كتبت من محاضرة صوتية ألقاها الشيخ في سورية قبل سنوات
تقدّم الكلام عما يعاني
المسلمون من أزمنة يمرّون بها في مثل هذا العصر.
فالكتّاب وعلماء
المسلمين حاول كلّ واحدٍ أن يعلّل الأزمة والمشكلة التي يعيشها المسلمون بجانبٍ من
الجوانب، وأكثرهم على أنّ الأزمة التي ساقت المسلمين إلى ما ساقتهم إليه اليوم من
التمزّق والتشتّت والاضطهاد وجعلتهم كفريسة يتكالب عليها العالم من كل الجوانب.
فحاول بعض الكتّاب أن
ينسب المشكلة إلى سوء المعرفة لحقائق الشرع القويم، فقالوا: المشكلة تكمن في
المعرفة، فلو أنّ المسلمين تدرّعوا وجاهدوا وبذلوا مساعيهم لأجل معرفة الإسلام لما
ابتليت الأمة بما ابتليت به اليوم.
لكن كلّ مشكلة تطرأ على
أمّة وتصاب بها أمة لا يمكن أن تنسب إلى سبب وعلة واحدة ما لم تتشابك العلل
والأسباب جميعاً لتشكّل حقيقة واحدة، وسببية واحدة، فليس من المعقول أن تكون
المشكلة واحدة ونحمل جميع مآسينا ومشاكلنا على تلك النقطة الواحدة، فالقرآن في
كثير من موارده يصرّح بأنّ مشكلة رسول الله (ص) إن كانت مع قريش لجهلهم وعدم
حضارتهم وعدم معرفتهم، فإنها ما كانت مشكلة الرسول (ص) مع كثير من اليهود والنصارى
وعلمائهم مشكلة معرفة وجهل، والقرآن صريح على أنّ ما جاء به الرسول (ص) كان
مسطوراً موجوداً في كتبهم يفهمونه ويعرفونه حق المعرفة، فإن فرضنا مشكلة جهلٍ وعلم
بين الرسول (ص) وبين مشركي قريش، أو مع بعض الجهال على وجه الأرض، لكنها ما كانت
مشكلة في كثير من المواطن مع اليهود والنصارى، حيث كانوا يفهمون الكثير من حقائق
الإسلام؛ لأنها وموجودة في كتبهم.
ثم نتساءل مرّة ثانية
ونقول: هل يمكن أن تكون المشكلة هي مشكلة معرفة وجهل، أو أنّ هناك من الأمور ما لم
تصب بأيّ جهة ولا بأي خدشة على طول التأريخ؟
فمثلاً : صرنا في زمن
يتكلّم المسلم منّا صراحة من القول قائلاً : أموعدك موعد شرقي إسلامي، أم هو غربي؟
فالمؤمنون عند مواعيدهم
وعند مواثيقهم وعهودهم، فلِمَ تصل الحالة بالمسلم إلى مرحلة إن وجده موعداً غربياً
عرف أنه التزام، وإن وجده موعداً شرقياً إسلامياً عرف على أنّه لا مانع من أن يكون
الموعد صباحاً فيأتي عصراً.
ويدخل الإنسان إلى
أسواق المسلمين: مسلمٌ مع مسلم، يستغلّه أخوه المسلم؛ لأنه غريب لا يعرف الأسعار
في البلاد، وهذا ما شاهدناه وشاهدتموه في كثير من البلدان الإسلامية، ولا أريد أن
أعرّج إلى بلدة معينة إسلامية؛ لأنه أمر قد ابتلي به كلّ جالس، وتذهب إلى سوق في
الغرب وتشتري السلعة مطمئناً أنه لا يغشّك ولا يخدعك؛ لأنك غريب، فهل مسألة الغش
واستغلال الآخرين ــ لعدم معرفة الأسعار أو ما شاكلها ــ من الأمور الإسلامية التي
ضربها الزمن فأصبحت غير مفهومة وأصبح المسلم يعاني منها معاناة معرفية؟ كلاّ، لأنّ
الصدق صدقٌ، والكذب كذبٌ، فالصدق حسنٌ بفطرة الإنسان منذ خلق الله آدم (ع) ،
والكذب قبيح، والعدل حسنٌ، والظلم قبيح، فهذه أمور ما طرأت عليها أزمات الزمن لتتبدّل
وتتغيّر، فتكون المشكلة والأزمة أزمة معرفية في المقام، وكم من ضرورة من ضرورات
الدين لم تصب بمشكلة الزمن ولا المكان ولا بأي مشكلة أخرى نعرفها عين اليقين،
لكنّا نغضّ الطرف عنها، ولا نعتني بها.
فقول القائل: إنّ مشكلة
المسلمين مشكلة معرفة هي جزء العلة وليست تمام العلة، فمن أراد أن يبحث عمّا وصلنا
إليه من الانحطاط والدمار لابد وأن يبحث عن أسبابٍ كثيرة كثيرة جداً، ويبدؤها
بنفسه قبل أن يبدأها من الآخرين، وقبل أن يطلبها من الآخرين، فلا عتب لنا على
غازٍ، ولا على محتلّ، ولا على طامع، ولا معنى للعتب في مثل هذه المواطن؛ لأنّ
العاقل لا يعتب على عدوّه، ولا يعتب على طامع وسارق، وإنّما العتب على الأخ
والصديق ومن هو من أبناء نحلتك.
ثم نعود مرّة ثانية
لنقول: قول القائل: إنّ العلة فقط وفقط في أزمة معرفية، فحينما ابتعد المسلمون عن
معارف دينهم أصيبوا بما أصيبوا به اليوم، فالأزمة ليست فقط أزمة معرفية، فرسول
الله (ص) بعدُ مسجّى والخلاف في السقيفة، فما بَعُد التاريخ، وما تطاول الزمن، وما
حجب المسلمون حجب الأيام، والقوم يقولون: من ينازعنا سلطان محمّد (ص) !
فنبوة بعظيم مقامها
تصاغرت وتنازلت وتنازلت وتنازلت حتى صارت سلطاناً لرئيس قبيلة قريش بعدما كان
محمّد (ص) ( رحمة للعالمين) .
فالأزمة لم تكن في
مسألة المعرفة؛ لأنّ المعرفة لها مكانها وقيمها، والعارف غير الجاهل، هذا مما لا
ريب ولا شكّ فيه، لكنّ العلة ليست فقط علة معرفية، بل الأسباب متعدّدة.
لمّا خرج رسول الله (ص)
لغزوة وعاد، سمع بمسجدٍ بناه بعض من يدّعي الإسلام، فقال: إنّه مسجد ضرار، هو
مسجدٌ أسس ليشقّ عصا المسلمين، فمسجدٌ بأمْر رسول الله (ص) يُهدم ويحرق ويسمّى
بمسجد ضرار؛ لأنه في مقابل مسجدٍ نبوي أسس على التقوى؛ حيث أراد بعض المسلمين تحت
ستار حقّ يراد به باطل، وتحت ستار العناوين وكلمة حق يراد بها باطل، أرادوا أن
يبنوا مسجداً، فما جاؤوا ليبنوا حانوتاً لشرب الخمور، وما جاؤوا لينكروا بعد
إسلامهم توحيداً أو نبوة، بل جاؤوا بمظاهر العدل والسلام، جاؤوا ببناء المساجد،
وإذا بمنظار رسول الله(ص) يجد المسجد مسجد نفاقٍ وتمزيق لصفوف المسلمين، ويأمر
بهدمه، وأظنّ أنّ المطلب أصبح متجلياً واضحاً.
