الخميس، 25 أبريل 2013

@ من جملة سيرة الرسول (ص) العفو والصفح عند المقدرة



كتبت من محاضرة صوتية ألقيت في سورية قبل سنين
من جملة ما هو من سيرة الرسول (ص) : الصفح والعفو عند المقدرة، قال الرسول (ص) : ( ما أوذي نبي مثل ما أوذيت) ([1][1]) ، وهو الصادق المصدّق، فما أبقت اليهود ولا قريش ولا المنافقون ولا المنحرفون ولا الجهّال أمراً إلاّ وتجاوزوا فيه الحدود بالنسبة إلى الرسول: إيذاءاً، وشتماً، وعدواناً.
لكنّ المائز بين السيرة النبوية وبين مَن نسب نفسه اليوم وفيما مضى إلى الرسول (ع) من الولاة والحكام، تحت أي شعار من الشعارات الخلابة، بيّنٌ واضح؛ حيث إنّ أكثر المدّعين لمنهج الحق لا يجسّدون في سيرتهم إلاّ الطواغيت والفراعنة، في حين أنّ الرسول (ص) ربّى أمته على المحبّة والإخاء، وأراد من المسلم أن يحمل ــ ولو قليلاً ــ من هذا الحب والود للمجتمع الإسلامي، بل لكافة البشرية؛ وهكذا ورد عن أئمّتنا : ( وهل الدين إلاّ الحبّ) ([2][2]) ، فمن تجدونهم مملوئين حقداً وتكفيراً وعدواناً فهؤلاء لا ربط لهم بالدين، والدين براءٌ منهم؛ لأنهم مثال القسوة والجفاف والجهل والتحجر.
1 ــ فرسول اللَّه يأتي إليه أبو سفيان مخذولاً مكسوراً مقهوراً، قد سقطت من يده كلّ الألاعيب، فيأتي إلى الرسول (ص) فيقول لـه الرسول: قل أشهد أن لا إله إلاّ اللَّه، فيقول: أشهد أن لا إله إلاّ اللَّه، ثم يقول له: قل أشهد أنّ محمّداً (ص) رسول اللَّه، فيقول: وأشهد أنّ محمداً رسول اللَّه، وفي القلب شكّ، فإنّه (ص) قبل ذلك منه واعتبره مسلماً، وهو يعلم ما يبطن أبو سفيان من الكفر والحقد على الإسلام والمسلمين.
ونحن نعيش في زمان قد أقررنا فيه ــ على مشهد من العالم ــ بكلّ الشهادات الإسلامية، ونتبع آل الرسول (ص) ، ومن هو صهر رسول اللَّه وابن عمّه، ونقول: إنّا مسلمون، وقد قلناها أربعة عشر قرناً فما قبلوها منّا، وإن كنّا لا نحتاج إلى قبولهم، وإنما نريد منهم أن يكفّوا يد البطش والجريمة، واليوم لا نحتاج إلى تصديق من قبل هؤلاء الذين لا يعرفون إلاّ تكفير المجتمعات، ظانّين أنّ الدين: ما فهمته أهواؤهم، وبلغته بتقديس الرجال أحلامهم.
فالإسلام دين المحبّة، فاحملوا للمجتمع قلوباً مُحبّةً للسلام، فإذا أحببتم المجتمع خدمتموه، فليكن قلبك حابّاً لليهودي والنصراني، والإنسان بما هو إنسان إذا لم يكن يحب الإنسانية لا يستطيع أن يخدم الإنسانية، فالرسول أحبّ اللَّه وأحبّ الإنسانية، فخدمها، وما جاء ولن يأتي أحد بخدمة كخدمة الرسول (ص) الذي بعثه اللَّه تعالى رحمة للعالمين.
2 ــ إنّ دين الإسلام دين المحبة، وليس شعاراً كما يدّعيه البعض، فرسول اللَّه (ص) وهو القائل: ( ما أوذي نبي مثل ما أوذيت) يدخل مكة فاتحاً مطأطئاً رأسه؛ تواضعاً للَّه تعالى؛ متجاوزاً عن خطأ وذنب كلّ أحد، فما اتبع أحداً حتى أشد أعدائه كأبي سفيان حتى قال كلمته الخالدة: ( اذهبوا فأنتم الطلقاء) ([3][3]).
هكذا عامل الرسول المجرمين والمتكـبّرين والطواغيت من قريش، وعفى عن كلّ أحد.
ونحن نريد أن نقرأ سيرته لا للبركة، بل لكي نحاول أن نتزيّى بزي وبسيرة الرسول، ولو بقدر ما حيث يجب اتباع سيرة الرسول وأهل بيته الكرام، ومشايعتهم في خطى الرسالة.
3 ــ وإذا كان هناك من يتردّد في سيرة الرسول في مجال العفو والرحمة بأنّها كانت في مقابل المشركين والمنحرفين والطغاة فقد جددها علي (ع) في فتحه للبصرة، فإنه قاتل مسلمين من صحابة الرسول (ص) عارفين بمبادى‏ء الشريعة، عارفين لمعنى البغي والعدوان على إمام زمانهم، عارفين بكلّ قيم الرسالة، فقد عاشوا تحت ظل تعاليم الرسول (ص) ، ثم طغوا بالدنيا وتجاوزوا الحدود، وخرجوا من الموازين، وأنه تمكّن من رقابهم فعفى عنهم جميعاً، فقد عفى عن عبد اللَّه بن الزبير وهو رئيس الجريمة الذي يعبّر عنه الآن بعض الناس بأنه كان من النسّاك، في حين أنّ عبد اللَّه بن الزبير مثال لكلّ جريمة ودناءة، وعفى عن مروان بن الحكم وعن أم المؤمنين عائشة، على الرغم مما ارتكبت من عظيم أمر، وعفى عن كل أحد.
فليحمل المؤمنون قلوب المودة والمحبة، ومن لم يحمل قلب السلام والمحبّة كهؤلاء الذين يكفّرون كل أحد، فمن يذهب ليتبرك بقبر
الرسول (ص) يعتبرونه مشركاً ! لا أدري أنحن نحتاج أن نثبت أنفسنا من المسلمين أم هم؟ ( ومن كفّر مسلماً فهو كافر) (
[4][4]) .
4 ــ وحينما تمكّن الإمام زين العابدين من رقاب بعض بني أمية جعلهم في بيته، وجعل بيته مأمناً لهم، مع العلم أنّ الكثير منهم من قتلة الحسين (ع) ، وقال (ع): ( لو أنّ قاتل أبي الحسين بن علي (ع) ائتمنني على السيف الذي قتله به لأديته إليه) ([5][5])، هكذا كانت الأمانة، وهكذا كان الصفح والإنسانية في واقع مثل الرسالة.
5 ــ ونحن كشيعة علي (ع) علّمنا علي (ع) ، فقال: ( من نصب نفسه للناس إماماً فليبدأ بتعليم نفسه قبل تعليم غيره، وليكن تأديبه بسيرته قبل تأديبه بلسانه) ([6][6]) ، وكل شخص هو إمام في بيته ومع أهله.
فعلينا أوّلاً أن نبدأ بتربية أنفسنا على أخلاق الرسول (ص) ، ومن لم يبدأ بتأديب نفسه لا يمكن أن يؤدّب غيره أبداً ومطلقاً.
6 ــ قال علي (ع) ــ في توصيف الرسول (ص) ــ : ( طبيب دوّار بطبّه، قد أحكم مراهمه ...) ([7][7]).
وقال علي (ع): ( كنا إذا اشتدّ البأس وحمي الوطيس اتقينا برسول
اللَّه (ص) ولذنا به) ([8]
[8])، فكلّ شخص يتكلّم بالخير والصلاح ولم يطبّقه أوّلاً على نفسه فهو كاذب.
7 ــ وقال الحسين (ع) حينما توجّه إلى العراق يدعو أهل العراق إلى الحق من بعدما طلبوا منه ذلك قال لهم: ( نفسي مع أنفسكم، وأهلي مع أهليكم، فلكم فيَّ أسوة) ([9][9])، هذه هي سيرة أولياء اللَّه تعالى.
8 ــ وكان من سيرة علي (ع) : أنه إذا خرج إلى حرب وقف هو في القلب، وجعل كلاًّ من أولاده في الميمنة والميسرة، وقد أعطى الراية العظمى إلى ولده محمّد بن الحنفية، كما في حرب الجمل، فمن يدعو إلى حقٍّ ويراه حقّاً يجب عليه أن يكون هو أوّل المتقدّمين، فانظروا إلى دعاة الحق فإن وجدتموهم سبّاقين إلى ما يدعون إليه غيرهم فهم صادقون، ولا تحتاجون إلى أن تميّزوا الناس بطول صلاتهم وكثرة صيامهم، فالإنسان قد يجعل الصلاة مصيدة للآخرين.
