاته بذاته) ، يتكلّمها وهي بديهية عنده، ولكن لِم لا تكون بديهية عندي؟ لأني لا أمتلك من العقل إلاّ مرتبة، ولأني محجوب بحجب الظلمات، أو ربّما منعني القصور الذاتي عن إدراك كثير من الحقائق.
فإذن: كلما يكون من شأن العقل في أي مرتبة من المراتب يكون علمه علماً حضورياً لدى الأنبياء والأوصياء، وعلى رأس الجميع الرسول (ص) وأهل بيته الكرام.
فهناك أمور تقام عليها البراهين كـ : العالم متغيّر، وكل متغيّر حادث، فالعالم حادث.
ثم ينتقل الإنسان بعد هذا البرهان إلى برهان جديد، وهو: العالم حادث، وكل حادث يحتاج إلى محدِث، فالعالم يحتاج إلى محدِث، ومحدثه إما واجب أو ممكن، فإذا كان ممكناً دار أو تسلسل، فيجب أن يكون محدِث العالم واجباً.
فهناك ثلاث مراحل طواها الإنسان حتى وصل إلى أمر عقلي جديد، وهكذا قد يحتاج الإنسان أن يتحرك تحركاً عقلياً.
نحن نحتاج إلى بيان أدلة وبراهين حتى نصل إلى هذه المراحل، فكل ما كان عقلياً فهو حاضر لدى العقلاء، حاضر لدى الأنبياء؛ لسعة وجودهم، أو حاضر لديهم بخطواتهم التي أشرنا إلى بعضها الآن، فهم ينتقلون من مرحلة إلى مرحلة لبداهة المقدّمات لديهم.
وهناك قبل البرهان والدليل فطرة، والإسلام دين الفطرة، فإذا لم يكن الرسول (ص) مَظهر الفطرة فمن الذي يكون مَظهراً للفطرة؟
فرسول الله (ص) بروز للفطرة، وإذا كان بروزاً للفطرة فهو مصداق كل كمال وفضيلة، فلا يكتسبها اكتساباً، ولا يتعلّمها تعلّماً، ولا يجاهد نفسه من أجل تحقيقها.
فإذن: ما كان من الفطرة ومن العقليات يكون عند الرسول (ص) وعند أهل بيته علماً حضورياً، وعليه فكلّ ما كان من شأن العقل والفطرة يكون حاضراً عند أولياء الله تعالى على اختلاف مراتبهم، وإذا حصل الإنسان على كل فطري وعقلي وكان حاضراً عنده تكون المكتسبات قليلة؛ لأنّ العقل بسعته والفطرة بواقعها جعلته يدرك الكثير من الأمور، وجعلته حاصلاً على كثير من الأمور بدون حاجة إلى اكتساب.
ولذا حينما قال الإمام علي (ع) : ( أنا القرآن الناطق) ([2][2]) ، لم يكن متجوّزاً في كلماته، بل هو واقع القرآن، فالقرآن الناطق والإمام المبين هو علي والرسول الأعظم عليهما السلام.
فإذن: الفطريات والعقليات علمها حضوري عند رسول الله (ص) وأهل بيته الكرام.
ولعل قائلاً يقول: إنّ العلم الحضوري من خصائص الله تعالى، وهو حضور المعلول عند العلّة.
فيجب التوجّه إلى أنّ إطلاق العلّة قد يكون المراد منه العلة الحقيقية، وقد يكون المراد منه العلّة بعد إذن الله تعالى: ( أبى الله أن يجري الأمور إلاّ بأسبابها) ([3][3]) فجعل لها عللاً، وأجراها مجاريها بتبع العلل، ولا يمكن أن ننكر العلل، ومن أراد الأمور بلا أسبابها قد يضيّع نفسه، ومن قال بأنّ الأمور بيد الله فلمَ تطلبون من زيدٍ أو عمرو؟ ولمَ تسعون في مناكبها؟ أخطأ؛ لأنه ما ميّز بين السببية المستقلّة والسببيّة التابعة، فالسببية التابعة لا مانع منها، فعلمهم حضوري، لكن ليس علماً حضورياً استقلالياً، كما وأن سببيتهم ليست سببية استقلالية، وإنما هي سببية تابعة للحق وبإذنه.
وهذه المقدمات في العلم الحضوري والحصولي سنبـيّنها أكثر، ثم نشير إشارة في هذه المحاضرة إلى المسالك الثلاثة التي يمكن من خلالها أن ندرك علمهم :
المسلك الأول: وهو المسلك العرفاني لإثبات الولاية.
قال العرفاء: إنّ هناك بطوناً لا ظهور لها أبداً، وسمّوها بغيب الغيوب والبطون المطلق، فالله تعالى بصرافة ذاته ولا نهاية وجوده فإنه بهذا الواقع لا يمكن أن يشرق على عالم الممكنات الضيقة الدائرة، فيبقى الممكن ممكناً محدوداً، ويبقى الله تعالى لا متناهياً، قال تعالى: ( كنت كنزاً مخفياً فأحببت أن أعرف فخلقت الخلق لكي اُعرف) ([4][4]) .
فالله تعالى في واقع ذاته اللامتناهية الصِّرفة هو كنزٌ خفي، وسيبقى مخفياً إلى أبد الدهر، ولا يمكن أن يخرج بصرف ذاته ولا نهايتها من الخفاء والبطون؛ لأنه بواقع لا نهايته ليس هناك من شيء يتحمّل لا نهاية الحق تعالى، فهوكذلك إلى أبد الآبدين، فأحببت أن أعرف هي في مرتبة الصفات لا في مرتبة الذات، فالله تعالى في مرتبة الذات بطونٌ محض، وصرف محض، وسيبقى مخفياً، ولا يمكن أن يتغيّر هذا الواقع، والرواية لا تريد أن تشير إلى أنه كان مخفياً فأصبح ظاهراً؛ لأنّه ليس هناك من زمان حتى نقيّد الحق به لكي يكون لـه واقع زمني كان فيه مخفياً ليصبح الآن ظاهراً.
فإذن: الظهور بحسب الأسماء والصفات وبحسب الأفعال.
وإذا كان الظهور بحسب الأفعال فنتساءل هاهنا: هل لعلم الحق ولعدل الحق من آية كما وأنّ لخلق الحق آية ( فهذا مصنوع يدل على صانع) وهكذا لابد من وجود يكون حاكياً لجميع الأسماء والصفات الإلهية كما يقول العرفاء، فيكون مظهراً لعلم الله تعالى، وآية لعدل الله، ويكون مظهراً لكل ما يمكن من الأسماء والصفات؟
فنقول: ومظهر هذا الواقع هو معجزة عالم الإمكان جامع كلمها التكوينية والتشريعية، كما قال (ص) : ( أوتيت جوامع الكلم) ([5][5]) ، فرسول الله (ص) ــ كما يقول العرفاء ــ مظهر جميع الأسماء والصفات الإلهية، فهو بروز عدلـه وعلمه، وهو بروز رحمته، وإذا كان بروزاً لها كيف يكون مَن هو بروز العلم ليس عالماً ! وكيف يكون من هو بروز العدل ليس عادلاً ! و ... .
فإذن: على مسلك العرفاء لابد من آيات وأسماء في عالم الإمكان تكون آيات مبـيّنة لأسماء الله تعالى، ولذا كان الله ربّ العالمين، ولذا قد ورد عنهم : ( نحن الكلمات التامات) ([6][6]) وكلمات الله ليست ككلماتي و كلماتك، بل كلمة الله الوجود الخارجي، فعيسى (ع) كلمة من كلام الله، أي: ظهور لأسمائه وصفاته، والكائنات بوجودها تعرب عن أسمائه وصفاته، فهي كلماته، فبناء على مسلك العرفاء أن الرسول (ص) لأنه معجزة عالم الإمكان ولأنه الجامع لمظاهر الكلام لابد أن يكون ظهوراً لجميع الأسماء والصفات، ومن كان ظهوراً لجميع الأسماء والصفات ــ ومن جملة الأسماء والصفات العلم ــ فلابدّ وأن يكون عالماً.
والحمد لله ربّ العالمين


[1][1]ــ كشف الخفاء، العجلوني 1 : 265 ، ح 827 .
[2][2]ــ ينابيع المودة، القندوزي الحنفي 1 : 214 ، ح 20 .
[3][3]ــ شرح أصول الكافي، المولى المازندراني 4 : 201 .
[4][4]ــ عوالي اللآلي، ابن أبي جمهور الأحسائي 1 : 55 .
[5][5]ــ مسند أحمد، أحمد بن حنبل 2 : 250 .
[6][6]ــ

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق