@ دلائل صلح الإمام الحسن (ع) مع معاوية

المحاضرة 19

كتبت من محاضرة صوتية ألقيت في الكويت قبل سنوات

كان الكلام عمّا وقع من الصلح بين الإمام الحسن (ع) وبين معاوية بن أبي سفيان، وقبل أن نستمر في بنود الصلح لابد من الالتفات إلى أمر حتى ندخل ببصيرة في المقام، وهو:

أنّ الدنيا بنيت على تصارع بين الحق والباطل، وهذا التصارع ليس وليد ألف سنة ، ولا وليد خمسة آلاف سنة قبلُ، فمنذ خلق الله آدم (ع) ولد النزاع بين سبيل الحق والباطل، كالشيطان وآدم (ع) ، ثم دفع الحسد أخوين من أم وأب واحد إلى قتلٍ على وجه الأرض، فصراع الحق والباطل على وجه الأرض ليس وليد ألف سنة، بل هو صراع قائم على وجه الأرض منذ خلق الله آدم (ع) ، بل قبل أن ينزل إلى الأرض، حيث بدأ بمجرد أن تمّ خلق آدم (ع) .

يقال: إنّ آدم كان يعلم بأنه الخليفة على وجه الأرض، وأنه الذي يخلف الله في بيان الحق، لكنه ما كان متوقّعاً أن يدخل الجنة صباحاً ويخرج منها عصراً، أو قبل ذلك، وإلاّ فقوله تعالى: { إني جاعل في الأرض خليفة} ⁽[1][1]⁾ خطابٌ لا ينساه آدم (ع) ، لكنه فوجىء بهجمة الباطل، وما كان يتصور أن يجسر على القسم بالله كاذبا أحدٌ فأراد الله تعالى لآدم (ع) أن يهزّه هزّة من كل أعماق وجوده حتى إذا جاء إلى الأرض يعيش كل الحذر في كلّ حركاته وسكناته حتى لا ينال منه الباطل عن طريق الحق أبدا.

ويقع هنا تساؤل، وهو: أنّ الله تعالى أقدر القادرين، فهناك شخص ضعيف لا يستطيع أن يجعل ولده بعده زعيماً وحاكماً، فمضطر أن يعمل سياسات معينة قد يتمكّن وقد لا يتمكن من نصب ولده من بعده خليفة، لكن كل مؤمن عارف بالله تعالى يعلم بأنه تعالى أقدر القادرين، وليس هناك من مسلمٍ موحّدٍ يتردد في معرفة الحق سبحانه وتعالى: أهو قادر أن يسلّط أولياءه على وجه الأرض، أو ليس قادراً من تسليط الأولياء على وجه الأرض؟

لكن الدنيا لابد وأن تعرف الغاية منها، وهي أن يعيش الإنسان حياة الاختيار والاختبار، فهذه هي الغاية من كون الإنسان قد جُعل لكي يمر بدار الدنيا لينتقل منها إلى دار الآخرة، فما دامت الغاية والمقصود من الدنيا أن يختبر الإنسان فإنه على هذا لا يمكن أن يختبر مع وجود متسلّط مهيمن يسير معه في كل مكانٍ ومجال، فالله وهو أقدر القادرين الجبار المهيمن { لمن الملك اليوم لله الواحد القهّار} ⁽[2][2]⁾ لمَ لَمْ يظهر على وجه الأرض للمجتمع البشري باسم الواحد والقهار والمهيمن والجبار؟ لأنه لو ظهر لأخرس البلغاء، ولا يعقل أن يرتكب أيّ إنسانٍ أي مخالفة ولو جزئية فضلاً عن الطغيان والجبروت، كما قال فرعون: { أنا ربّكم الأعلى} ⁽[3][3]⁾ .

فالله سبحانه وتعالى لم يُعمِل سلطانه على وجه الأرض بكل قوة، ليجعل الأرض دار اختبار واختيار، وليعمل الإنسان غير خائف من سلطة الأولياء والمؤمنين، وليختار لنفسه سبيل الحق، ويعمل بإرادته كلّ خير وصلاح؛ لأنه لو كان مجبوراً لا يستحق على فعله أي مَحْمدة ولا مذمّة.

ثم فتح الله الدنيا لتكون تحت قبضة أبناء الدنيا؛ لأنّ الناس دائماً عبيد لأصحاب السلطات، والناس على دين ملوكهم، فهذا الكلام يشير الرسول (ص) إليه على أنّ النفوس ذليلة ومتصاغرة في مقابل الحكم والسلطان.

فنريد الآن بعد هذه المقدّمة ــ وهي التصارع بين الحق والباطل، وأنّ الدنيا أرادها الله مختبراً للعقول، وأرادها دار اختيار ــ أن نرى: مَن هو المنتصر في مسألة صلح الإمام الحسن (ع) ؟ فهل انتصر معاوية على الإمام الحسن (ع) ؟ أو انتصر الإمام الحسن (ع) على معاوية؟

فلابد أن نعرف المقاييس لنعرف المنتصر، فلو تصوّرنا شخصين كل واحد منهما خرج بألف درهم، والأول منهما رجع وقد ربح 500 على الألف، والثاني خرج فرأى الأيتام والأرامل والمساكين فوزّع الألف عليهم، فمن هو الرابح، ومن هو الخاسر؟ ففي نظر أبناء الدنيا أنّ هذا الذي وزّع أمواله يكون سفيهاً؛ لأنّه على مقاييس أبناء الدنيا دائماً الأنبياء وأصحاب الأنبياء هم سفهاء، يقتلون أنفسهم لغيرهم جهاداً في سبيل الله، لكن أبى الله إلاّ أن ينصر الحق، كما قال تعالى: { وكان حقاً علينا نصر المؤمنين} ⁽[4][4]⁾ .

وربما يتساءل الإنسان: أين نصر المؤمنين الذي يتكلم عنه الله تعالى؟ وها هم المؤمنون بين سجين وطريد وفقير، يفرّون من مكان إلى مكان؛ خوفاً على دينهم، فأين مصداقية قول الله تعالى؟

نقول: نصرهم بثباتهم وعلمهم ويقينهم، ونصرهم بكلّ ما هو من مقاييس الآخرة، كالحقّ وقوة البرهان، فالغايات تختلف والمقاييس تختلف بحسب أبناء الآخرة والدنيا.

فإذا جئنا لنرى هل أنّ معاوية انتصر أو الإمام الحسن (ع) ؟ فقد قلنا بالأمس: إنّ الشعار الذي أشعل نار الفتنة من أجله معاوية هو شعار المطالبة بدم الخليفة الثالث المظلوم عثمان، كما قال معاوية، فلما جاء معاوية للصلح نسي أنه أقام حرباً أكلت الأخضر واليابس من المسلمين، وجاء اليوم ليتناسى أو ينسى كلّ ما دعى إليه الدم المسفوك لعثمان، فما وجدنا في بنود الصلح ولا كلمة واحدة يتكلّم بها معاوية يطالب الحسن (ع) فيها بتسليم الثوار الذين اقتحموا دار عثمان، أو الذين اتهموا بالتواطىء على قتل عثمان، فهاهنا بمقياس أهل الدنيا انتصر معاوية على الإمام الحسن (ع) ؛ لأنه قبض سلطاناً، لكن بمقياس أهل الآخرة انتصر الإمام الحسن (ع) ؛ لأنه أثبت خداعاً وكذباً، وكشف أنياب ماكر، وأنّ الحرب التي أشعلت ما كانت للمطالبة بدم عثمان، ولو كانت للمطالبة بدم عثمان لجعلت شرطاً أساسياً لاتخلّف عنه في بنود الصلح.

لقد كان يشاع عند الشاميين أنّ علياً (ع) رجل كافر قتل المؤمنين، ومن المفترض أن يسبّ و ... ، وقد اشترط الإمام (ع) على معاوية في بنود الصلح أن يترك سبّ علي أمير المؤمنين (ع) ، ولا يذكره إلاّ بخير، فقبل معاوية، ووقّع الصلح على هذا القرار، ثم شتم علياً (ع) .

ومن الشروط التي وقّع عليها معاوية: أن يكون من بعده الإمام
الحسن (ع) ، ثم إن حدث للحسن حدث كان الأمر للحسين (ع) بعده، فأثبت معاوية بعد ذلك على أنه لم يلتزم بأي من الموازين حينما دخل الكوفة وقال: كلّما أبرمته وختمته من بنود صلح فهو تحت قدميّ هاتين.

ونرجع مرة ثانية لنقول: إنّ الناس حينما أصبحوا ينظرون بمقاييس الدنيا وانتصاراتها وجدوا معاوية منتصراً، فإن هناك أسساً للشرع، أسساً بنيت على قيم مثالية، فمن هو الذي طبّقها بعد وفاة رسول الله (ص) ؟ هل طبّقت بواسطة علي (ع) ، أم طبّقت بواسطة معاوية مثلاً، أو الإمام الحسن (ع) ؟ سنجد أن القيم التي جاء بها رسول الله (ص) مطبّقة بواسطة علي (ع) والإمام الحسن (ع) .

لقد رحنا طويلاً من الزمن نحاول باذلين قصارى جهدنا للإشارة بأنّ أيّ آية أو أي رواية وردت في فضل علي (ع) والأئمة المعصومين، وراح الآخر يفسّر ويورد ويوجّه ويؤوّل الكثير من العبائر، فدعونا اليوم نترك فضيلة وآية ورواية، ونترك كلّما ورد في حق علي (ع) وفي حق الأئمة المعصومين حتى لا ندخل في بحث جدلي مع آخرين، فإنهم يصرّون على الجدل، لكنا نقول: من طبّق بنود الشورى ببيعة عامة بعد رسول الله (ص) والشورى من مسلّمات الشرع؟ فدعونا من الفضائل، ولنأت إلى الساحة الخارجية بأسس الشريعة المتّفق عليها، إن لم تكن هناك مسألة غدير وغير غدير لنرى من بعد وفاة رسول الله (ص) من طبّق أسس الشريعة في شوراها سليمة، ومن طبق أسس العدل بقيمه سليماً في تقسيم أمواله وغير ذلك؟ ومن جاء بمثاليات الشرع وقيمه مطبّقة على الصعيد الخارجي بما يتناسب مع سنة رسول الله (ص) ؟ لنرى الذين طبّقوا هذه الشريعة تطبيقاً سليماً، والذين راحوا ليندفعوا بكثير من الدوافع الأخرى.

لقد بايعت الأمة الإسلامية قاطبة بكلّ ممثّليها القادمين من الأقطار الإسلامية علياً (ع) حينما كانوا متوجهين إلى الحجّ، فتوجهوا إلى المدينة المنوّرة، وجاؤوا بتمامهم يصرّون ثلاثة أيام متواصلة يريدون من علي (ع) أن يقبل منهم أن يكون إماماً لهم، وهو يردّهم بكلّ إصرار، فثلاثة أيام كان صحابة رسول الله (ص) بأنصارهم ومهاجريهم وممثلي المناطق الإسلامية بمن جاؤوا من الحجيج يصرّون على علي (ع) أن يبايعوه، وهو يرد، ولا يقبل الخلافة، أهذه المثالية تتناسب مع مثالية أخرى عرفتموها جميعاً في موطن السقيفة؟ فمن هو العامل بالشورى؟

ثم يقول علي (ع) بكلّ صراحة من القول مخاطباً ثمانية رجال تخلّفوا عن بيعته: فإن شئتم البقاء معنا فلكم ما لنا وعليكم ما علينا، وسوف تجري أعطياتكم من بيت المال، فهو يجري لأعدائه المتخلّفين القلائل رواتبهم، ثم يقول: إن أحببتم البقاء معنا فعلى الرحب والسعة، وإن شئتم أن تلحقوا بملاحقكم أوصلتكم إلى ملاحقكم.

وجيء بعبد الله بن الخليفة الثاني فقالوا لـه: بايع، قال: لا أبايع علياً (ع) والناس قد اعتادت على أن مَن لم يبايع تضرب عنقه، فتقدّم بعض الأصحاب طالبين من علي (ع) أنه إن لم يبايع يقتل، فقال علي (ع) : حاشا لله، مَن قال لكم: إن من لم يبايع يقتل؟ دعوا الرجل، فقال لـه علي (ع) : لك ذلك، فبقي أيّاماً ثم جاء إلى علي (ع) يريد الخروج من المدينة فمنعه الناس، وقالوا: لعله يريد غائلة ومشكلة وفتنة، فمنعوه، وجاؤوا به إلى
علي (ع) ، فسأله السائلون: إن خرجت فمن هو كفيلك في الخروج أن لا تقوم بفتنة؟ فقال علي (ع) : أنا كفيله، دعوه ليخرج.

هكذا هو علي (ع) يكفل أعداءه، والآخرون يشيرون إلى السيف ويقولون: من لم يبايع فهذا. هكذا أخذت البيعة من المسلمين، أهذه هي المقاييس التي جاء بها رسول الله (ص) ؟!

ومن البنود التي وردت أيضاً: أن لا يتعقب معاوية أحداً من شيعة
علي (ع) ، وأن يكون الناس آمنين في جميع الأقطار، ووقّع معاوية هذا البند أيضاً، ثم وجدناه كيف كتب إلى عمّالـه في كل مكان: أنّ من اتهمتموه بموالاته لعلي (ع) والحسن (ع) فاضربوا عنقه، واقطعوا أعطياته، واهدموا داره، فهذه هي الأسس التي ساقت الأمة إلى ما هي عليه.

يكتب التاريخ: أنّ الحدث التاريخي المهم الذي حدث بعد مأساة حكم معاوية هو: أنا ما وجدنا هذه البنود مرتبة محفوظة في أيّ كتاب من الكتب، فهذا يذكر بنداً، وكتاب آخر يذكر بنداً آخر، فهذه البنود ما سلّمها التاريخ تسليماً نزيهاً بعيداً عن الدرهم والدينار للأمم اليوم، ليشاهدوا أنّ هذه البنود في أي كيفية كانت، وهل حفظت نزيهة كما وقّعت أم لا؟

فكل التواريخ تكتب أنّ البنود التي وصلت إلينا بنود مبعثرة، والكثير منها مشوّهة ومتضاربة.

ولنقرأ بنداً من البنود الأخرى، وهو: وعلى معاوية استثناء بيت مال الكوفة لا يشمله التسليم، ويجب أن يحمل إلى الحسين ألف ألف درهم، وأن يفضّل بني هاشم في العطايا على بني عبد شمس.

فيرجى التوجه إلى: أن الدين قام على العدالة، وهذه سيرة رسول
الله (ص) أكبر شاهد على هذا، بأنه أقام العدل على الأسود والأبيض و ... ، فجعل التقوى ترتبط برب العالمين، وجعل الناس سواسية في مسألة العدالة الاجتماعية والاقتصادية وجميع الأمور، فكيف يكتب الحسن (ع) أن يفضّل بني هاشم في العطاء على بني عبد شمس؟ بهذا يريد الإنسان أن يضرب أسس العدل التي قام بها علي (ع) حينما أحمى محماته لأخيه عقيل، وحينما تكلّم بكلّ شدة لأخته أم هاني، وحينما تكلّم مع كلّ صغير وكبير، وحينما قسّم المال بالسوية فأحدث ضجّة اجتماعية في المجتمع، ونصحه الكثير أنّ التسوية في المال تؤجّج نار الفتنة، وإذا بهم يكتبون أنّ الإمام الحسن (ع) اشترط أن يفضّل معاوية بني هاشم في العطاء على غيرهم، فلو كان هذا لجعله علي (ع) !

فهذه الأمور لابدّ وأن ننظر إليها بدقّة وإمعان، ولا نأخذ كلّ كلمة نسمعها إرسال المسلمات؛ لأنّ بعض الأمور لا تتناسب مع الشرع القويم، ولذا صدرت الروايات الكثيرة من الأئمة بأنه علينا أن نقيس كلّ واردٍ علينا من الأحاديث بكتاب الله تعالى، فقالوا: ( اعرضوها على كتاب الله) ، أي: اعرضوا الأخبار المتعارضة على كتاب الله، بل اعرضوها جميعاً على كتاب الله، فما وجدتموه يجتمع مع كتاب الله فخذوا به، وما وجدتموه لا يتناسب مع كتاب الله فاضربوا به عرض الجدار، فإنّا لم نقله.

فمتى يكون الإنسان مؤهّلاً لينظر إلى الأخبار حتى يعرضها على كتاب الله؟ إن كان ممتثلاً لقول رسول الله (ص) حينما قال: ( اعرفوا الحق تعرفوا أهله) ⁽[5][5]⁾ ، ومن عرف الحق عرف موازين الحق، وعرف أهل الحق، واتبع رجال الحق، ولم يخدع بمظاهر تسوقه إلى كثير من الأخطاء.

والحمد لله ربّ العالمين.

---

[1][1]ــ سورة البقرة، الآية 30 .

[2][2]ــ سورة غافر، الآية 16 .

[3][3]ــ سورة النازعات، الآية 24 .

[4][4]ــ سورة الروم، الآية 47 .

[5][5]ــ