فالرسول (ص) كان سبّاقاً في الإنفاق، وكان معروفاً بالكرم، وكان سبّاقاً في الحروب، وعليّ كان سبّاقاً في حروبه، فما دعى أحداً إلى حرب واختبأ في ملاجئها. فميّزوا دعاة الحق من الباطل بأفعالهم، وبتسابقهم إلى الخير، ثم دعوة الناس إلى ذلك.
وهناك نقاط في ضمن التربية والأخلاق نذكرها حتى لا يكون هناك خلط بين سيرة الرسول وبين أمر آخر، فعلينا ــ مثلاً ــ أن نميّز الغدر عن الخدعة في الحرب، فالغدر رذيلة، والمسلم لا يغدر، والحرب خُدعة، فلا نخلط بين المقامين.
فقد روي أنّه لمّا سمع الرسول (ص) بحشود مقبلة إلى ضرب أركان الإسلام والقاعدة الإسلامية في المدينة قد أعدّ لها الروم 000 / 200 مقاتل، فبعث إليهم 3000 مقاتل، وودّعهم قائلاً: إن قتل زيد فالراية إلى عبد اللَّه بن رواحة، وإن قتل فجعفر بن أبي طالب، فبكى المسلمون وعلموا أنّ هؤلاء جميعاً سيقتلون، لكنّ التساؤل هو: أنه أي خدعة هنا تكمن؟
نقول: أراد أن يبيّن إلى الروم أنّ مقدمة جيش بثلاثة آلاف في مقابل 200 ألف مقاتل، وأنها بهذه الصلابة والثبات، فأوقف زحف جيش بكلّ معدّاته بـ 3000 مقاتل، فانهزم الروم بعد ذلك، وما تجاوزوا حدودهم أبداً.
فقال قائلهم: هذه مقدّمة جيش المسلمين، وقفت مقابل 000 / 200 مقاتل، فإذا دخلنا إلى بلادهم وأحاط بنا الجيش من كل جانبٍ ومكان فماذا يصنع بنا المسلمون؟ فإنهم يتلهّفون إلى الشهادة، ومن تلهّف إلى الشهادة لا يهزم، ولا يقف بعد ذلك عند حدّ، فلولا انهزام خالد بن الوليد ــ المسمّى عند المسلمين بسيف اللَّه المسلول ــ للقّن المسلمون الروم درساً لن ينسوه أبداً، وقد استقبله المسلمون في المدينة قائلين: يا فرّار، يا فرّار. فهذا مثال للخدعة، والمسلم كيّس فطن.
9 ــ وروي أيضاً أنه مرّ الرسول (ص) قاصداً قريشاً، فلما توسّط في الصحراء وجد بعض الجواسيس والعيون في الصحراء لقريش قاصدين جيش المسلمين، فأمر المسلمين أن لا يتكلّم متكلّم منهم، ويتركوا الخطاب له، فلما سأل الجواسيس المسلمين: ممّ القوم؟ قال (ص) : من ماء، فظن هؤلاء أنّ الرسول من قبيلة مسمّاة بالماء، فرجعوا إلى قريش وقالوا: من أبلغكم أنّ محمداً والمسلمين أعدّوا لكم العدة فهو ليس بصادق، فإنّا ما وجدنا إلاّ قبيلة واحدة تسير في الصحراء هي من قبيلة ماء. هذا أيضاً من الخدعة، وإذ به يصل إلى مشارف القوم بدون أن يلتفتوا إلى أمر.
10 ــ وكان الرسول (ص) يعدّ العدة لضرب يهود بني قريظة حينما نكثوا العهود، وكان هناك رجل من المسلمين معروفاً بأنه منافق نمّام، فلمّا جمع رؤساء القادة للجيش دعاه معهم، فظنّ الرجل أنّه ممّن يؤتمن على الأسرار، فتعجّب المسلمون، فجعل يشرح لقادة المسلمين كيفية الحرب، وكيف نغزو القوم، وكيف نحاصر بني قريظة؟ والمسلمون ينظر أحدهم إلى الآخر، فمن بعدما أنهى خطابه للجميع قال لـه: يا فلان، ائتمنّاك فلا تنقل الأسرار، فأخذ يؤكّد عليه، فانتهى المجلس والمسلمون مستغربون من حالة
الرسول (ص) : أهي بساطة، والمؤمن لا يكون بسيطاً ليخدع، فقال لهم (ص) بعد ذلك: إنّي أعرفه أنّه نمّام، وقد جعلته في مجلسكم وشرحت خطّة لا أريدها، ولكن أريده أن ينقل الخبر إلى اليهود حتى يعدّوا العدة على طبق هذه الخطة، ونقدم عليهم بخطّة ثانية، فهذه أيضاً تسمى خدعة عسكرية، ولا مانع منها.