لقد كثرت مساجدنا
وحسينياتنا، وأخذت تزداد يوماً بعد يوم ليجتمع في كل مجلس أربعة أو خمسة بعيدين عن
مأساة مجتمعهم، بعيدين عمّا يعاني المجتمع المسلم من العناء والمشاكل، فيزدادون
بكثرة مساجدهم وحسينياتهم عداءً وتمزّقاً وكثرة عناوين، ونحن مسرورون بأنّ البلاد
ــ بحمد الله ــ في كل شارع من شوارعها وزقاق من أزقّتها المسجد والمسجدان
والثلاثة وهلم جرّا، فتعدّد المساجد والحسينيات كثرة أبنية، مع قلوب متخالفة، مع
قلوب متباعدة، لا يمكن أن يكون فضلاً، ولا يمكن أن يكون دعوة إلى حق، ولا أريد أن
أشير إلى موطنٍ من المواطن؛ لأنّه ملموس لكلّ أحد.
لقد أصبحت الشوارع
تمزّق صفوفنا فضلاً عن المدن: قطيفي في مقابل أحسائي، وحجازي أو سعودي في مقابل
كويتي أو عراقي، وعربي في مقابل أعجمي، بدلاً من أن تكون هذه سبباً لتعارف
المسلمين بعضهم على بعض، على آدابهم ومعاشراتهم وحضاراتهم وما فهموا من الإسلام
حتى يستفيد كل مسلم من فهم أخيه المسلم الآخر، وإن كنتُ أهلاً يستفيدوا منّي قدراً
لنتعارف، فصارت المساجد سبباً للاختلاف بدلاً من الائتلاف، وهذه حال مجتمعاتنا،
ونحاول إن شاء الله في كل محاضرة أن نشير إلى مشكلة من مشاكل مجتمعنا، وما هو الحق
الذي ينبغي أن يكون.
قال علي (ع) في وصف
رسول الله (ص) : ( طبيب دوّار بطبّه) ([1][1]) هذه سيرة رسول الله
(ص) التي جعلها الله أسوة للمؤمنين، فهو بنفسه ينتقل من مكان إلى مكان، ومن قرية
إلى قرية، ويزور أعداءه، ويصنع من أعدائه مسلمين مخلصين، فغزا القلوب بعظيم
الأخلاق فامتلكها قبل أن يمتلك العقول بالدليل والبرهان، فانهارت البيوت من داخلها
بشبابها ونسائها وعبيدها، وما بقي يخالفه واقعاً إلاّ المعاند من كبار طواغيت
قريش، وأصبحت البيوت هشّة وضعيفة حينما غزاها رسول الله (ص) بالخُلق الرفيع، ثم
جاء ليتلو عليهم الآيات والأدلة والبراهين.
فهل نحن اليوم بعلمائنا
وخطبائنا وفضلائنا ننتقل من قرية إلى قرية ومن مكان إلى مكان؟ وهل يعيش أكابر
العلم أبوّة مع المجتمع، أو أنّ المجتمع منعزل عن قادته العلماء الروحانيين؟ فهل
نجد أكابر العلماء في قرى البصرة والناصرية والديوانية وفي مدن الحجاز ولبنان
والبحرين وبقية المناطق ينتشرون على اختلاف العلماء ومراتبهم في العلم حتى نرى
سيرة رسول الله (ص) متجلّية؟ وقد وردت الأحاديث عن الإمام الصادق (ع) أنّه بعث أحد
تلاميذه إلى بعض القرى في الحجاز والعراق قائلاً لـه: أخبرهم بقدومي عليهم في
الأشهر القادمة، فيقول ذلك الصحابي محدّثاً الإمام الصادق(ع) : لمّا وصلت إلى تلك
القرى فوجدتها حباً خالياً من كل معرفة، ومن كل عمل، لا يفهمون من الشرع إلاّ
محبّة لرسول الله (ص) وآله الكرام. فكلابهم معهم لا يميزون بين طهارة ونجاسة، ولا
يعرفون ضروريات الدين من أحكامهم، فبقيت عندهم وأنا أصارع النفس أأخبرهم بقدوم
جعفر بن محمّد (ع) وبما أمرني به أو أرجع إليه؟ فصمّم بعد أيام أن يعود بلا إخبار
مبرراً فكرته بأنّ هؤلاء الجهّال لا يتناسبون مع الإمام الصادق (ع) وأين هو من
مكانه الرفيع من مثل هذه القرى بجهلها، فعاد إلى الإمام (ع) فسأله (ع) : أأخبرت
القوم؟ قال: كلاّ يابن رسول الله، قال: ولمَ؟ قال: يابن رسول الله، وجدتهم جهّالاً
لا يحملون من الإسلام إلاّ شعاراً، بعيدين عن المعارف والمعتقدات، وبعيدين عن
العمل أيضاً، فلا يحسنون صلاة، ولا طهارة، فما وجدتك بما لك من المكان الرفيع أن
تذهب إليهم؛ لأنهم لا يستحقّون مثلك، فغضب الإمام (ع) ، وقال لـه: عد إلى القوم
وأخبرهم بقدومي عليهم، وأخذ الإمام (ع) ينتقل في القرى والأرياف من مكان إلى مكان،
ثم سأل صاحبه بعدما مرّ أكثر من عشر سنوات: كيف تجد القوم اليوم؟ قال: سيدي أجدهم
اليوم عرفاء، علماء، قال: كيف حكمت على القوم ــ إذن ــ وقد عاشرتني وعاشرت أبي من
قبل أكثر من أربعين سنة، أتريد أن يكون هؤلاء كأنت بعد أربعين سنة؟
فالمشكلة لا تكمن في
جانب دون جانب، وإنّما المشكلة تكمن في جوانب عدّة، ولابدّ أن يكون الإصلاح في
جميع الجوانب حتى يكون إصلاحاً حقيقياً، وقد قال رسول الله (ص) : ( كما تكونوا
يولّى عليكم) ([2][2]) .
لقد اعتاد المجتمع أن
يلقي باللائمة على الزعماء والحكام ناسياً أنّ القاعدة هي العكس، )كما تكونوا يولّى
عليكم) .
فالحضارة حضارة واحدة
بين الحاكم والمحكوم، ولا يمكن أن تكون هناك اثنينية بين حاكم ومحكوم، فلا تظن أنّ
الله تعالى يوم القيامة سيسأل حكام المسلمين طيلة أربعة عشر قرناً: لماذا استبدّوا
في رقاب المسلمين وتركوا العقول جامدة؟ فكما يسألون سنسأل؛ لأنّ الرسول (ص) يقول:
( كما تكونوا يولّى عليكم) ، فكل حاكم لم تتناسب روحيته مع مجتمعه وغالبية المجتمع
لا يمكن أن يبقى يومين من الزمن، فهناك تناسق وتناسب دائماً طيلة التاريخ البشري
المشار إليه بقول رسول الله (ص) ، وكما قلنا: إنّ هناك تناسباً في العقلية والفهم
بين الحاكم والمحكوم دائماً.
ومن جملة ما يعاني منه
المسلم أنّه نسي ما أمر به، كما أشرنا إلى ذلك في بعض الكلمات المتقدمة، وهو (
اعرفوا الحق تعرفوا أهله) ، و ( إنّ الحق لا يعرف بالرجال) فإن كانت هناك أوامر
صدرت في تقليد فهي في مواطن الأحكام فقط؛ لأنها تحتاج إلى أهل الخبرة في المقام،
أما في الأمور العقلية والعقائدية وفي فهم القرآن وأبعاده وفي فهم وتشخيص
الموضوعات وفي كثير من الأمور الأخرى فقد أحالها الشارع المقدّس إلى كلّ فرد بما
لـه من الخبرة.
فعليك أن تعرف كتاب
الله، وسنّة رسول الله (ص) وسيرة المعصومين، فما أحيلت هذه الأمور إلى شخص آخر،
وإن كانت هناك إحالة فقد أحيل الحكم؛ لأنه يحتاج إلى معرفة قواعد معينة في الحديث
وقواعد الأصول الموصلة إلى الحكم الشرعي، أما غير ذلك فهي وظيفة كل إنسان أن يبذل
قصارى جهده ليتوصل إلى مثل هذه الأمور، وقد أشرنا إلى أنّ كل أمر يقع فيه التقابل
يساق إلى التطرّف، فالتقابل لا يجعل الطرفين يبحثان عن الصراط المستقيم ومنهج
العدل، بل يحاول كل واحد أن يهاجم الطرف الآخر مهاجمة شديدة حتى يكون على طرف آخر.
لقد أمرنا أن لا نقتدي
إلاّ بالعدول، وكانت العدالة مشاراً إليها بإماراتها المعينة، بأن يكون الإنسان
على سمته الديني: مصلياً صائماً ملتزماً بلوازم الشرع، وفي المقابل أجاز الآخرون
الاقتداء بأيّ إنسان من دون أي شرط من الشروط، وبدون أيّ معرفة لسابقة أو لاحقة
لـه، فدفعنا تهاون قومٍ إلى أن نبحث عن أبي ذر وسلمان لكي نصلّي وراءهم، وهذا
مستحيل، فأصبحت المساجد متروكة تحت حجّة أنّي لا أثق بدين فلان، ولا أعرف دين
فلان. لا أقول: إنّ التهاون من سبل الشرع، لكن لا يجوز التعمّق إلى مرتبة التجسّس
على بواطن الناس، ولا يجوز التشكيك والتردد حتى يصبح الإنسان باعتقاده أنه مؤمن
يريد أبا ذر حتى يصلي وراءه، فبهذا هجرت المساجد، وامتلأت مساجد قوم آخرين حتى ظنّ
الكثير من الناس أنّ الشيعة قلّة في كثير من المواطن لما وجد فراغاً في مساجدهم،
متمزّقين يفسّق بعضهم بعضاً.
لقد بني الإسلام على
ضرورات واضحة، فالتوحيد من ضرورة الدين، والنبوة من ضرورة الدين، والإمامة من
ضرورة المذهب، وهكذا الكثير من الأمور، كالصلاة واجبة، والخمر محرّم، فهناك أمور
تعتبر ضرورة من ضروريات الدين لم يقع فيها نزاع، لا في موطن العقيدة، ولا الحكم،
بل أقول أكثر من ذلك باتفاق المسلمين قاطبة بلا استثناء يرونه حديثاً متّفقاً عليه
لم ينازع فيه أحد من المسلمين: ( من مات ولم يعرف إمام زمانه مات ميتة جاهلية) ([3][3]) وهو حديث متّفق عليه بين
العامة والخاصّة، لم ينازع فيه اثنان، فنحن لم نختلف مع بقية المذاهب الإسلامية في
أصل الإمامة، وإنما اختلفنا في تشخيص مصاديقها: مَن هو الإمام؟ أيستحق أن يكون
الإمام الحسين بن علي (ع) أو يزيد بن معاوية؟ هاهنا موطن الخلاف بيننا وبين القوم:
أنّ الإمام هو علي (ع) أو معاوية! فخلافنا مع القوم ليس في أصل الإمامة بعد قولهم
واتفاقهم أنّه ( من مات ولم يعرف إمام زمانه مات ميتة جاهلية) .
فإذن: هناك ضرورات في
العقيدة ربماكانت إسلامية أو مذهبية على اختلاف مذاهب المسلمين في جانب العقيدة
والفروع والأحكام، وهذه الأمور عليها قوام الدين، وهي المقسم المشترك بين
المسلمين، لكنّا نجد مع كل الأسف أنّ زيداً لا يدخل على عمرو لاختلاف في مرجعية لا
لاختلاف في ضرورة من ضروريات الدين، ولا لاختلاف في مذهب، فنسينا أو تناسينا أنّ
الأمور وراء الضرورات هي اجتهادات وآراء وشورى وعقل، وقد يختلف الناس في البيت
الواحد في كثير من الأمور حتى في ترتيب سلع البيت ووصفها وجعلها، وربما يختلف
الزوج مع زوجته والابن مع أبيه، فاختلاف الآراء بما يمكن أن يكون اختلافاً يسوق
المجتمع إلى اختيار الأحسن، وإلى الحركة نحو التعقل والوصول إلى المراحل الأجود،
فهي حركة نحو الأحسن، لكنّا جعلنا ما هو محلّ الآراء والاختلافات الشخصية سبباً
لتمزق صفوفنا، فراح المجتمع يتباعد يوماً بعد يوم فيما ليس من ضرورة المذهب
والدين، ففي آراء مختلفة ربما كانت اجتهاداً، وربما كانت رأياً.
فكيف نأمل من دعاة
التكفير الذين مزّقوا هذه الأمة أكثر من أربعة عشر قرناً وما زالوا يكفّرون ( ومن
كفّر مسلماً فقد كفر) ؟!
كيف نستغرب من هؤلاء
المكفّرين المتعجرفين الجامدين غير المتنوّرين، الذين لا يعرفون الإسلام إلاّ
حقداً على المجتمع، وكأنهم ما عرفوا من الشريعة إلاّ غلاًّ وحقداً وعدواناً؟!
وكيف نستغرب من هؤلاء
أنهم لِمَ يكفّرون؟ ولمَ يمزّقون الأمة الإسلامية؟ وقد قبل رسول الله (ص) ولم
ينقّب على قلب أبي سفيان الكافر حينما جاءه ليتشهّد الشهادتين حتى وصل إلى قوله:
وأشهد أنّ محمداً رسول الله، وفي القلب شك، قال لـه العباس: ويحك قلها، فقالها وهو
متردّد، فقبل رسول الله (ص) إسلام أبي سفيان، ولم يطالبه ببواطنه وأعماقه، وأوكل
أمره إلى ربّه مادام يتظاهر بالإسلام، وهؤلاء راحوا ليكونوا أكثر غيرة على دين
الله من الله سبحانه وتعالى ومن محمّد (ص) ، فهذا من العجب العجاب؛ حيث يكون دعاة
التكفير أغير من الله على دينه ومن رسول الله (ص) على دينه، فرسول الله يقبل إسلام
أبي سفيان الذي قاتل حتى كلّت سواعده وجاء مستسلماً لا مسلماً، وهؤلاء ينقّبون عن
قلوب الناس، ويتعجبون من أناس يوالون أهل بيت رسول الله (ص) ، فلا عتب لنا على
أمثال هؤلاء المتحجّرين، وإنما نعاتب الأخوة الذين هم من مذهب ونحلة واحدة لِمَ
تمزقهم الشوارع بعناوينها؟ ولِمَ تمزقهم المدن بعناوينها؟ ولِمَ تمزقهم أمور لا
تمس بعقيدة وليست من ضروريات الدين، لا معتقداً ولا عملاً ؟ بل آراء من أجل أن
تتفتح العقول، ومن أجل أن تتحرك الناس نحو الأحسن، وقد فتح باب الاجتهاد.
فالفقيه يجتهد في الأحكام،
والعارف يجتهد في تشخيص الموضوع، والمجتمع يجتهد في شوراهم وما يرجع إلى أمورهم،
فهذه اجتهادات فتح الله أبوابها، فلمَ يكون المجتمع بهذه المرحلة متمزقاً
متباعداً؟
وإن شاء الله سنتكلّم
أكثر فأكثر عمّا صار سبباً لتمزيق صفوف المسلمين.
والحمد لله ربّ العالمين
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق