المحاضرة 3
كتبت من محاضرة صوتية ألقيت قبل سنين في سورية
نريد أن نرجع إلى سيرة الرسول
(ص) وأهل بيته الكرام؛ لننظر إليها من وراء زمن طويل اكتنفته الكثير من الظلمات
والتعتيم والتحريف، لنرى: هل استلمنا هذه السيرة اليوم سليمة، أو استلمناها تحت
ظلال السيوف؟
علي (ع) يبايعه الناس جهاراً
في المسجد النبوي من دون أي جبر ولا قهر لأحد على البيعة من بعدما عيّنه اللَّه
تعالى إماماً للمسلمين، فأرادها بيعة عامّة؛ ليربّي بها الأجيال، فيجب أن نراجع
أنفسنا: هل نحن سائرون على سيرتهم؟ فإن وجدنا أنفسنا نمشي على طريقهم فعلينا أن
نواصل السير والطريق، وإن كنّا قد خدعنا النفس فعلينا أن نعود تائبين إلى مسلكهم،
فإذا وردت علينا الأخبار فيجب أن نعرضها لنرى: هل هي موافقة مع نصّ القرآن الكريم
أم لا؟
أولاً: موروثنا الحضاري
نستلمه اليوم بعد مرور أكثر من 1400 سنة، كيف استلمناه؟ هل استلمناه سليماً، أو
استلمناه من وراء حجب السقيفة؟ فنحن نبتعد عنه أربعة عشر قرناً، ولا ننسى أنّ
للزمن تأثيره في اندراس الشرائع السماوية، وبيعة أخذت بالسيف عند هجوم القوم على
باب دار فاطمة، تلك الهجمة كانت على أقدس بيت، فيه قطبي رحى الإسلام، فيه قطب رحى
عالم التكوين بعد رسول اللَّه (ص) وهو علي (ع) الذي هو بنصّ الكتاب المجيد: نفس
الرسول (ص) ، فقد استلمنا حضارة من وراء ظلال سيوف السقيفة، ثم جاء هذا التراث
ليمرّ على حضارة أموية، وحضارة من بني العباس، فإن كانت الأمور في العهد السابق
مغطّاة بقدرٍ ما فقد تجلّت بكلّ أبعادها، الحضارة الجاهلية ببعدها الظاهري
والباطني، فحينما استلم بنو أمية الحكم انهارت كل القيم: ظاهرة وباطنة، فوقف
الحسين (ع) ليدافع عن دين جدّه الذي أعلن القوم انتهاءه بكلّ أبعاده، وما بقيت منه
إلاّ القشور.
ثانياً: نحن كشيعة لا نتردد
بأنه ما من خير إلاّ وعلي هو السبّاق إليه، أين كان هؤلاء الأبطال في الخندق؟ وأين
كانوا في بدرٍ وحنين؟ وأين كان هؤلاء الأسود
حينما كانت تدور رحى الحرب على عليّ (ع) في ميادين القتال في عهد رسول اللَّه (ص)
؟ ثم علينا أن ننظر إلى فتوحات جرت بعد رسول اللَّه باسم الفتح الإسلامي.
فيجب على المسلم اليوم أن
يرجع إلى ضميره وعقله، ويبتعد عن مفاخر لا قيمة لها ما لم تكن نصراً للقيم، وإلاّ
فقد جاء المغول والتتار، وجاء الكثير من الفاتحين على وجه الأرض، ففتحوا فتحاً
جغرافياً، وتسلّطوا على البلاد، وقتلوا الرجال، وسبوا النساء وجعلوهن جواري،
وزرعوا الأحقاد ليومنا هذا في قلوب البشريّة.
أهكذا جاء الرسول (ص) داعياً
إلى الحق تحت ظلال السيوف؟! ومن تردّد في ذلك فليرجع إلى تاريخ الإسلام ليرى: كيف
مشى على دماء ورقاب المجتمع بواسطة سيف اللَّه المسلول خالد بن الوليد وغيره من
الذين ينسبون أنفسهم إلى الإسلام.
لقد كان خالد بن الوليد يطوّق
البلدة ليلاً، ويدخلها صباحاً، يقتل رجالها قاطبة، ويسبي نساءها، وتقسّم النساء
على الذين سمّوا أنفسهم بالمسلمين، ويأخذ الأموال، وخوفاً من أن ينتقل الخبر إلى
القرية الثانية ينتقل في نفس اليوم إلى بلدة ثانية ويطوقها، ويفعل بها مثل ما فعل
بالقرية أو البلدة المتقدّمة.
هكذا جاؤوا بالشرع الإسلامي
المحمدي الذي يحمل الرحمة، ونشروه إلى الأمم زاعمين: أنّ هذه الجرائم المدفوعة
بروح الشهوات هي الطريقة لنشر الإسلام.
فلو تركوا علياً (ع) يغزوا
العالم بالحضارة الإسلامية وبالسلام الإسلامي والعلم والإيمان والمثل الرسالية
لفتح العالم بعليائه وسلامه، ولم يجعل السيف إلاّ أداة دفاع عن وجوه المسلمين،
وحفظا لبيضة الإسلام، لا غازياً
متعدّياً قاطعاً للرقاب. لكنهم تركوا علياً (ع) وراحوا باسم الدين بروح النهمة
للفتوحات والسلطان؛ ليجزروا البشرية جزراً.