11 ــ وروي أنه جاء رجل من قريش إلى الرسول (ص) قبل الحرب في إحدى الحروب، فقال للرسول (ص) : إني جئتك يا رسول اللَّه مؤمناً مسلماً، أريد أن أدخل إلى الإسلام، قال: إنّك رجل واحد، إن دخلت فينا لا يكثر المسلمون بوجودك، وإن خرجت فلا يقلّ المسلمون بخروجك، فارجع إلى القوم، وألق بينهم البغضاء، وفرّق جمعهم بما تتمكن عليه من ذلك، فرجع إلى القوم فبدلاً من أن يقول للقوم: استعدوا وهاجموا فإن المسلمين قليلون، لقّن قريشاً: أنّ عدد المسلمين أكثر من عددهم، وعزمهم أكثر من عزمهم، ثم قال لهم: بينكم وبين اليهود معاهدة على أن تجتمعوا على محمد وأصحابه، فاعلموا أنّ اليهود يخطّطون لكم، وهم سرّاً اتفقوا مع محمد، فإن قدمتم إلى المدينة وقعتم فيما بينهم، فاحتاطوا من اليهود فإنهم قوم غادرون، وذهب إلى اليهود فقال لهم: إن انسحبت قريش من المعركة لأي سبب وعادوا إلى مكة بقيتم أنتم ومحمد، فلا تقبلوا منهم أن تدخلوا معهم بحرب إلاّ بثلاثين من وجهاء شبابهم يكونون رهينة عندكم، فإذا أعطوكم ذلك حصل الاطمئنان، فبقي القوم يشكّ بعضهم ببعض، فهذه خدعة عسكرية، وليست غدراً ولا خيانة.
فإذن: أين يكون الغدر؟
نقول: أن تكتب عهوداً ثم تنقض العهود. فمن أبرز العناوين:
1 ــ أنه جاء عبيد اللَّه بن زياد، وتعرفون أنه من أيّ بيت أصولاً وجذوراً وفروعاً ، فإنه جاء ليزور شريكاً، وكان مريضاً، وشريك شيعي يكتم تشيّعه، فإنه لما جاء إلى بيت شريك أو بيت هانى‏ء بن عروة طلب شريك وهانى‏ء من مسلم أن يقتل عبيد اللَّه بن زياد في البيت، ومن ثم يتسلط على قصر الإمارة وينتهي كل شي‏ء، فإنّ عبيد اللَّه داهية ماكر وقتله من أحسن الأمور، لكنّ مسلماً توقّف عن قتله، وقال: ( المؤمن لا يغدر) ، فإني بلغني عن رسول اللَّه أنه قال (ص) ( الإيمان قيد الفتك) ([10][10])، فكيف يمكن أن نريد الوصول إلى الحق بمقدّمات غير سليمة؟ فهل يطلب العدل بالجور؟! كلاّ، فلا يجوز أن يتوصّل مسلم بن عقيل إلى تحقيق عدلٍ بقتل وغدر وجريمة، فالمقدّمات غير السليمة لا تكون موصلة إلى سلام وحق وعدل؛ لأنّ الإسلام دين سلام بكلّ أبعاده، إن شاءت الأمة الحق والسلام فيكون لها سبيل تحقيق لهذه المثل العليا، وإلاّ يدع الناس يتصارعون على الدنيا وإن اختلفت المسميات.
والحمد للَّه ربّ العالمين.




[1][1] ــ مناقب آل أبي طالب، ابن شهرآشوب 3 : 42 .
[2][2]ــ المحاسن، أحمد بن محمد البرقي 1 : 262 ، ح 327 .
[3][3] ــ تاريخ الأمم والملوك، ابن جرير الطبري 2 : 337 .
[4][4]ــ
[5][5] ــ الأمالي، الشيخ الصدوق: 318 ، المجلس الثالث والأربعون، ح 6 .
[6][6] ــ نهج البلاغة، شرح محمد عبده 4 : 16 ، كلمة رقم 73 .
[7][7] ــ نهج البلاغة، شرح محمد عبده 1 : 206 ، خطبة رقم 108 وهي من خطب الملاحم.
[8][8] ــ شرح نهج البلاغة، ابن أبي الحديد المعتزلي 13 : 279 .
[9][9] ــ تاريخ الأمم والملوك، ابن جرير الطبري 4 : 304 .
[10][10] ــ المعجم الكبير، الطبراني 19 : 319 .

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق