السائل : عارف
السؤال :
سلام عليكم شيخنا الجليل
أسعد الله أوقاتكم بكل خير, يُروى ان
جبرائيل عليه السلام أتى آدم عليه السلام فقال له إني أتيتك بثلاث اختر واحدة منها
فقال و ما هي؟ فقال الحياء و العقل و الدين فقال آدم عليه السلام اخترت العقل فخرج
جبرائيل الى الحياء و الدين فقال إرجعا فقد اختار العقل عليكما فقالا إنا أمرنا ان
نكون مع العقل حيث كان.
شيخنا الكريم نرجوا من سماحتكم
التنويه حول هذه الرواية في ظل محاضرة حين تحين الفرصة و يسمح لكم الوقت و ايضا
حول كيفية كون الإنسان عالما و فيلسوفا و جاهلا في نفس الوقت , لكم جزيل الشكر و
وفقكم الله تعالى لبيان الحق و حفظكم بعينه التي لا تنام خادكم عارف.
الجواب :
أما بالنسبة الى الحديث الذي سألتم
عنه فإنه عين الصواب والحق بلا شك ولا ريب ولذا ورد عن الإمام علي عليه السلام :
(العقل ما عبد به الرحمن و اكتسب به الجنان) و قد انيط التكليف بالعقل و سوف يكون
الحساب على قدر العقل يوم الجزاء ولا قيمة لعمل مهما كثر ان كان صادرا ممن لا عقل
له او كان عقله محجوبا عن شهود الحقائق للشهوات او لقصور الغايات الدنيوية الفانية
كأكثر ابناء الدنيا فإنهم و ان كان قد منحهم الله تعالى عقلا لكنهم بتبع الهوى و
قيم الجاهلية تقليدا للغير مصداقا لقول الله تعالى : (وجدنا آبائنا على ملة ) او
لتربية و حضارة و شهود الحق في منازل الأكثرية او غير ذلك أبوا إلا ان يعيشوا قيود
ذل خدشت فطرة و حجبت عقلا و العاقل لا يبيع العلم بالجهل ولا دار الخُلد بدار
الفناء و الزوال التي جعلت الأمم الماضية بقرونها شبح خيال قد يمر على مرابع
الأذهان و الخواطر ثم يُلقى في غياهب النسيان و آثارهم الباقية بعد أن كانت قصورا
زاهية قد أصبحت لا يستوحش من السمر في لياليها إلا الخفافيش و الديدان.
و أما بالنسبة الى سؤالكم الثاني و هو
أنه كيف يصبح الانسان عالما و فيلسوفا و في نفس الأمر جاهلا؟
فإعلم ان هناك ممن ينتسب الى العلم و
مثله كمثل آلة تضبط الأصوات و كالحافظة التي تحفظ الشيء فهو لايعدو كونه مستودعا
للكلمات و المصطلحات و كاد ان يكون قاموسا لم يعش فهما و انما أراد ما سعى إليه
للمباهات و الفخر لم يتوغل فيما هو المراد من المعاني فضلا عن كونه من دواعي صنع
انسان ذي عقل يعيش فطرة و لتقريب الذهن الى المراد أضرب مثالا بالصلاة التي يصليها
على وجه الأرض في كل يوم الملايين من البشر و قد وردت الأحاديث محددة لأثرها من
أنها عمود للدين و معراج للمؤمن و قربان لكل تقي و أنها اذا قُبلت قُبل ما سوى و
اذا رُدت رُد ما سواها و الى غير ذلك مما جاء في بيان ماهيتها كتعريف لواقعها و ما
جاء من بيان لأثرها على النفوس حيث الخشية لله رب العالمين في حين إنا نرى لا أثر
على ارض الواقع لهذه الصلاة في نفوس المسلمين بل ولا في نفوس غيرهم من يهود و
نصارى بما لهم من صلواة و دعاء و قُدّاس في حين انه من المعلوم ان لكل شيء أثرا
فالنار محرقة و الماء يرفع العطش و يحيي الثمار و ينظف الأجسام و بهذا نتوصل الى
ان ما يقوم به البشر من صلواة هي ليست بواقع صلاة لعدم تحقق آثارها فإذن هي ليست الا
كعادات او لقلقة لسان او سعيا لإسقاط تكليف فرارا من تأنيب الضمير من أنه كيف يكون
الانسان مؤمنا وهو لا يصلي فهي ليست صلة بين العبد و ربه و إلا لصنعت الانسانية و
نحن نبحث في كل الأرض عن عدد مرت القرون لم يتحقق مجتمعا في زمان واحد وهو عدد 313
الذين هم القادة الى تحقيق الحق و الى بعض آلاف آخرين يكونون جندا لحمل هذه
الرايات لتحقيق العدل الإلهي.
فإذن نعرف بعد هذه المقدمة ان الكثير
من الفلاسفة و الفقهاء و العلماء ليسوا الا مستودعا او كآلة ضبط ككون الدُكان يكون
مستودعا للبضاعة و المواد الغذائية وعليه فمثل هؤلاء العلماء لا يعدوا كونهم جهالا
بحقائق الأمور كما أشار الى ذلك الله تعالى بالنسبة الى بعض اليهود قائلا
:(مثل الذين حملوا التوراة ثم لم يحملوها كمثل الحمار يحمل آسفارا) مع كونهم
قد قرؤوا التوراة و ربما كانوا لها حافظين كما هو حال خوارج النهروان حفظة القرآن
و ممن هم على شاكلتهم في زماننا هذا ممن لا يحكمون من كتاب الله آيتين و قد كانت
الرحمة الإلهية التي بعث الله تعالى محمدا (ص) بها رحمة للعالمين في حين أن هؤلاء
لم يتحقق في قلوبهم سوى الأحقاد لواقع الكبر للجهل المركب.
وهناك من الناس من يفهم المعنى فلسفة
كان او عرفانا او فقها او تفسيرا لكن العلم أيضا ليس مجرد معرفة و إدراك للمعانى
بل ولا حتى الجزم بها فإن الناس جميعا جازمون بالموت و سرعة أيام الدنيا ولكنهم
يعملون للدنيا عمل من يرجو الخلود فيها و ما ذاك الا لان مجرد الجزم و العمل
بالشيء لا يعتبر اعتقادا و معرفة حقيقية للشي و الشاهد على ذلك أنه كم من انسان
يجزم بوجود الصانع و بعثة الأنبياء و آخر كذلك لا يتردد بإمامة لا تكون للجاهلين و
الظالمين لكنه على الرغم من كل ذلك يسمى الجهال الظالمين بأمراء المؤمنين مخالفا
لما تقر به نفسه في اعماقها و ماذاك الا لأن ما عرفه لم يدخل في بواطن قلبه و انما
كان مجرد ادراك عقلي و معرفة لواقع و مثل هؤلاء هم جهال ايضا و ان كانوا يعرفون
الحقيقة لعدم غباء و لذا ورد في الحديث الشريف عن الامام الصادق عليه السلام :
(العلم نور يقذفه الله في قلب من يشاء) وهذا هو العلم ذو التأثير الذي بواسطته تُصنع
الإنسانية و يخرج به الإنسان من الجهل في مسالك الربوبية.
فهذه هي إذن حقيقة العلم و لذا قد
يكون الفيلسوف او العارف او الفقيه جاهلا لأنه ما حفظ إلا الكلمات و المصطلحات او
أنه جاهل لأنه جعل حقائق العلم وسيلة لدنياه فهي لم تأخذ من قلبه مأخذا لأن العلم
الحقيقي الذي هو النور لم ينفذ في قلبه لأنه في الواقع قلب شيطان اسود جعل لكل آية
و سنة تفسيرا و تأويلا يقربه من هواه , طهر الله قلوبنا و قلوبكم من الرياء و
النفاق لنشهد الحق ثم لنصبح من الموقنين إيقانا يستتبع عملا صالحا خالصا لوجهه
تعالى إنه ولي التوفيق .