فنحن اليوم نستلم حضارة
إسلامية غرقت في بحورٍ من الدماء، واستلمناها اليوم باسم الحضارة الإسلامية.
ثالثاً: لا ننسى أنّا نستلم
رسالة من وراء اجتهاد المجتهدين، ونريد أن نطالع صفحاتها من خلال اجتهاد
المجتهدين، فمن هم هؤلاء المجتهدون؟ هل اجتهدوا بحرية من الرأي، أو اجتهدوا في
قصور السلاطين ليوجّهوا أعمال الجبارين؟
فعلينا أن ندرس دراسة سليمة
صحيحة لما وصل إلينا من اجتهادات، ولِمَ قيّد
الاجتهاد برجال معـيّنين ومنع الآخرون
من الاجتهاد؟ ومن أين أخذنا الروايات؟
فإنسان يضربه الخليفة الثاني
بتهمة الكذب والسرقة كأبي هريرة يكون راوية الإسلام، وآخر يأتي إلى الحجّاج الثقفي
ليبايعه في ليلة ظلماء، فقال: أخبروه أن يأتي في المسجد غداً ليبايع مع الناس
عامّة، فقال: إنّي أخاف أن أبيت هذه الليلة وليس في عنقي بيعة لخليفة المسلمين
وأمير المؤمنين، فقال الحجاج: فليدخل عليّ، فجاء عبد اللَّه بن عمر ليبايع لبني
أمية في تلك الليلة الظلماء، فلما دخل جاء ليمدّ يده إلى الحجاج، قال لـه: إنّي
محموم أحسّ بالبرد، فهذه رجلي، مدّ يدك فبايعها، فبايع رِجْلَ الحجاج ليلاً؛ خوفاً
من أن يُصبح ولا بيعة لأحد في عنقه؛ احتياطاً وزهداً، وما بايع علياً (ع)، الذي
بايعه كافّة المسلمين بيعة عامة في المسجد النبوي!
فخاطبه الحجّاج قائلاً:
تردّدت في بيعة علي (ع) في مسجد رسول اللَّه مع حشد المسلمين، ولم تتردّد في بيعتي
في ليلة ظلماء لبني أمية!([1][1])
أجل، إنّ الحجاج شيطان ماكر،
لكن يعرف المكرة أيضاً، فهذا هو العَمَد الثاني الذي شكّل الأخبار الإسلامية، وأحد
أقطاب الرواة في صحيح البخاري ومسلم.
وثالثة القوم مَن نبحتها كلاب
الحوأب، وقد قال الرسول (ص) لنسائه: ( ليت شعري أيتكنّ صاحبة الجمل الأدبب، التي
تنبحها كلاب الحوأب، فيُقتل عن يمينها وعن يسارها قتلى كثيرة) ([2][2])، فهكذا موروث حضاري إسلامي
نستلمه من بعد اجتهادات في قصور السلاطين، وأخبار لمثل هؤلاء الذين لو ابتعدت
الأمة عن عصبيّاتها وحضارتها لرأت واقع الأمر جلياً.
ولا ننسى أمراً، وهو: أنّ
الاجتهاد لا يعقل بحكم العقل أن يتوقف، فعلى الأمة أن تفتح باب الاجتهاد، ولعلّها
اليوم ترى أمراً ما كان متّضحاً تحت ظلال حكومة بني أمية وبني العباس ومن تقدمهما.
رابعاً: نستلم حضارة أرّخها
المؤرخون، فمن هم هؤلاء المؤرّخون؟ كتابتهم تكفي لخيانتهم، فلا نحتاج أن نقول: إنّ
هؤلاء أخذوا أموالاً طائلة من الحكّام.
ماذا يكتب التاريخ؟ متى بايع
المسلمون الخليفة؟ ومن عينه من بعده؟ وكم حكم من بعده؟ وكم سنة وفي أيّ سنة حارب
الخليفة الرومان أو الفرس؟ أيّ شاعر مدح هذا
الخليفة؟ وكم أعطاه من هدايا حينما مدحه؟ وكم كان لـه من الجواري؟ وأيّ وفد قابله
الخليفة في قصوره؟ فأيّ واحدة من هذه مرتبطة بالحضارة الإسلامية؟
لمَ لَمْ يتحدث التاريخ عن
المظلومين والمضطهدين وحياة الأمة الإسلامية التي راحت ونهبت وانتهت؟ فأين ذهب
المسلمون؟ وأين ذهب الإسلام بحضارته؟ ولِمَ نجعل قصور الرشيد مفخرة نفتخر بها
كحضارة ولم نجعلها مثالاً للدماء التي سفكت والأموال التي نهبت لتبنى بها هذه
القصور؟ ونسمّي هذا كلّه بالعصر الذهبي، هكذا نرث موروثنا التاريخي!
وأمّا شعراؤنا فالنظر إلى
الشاعر الذي نريد أن نفخر به كالفرزدق مثلاً، فسنراه يكتب قصيدة واحدة يوماً من
الأيام في مدح الإمام السجاد (ع)، ونراه يكتب جزءين وكتابين في مدح بني أمية حتى
يقبلوا توبته؛ لأنه اندفع يوماً من الأيام بضمير حيّ فراح ليتدارك هذا الاندفاع.
فما هو حال شعراء البلاط
الأموي والعباسي والعثماني والأنظمة الأخرى؟ فإذا كان هذا حال الشاعر الممدوح، فما
هو حال الشعراء المتزلّفين المتملّقين، بائعي الوجدان والضمير والشريعة، وكلّ
شيء؟
خامساً: نحن اليوم نرث
موروثاً مرت عليه هجمة المغول والتاتار، ومرت عليه هجمات صليبية وغيرها، ونحن نأخذ
حضارتنا من وراء هذه العقود من الزمن، ومرت هجمة شيوعية على المجتمع، وأخذت مأخذها
من المجتمع، واليوم نمرّ بعاصفة علمانية باسم العدالة الإسلامية، فنحن نستلم
حضارتنا من وراء هذه التيارات كلّها، فعلينا أن نتثبت في نظرتنا إلى ديننا وواقعنا
حتى نراه كما هو، لا من وراء التاتار والمغول، ولا من وراء حضارة عربية، أو
فارسية، أو تركية.
كيف نتمكن أن ننظر إلى
الإسلام بعيداً عن قيود الزمان والمكان، والاجتهادات التي تقيّد بها حضارات الأمم؟
فعلينا أن نتريث ونتثبت حتى نرى حضارة الإسلام الحقيقية، لا من وراء حضارة فارسية،
أو هندية، أو جاهلية، أو قبلية عربية، أو ... .
سادساً: أصيبت الأمة بجمود
وجفاف لا مثيل لـه، فدخل على الإسلام مُظهِراً نفسه بمظاهر الزهد والتقوى، كقول
الخوارج: ( لا حكم إلاّ للَّه) ، فينطق الواحد منهم ولا يعرف ماذا يريد، فكان
مرادهم أنّ الرجال لا يحكّمون.
وقد يتساءل الإنسان، ويتوجّه
بالسؤال إلى رجال الخوارج الذين دعوا إلى الإسلام: إن كان لا حكم إلاّ للَّه،
فأنتم حينما قمتم ودعوتم الناس إلى الإسلام هل حكّمتم عقولكم للشريعة، أو ما الذي
حكّمتم؟ فيقيناً حكّموا نظرياتهم، وجاؤوا ليبرزوا أنفسهم كرؤساء وولاة على المجتمع
بدوافع الكبر والغرور الباطني؛ لأنهم حفظوا القرآن، فظنوا أنفسهم إلى معارفه باتوا
يتطلعون.
فإذن: الأمة أصيبت بجمود كما
أصيبت بتطرّف من قبل الكثير من الماكرين الذين جاؤوا لمصالحهم الشخصية، ومرّت على
مسألة الخوارج قرون، وإذا بنا اليوم نشاهد قوماً آخرين، يرون الإسلام حكراً على
عقولهم، فيكفّرون الآخرين وجميع الطوائف والفرق الإسلامية، ولا يرون مسلماً على
وجه الأرض إلاّ أنفسهم، فهم لا يعرفون من الشريعة موضع قدمين، لكنهم قد شحنوا
بالأحقاد على المسلمين، فكفّروا المسلمين، واعتقدوا أنّ دماءهم وأعراضهم مباحة
لهم، فما كان ليدفعهم إلى هذا الجزم وإلغاء الآخرين بل وقتلهم والعدوان عليهم غير
عبادة الشيطان؛ حيث مثّلوه بروح الكبر والعجب النفسي. فتطرّف نعيشه اليوم بعناوين
متعدّدة وهو الجمود الذي أصيبت به الكثير من الطوائف.
لقد تبدّلت الأسماء والعناوين،
لكن لم تتبدّل حقائق الأمور، فالخوارج
مثلا يرون من حقّهم أن يقتلوا امرأة حبلى؛ لأن زوجها ما
قبل أن يقول بأنه يتبرّأ من علي (ع) .
ولنا أشباه لأمثال هؤلاء في
هذا الزمان، يمثلون الخوارج بكلّ تطرفهم، فإطالة لحية، وتقصير ثياب، وامتلاء
بأحقاد، وجعل عود الأراك في الفم في الشارع، ثم إعادته إلى الفم مرة ثانية، فقابل
هذا الجمود أناس آخرون رأوا أنفسهم مثقّفين، فهؤلاء راحوا ليصابوا
بالتحلل للشريعة بكل أبعادها بعنوان الثقافة والحضارة والتجدد ومواكبة العصر،
وفَهْم على صعيد غربي.
أجل، تطرّف يسوق إلى تطرّفٍ
آخر، أضف إلى ذلك الكثير من الخرافات التي دخلت إلى الشريعة، فكم من خرافة دخلت
وظنّها المسلم إسلاماً وحقيقة.
والحمد للَّه ربّ العالمين.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق