المحاضرة 16
كتبت من محاضرة ألقاها
الشيخ في الكويت
إنّ الله سبحانه وتعالى
ــ في كثير من الموارد ــ حثّ الإنسان على التفكير، فإذا فكّر وتحرّك وفكّر في
التوحيد الصحيح السليم، وفكّر في صنع الله تعالى، وفكّر في النعم الإلهية، وفكّر
في أنه من أين، وفي أين، وإلى أين يسير؟ أخذ ينتقل من كمالٍ إلى كمال، وإذا بقي
منهمكاً يسير ليله ونهاره للأمور المادية فقط، يأتي إلى الدنيا أعمى، ويخرج منها
أعمى.
فإذن: على كل إنسان أن
يبذل جهوده في التفكير في المعارف الإلهية حتى يكون دائماً متوجّهاً إلى الكمال
المطلق وهو الله تعالى.
وقبل أن أذكر حديثاً
ورد عن الإمام الصادق (ع) ، أقول: إنّ سيرة الأنبياء والأوصياء تربية، فمن نظر إلى
سيرة الأنبياء والأوصياء بدقّة وتأمّل، وجد كل حركة منهم هي دعوة نحو الكمال، فعلى
الإنسان قبل كل شيء أن يجرّد نفسه من أمرين خطيرين يسدّان عليه الباب نحو المعارف:
الأول: هو الجهل، فيجب
على الإنسان أن يذعن ويقرّ بأنه لا يعرف شيئاً من الكون بما فيه ليطلب الكمال،
ولكن إذا أصيب بالجهل المركّب، بأن ظنّ أنه عالم وعارف، دخل في الظلمات، فلم
يتقدّم أبداً ومطلقاً.
والثاني: العجب والغرور
والكبرياء، فيجب أن نطهّر أنفسنا من العجب والغرور والكبرياء.
فمن تنزّه من هاتين
الصفتين تمكّن أن يسير نحو الحق تعالى.
وعلى كل إنسان أن يعرف
أنّ الأكرم عند الله تعالى هو الأتقى، كما قال تعالى: { إنّ أكرمكم عند الله
أتقاكم} ([1][1]) هذه
هي الخطوة الأولى و الأساس الذي بناه الأنبياء وأكّده الرسول الأكرم (ص) حيث قال: (
ألا لا فضل لعربي على أعجمي، ولا لأعجمي على عربي ولا
لأحمر على أسود، ولا أسود على أحمر إلاّ بالتقوى) ([2][2]) ؛ لأنّ الأقرب إلى
الله هو الأقرب إلى التقوى، وإذا ابتعد الإنسان من التقوى كان بعيداً من الله
تعالى.
ننقل ما قالـه العلاّمة
المجلسي في البحار، ونحاول إن شاء الله بعد ذلك أن نسير على خطى الرسالة.
والحديث في البحار
معروف بحديث الشيخ مع الإمام الصادق (ع) ، يقول صاحب الكتاب: وجدت بخط شيخنا
البهائي قدس الله روحه ما هذا لفظه: قال الشيخ شمس الدين محمّد بن مكي: نقلت من خط
الشيخ أحمد الفراهاني عن عنوان البصري ــ
وكان شيخاً كبيراً قد أتى عليه أربع وتسعون سنة ــ قال: كنت أختلف إلى مالك بن أنس
سنين، فلما قدم جعفر الصادق (ع) المدينة اختلفت إليه (يعني: أخذت أراجع الإمام (ع)
) وأحببت أن آخذ عنه كما أخذت عن مالك، فقال لي يوماً: ( إني رجلٌ مطلوب) .
يعني: الإمام يتكلّم
بشيء ويريد شيئاً آخر، أي إنّي رجلٌ مطلوبٌ للحكومات، وكل إنسان إذا أمر بالمعروف
ونهى عن المنكر وبيّن الحقيقة كثر أعداؤه، وإذا كان جالساً لا يضرّ أحداً بكلمة
ولا يتكلّم على أحد، ويحاول أن يداهن الناس جميعاً تمكّن أن يعيش مع المؤمنين ومع
غير المؤمنين؛ لأنه يحاول أن يرضي كل أمة وكل فرقة بلسانٍ ليّن، فقال
الإمام (ع) : ( إني رجل مطلوب) ، وهذه تربية حتى لو أصبح الإنسان في مواضع كهذه يستطيع أن يتخلّص بعبارات موهمة.
الإمام (ع) : ( إني رجل مطلوب) ، وهذه تربية حتى لو أصبح الإنسان في مواضع كهذه يستطيع أن يتخلّص بعبارات موهمة.
( ومع ذلك لي أوراد في
كل ساعة من آناء الليل والنهار) يعني: وفي ليلي أنا مشغول بالدعاء، فأرجوك أن لا
تسألني، وأن تذهب إلى مالك بن أنس، ( فلا تشغلني عن وردي، وخذ عن مالك، واختلف
إليه كما كنت تختلف إليه) ، وهذا يدلّ على أنّ التجسّس والعيون على الإمام الصادق
(ع) كانت شديدة جداً.
يقول الرجل: فاغتممت من
ذلك، وخرجت من عنده، وقلت في نفسي: لو تفرّس فيّ خيراً لما زجرني عن الاختلاف إليه
والأخذ عنه. ومعناه: لا لياقة لي إلى العرفان، ولهذا السبب زجرني الإمام عنه.
ثم قال الرجل: فدخلت
مسجد الرسول (ص) وسلّمت عليه (أي: على الرسول (ص) )، ثم رجعت من الغد إلى الروضة
وصليت فيها ركعتين، وقلت: أسألك يا الله يا الله أن تعطف عليّ قلب جعفر ــ والمراد
الإمام (ع) ــ وترزقني من علمه ما أهتدي به إلى صراطك المستقيم، ورجعت إلى داري
مغتماً، ولم أختلف إلى مالك بن أنس؛ لما أشرب قلبي من حبّ جعفر، فما خرجت من داري
إلاّ إلى الصلاة المكتوبة حتى عيل صبري، فلما ضاق صدري تنعلت وترديت وقصدت جعفراً
وكان بعدما صلّيت العصر، فلما حضرت باب داره استأذنت عليه، فخرج خادمٌ لـه فقال:
ما حاجتك؟ فقلت: السّلام على الشريف، فقال: هو قائم في مصلاّه، فجلست بحذاء بابه،
فما لبثت إلاّ يسيراً إذ خرج خادم فقال: ادخل على بركة الله، فدخلت وسلّمت عليه،
فردّ السّلام، وقال: ( اجلس غفر الله لك) ، فجلست، فأطرق ملياً، ثم رفع رأسه وقال:
( أبو مَن؟) قلت: أبو عبد الله، قال: ( ثبّت الله كنيتك ووفّقك، يا أبا عبد الله،
ما مسألتك؟) فقلت في نفسي: لو لم يكن لي من زيارته والتسليم غير هذا الدعاء لكان
كثيراً، ثم رفع رأسه، ثم قال: ( ما مسألتك؟) فقلت: سألت الله أن يعطف قلبك عليّ،
ويرزقني من علمك، وأرجو أنّ الله تعالى أجابني في الشريف ما سألته.
ــ أقول: كان الإمام
علي (ع) يكنى بأبي الحسن، وفي هذا الزمان يعطى كل إنسان عناوين كبيرة، حتى أصبح
الإنسان إذا أراد أن يكتب كتاباً إلى أحد يحتاج إلى سطر أو سطرين فقط من الألقاب
والكرامات، وهذا على خلاف ما كان من سيرة رسول الله (ص) وسيرة الأئمة ــ
فقال: وأرجو أنّ الله
تعالى أجابني في الشريف ما سألته، فقال: ( يا أبا عبد الله، ليس العلم بالتعلّم،
إنما هو نور يقع في قلب من يريد الله تبارك وتعالى أن يهديه، فإن أردت العلم فاطلب
أولاً في نفسك حقيقة العبودية، واطلب العلم باستعماله، واستفهم الله يفهمك) يعني:
وحاول دائماً أن تطلب الحقيقة، وتقرّ في نفسك: أنّك جاهل، قلت: يا شريف، فقال: (
قل يا أبا عبد الله) يعني: إنّ سروري بكوني عبداً لله تعالى، ولا تخاطبني بالشرف،
قلت: يا أبا عبد الله، ما حقيقة العبودية؟ قال: ( ثلاثة أشياء: أن لا يرى العبد
لنفسه فيما خوّلـه الله ملكاً) .
يعني: إذا عرف أنه لا
يملك بصراً ولا سمعاً استعمل ذلك في طاعة الله تعالى، وإذا ظن أنه يملك بصره أخذ
يستعمل بصره في ما لا يحبه الله لـه، فلو دخلت داراً وقال لك المالك: لا أبيح لك
أن تشرب من الماء فلا يجوز لك أن تشرب، فالإمام الصادق (ع) يقول: الخطوة
الأولى أن تعرف، وليس عرفاناً لفظياً، بل إقراراً نفسانياً بأنه لا يملك
مالاً ولا جاهاً ولا مقاماً، فإذا أقرّت نفسه بهذا صرف المال فيما أحبّه الله
تعالى، وهكذا كل شيء.
ثم قال (ع) : ( لأنّ
العبيد لا يكون لهم ملك، يرون المال مال الله، يضعونه حيث أمرهم الله به، ولا
يدبّر العبد لنفسه تدبيراً) يعني: عرف أنه لا يتمكن من شيء إلاّ إذا شاءت المشيئة
الإلهية للاختبار أن يعمل شيئاً ، ( وجملة اشتغاله فيما أمره الله تعالى به، ونهاه
عنه) .
يقول الإمام (ع) : من
عرف أنه لا يملك شيئاً سار فيما أمره الله تعالى وما نهاه عنه، هذا إذا كان
إقراراً في النفس.
ثم قال (ع) : ( فإذا لم
ير العبد لنفسه فيما خولـه الله تعالى ملكاً، هان عليه الإنفاق فيما أمره الله
تعالى أن ينفق فيه، وإذا فوّض العبد تدبير نفسه على مدبّره هانت عليه مصائب الدنيا)
يعني: إذا عرف أنّ الدنيا دار اختبار عرف أنّ الذي يحبّه الله تعالى هو الذي
يمتحنه.
وتنقل رواية وجدتها في
التاريخ: أنّ الرسول (ص) مرّ مع المسلمين فوجد بيتاً في الصحراء، فطرقوا الباب،
فخرج رجل أكرمهم وأجلّهم، فدخلوا، فصار بينه وبين الرسول (ص) حديث، فسأله الرسول
(ص) عما ابتلاه الله، فقال لـه: سيدي ما ابتلاني الله بشيء، منذ شاهدت نفسي فأنا
غني، ولم أمرض، وما أصبت بشيء، فقال رسول الله
(ص) لأصحابه: قوموا، لا نجلس في هذا البيت؛ لأنّ الرحمة الإلهية ما شملته، فلو كان
عزيزاً ومحبوباً عند الله لابتلاه، والذي لا تمرّ عليه مشاكل الزمن ونوائبه فهذا
بعيد عن الله تعالى، فقام (ص) عنه.
فإذن: الابتلاء هو كما
لو أنك تبعث طفلك إلى الصف الأول، فإذا نجح تبعث به إلى الصف الثاني، ولا تفكّر في
أنّ الصف الأول أتعبه، فعليّ أن أعطف عليه وأخرجه من المدرسة، بل تريد استمرارية
المدرسة لـه، والله تعالى إذا أحبّ عبداً أخذ به من بلاء إلى بلاء، ومن مشكلة إلى
مشكلة أخرى، يعني: إذا نجح في صف نقله إلى صف أصعب من الذي كان قبله وهكذا إلى
الأصعب والأصعب، وقد نقل الله تعالى أنبياءه إلى المشاكل العظمى، حتى قال الرسول
(ص) : ( ما أوذي نبي مثل ما أوذيت) ([3][3]) فهذا سير الله تعالى
مع أوليائه ومع من يحبّه من خلقه.
فنرجع إلى رواية
البحار، حيث قال (ع) : ( وإذا فوّض العبد تدبير نفسه على مدبّره هانت عليه مصائب الدنيا،
وإذا اشتغل العبد بما أمره الله تعالى ونهاه لا يتفرّغ منهما إلى المراء والمباهاة
مع الناس) .
أقول: فإنّ إحدى أهم
المسائل التي ابتلي بها أكثر الناس مسألة التفاخر، فهذا فلان بنى بيتاً وبيته أصبح
أحسن من بيتي، فهي تحرّك الرجل لكي يبني عمارة حتى يقال: إنه بنى الأحسن، وهكذا في
جميع الأمور.
يقول الوالد ([4][4]) : لو كانت ربع أعمالنا
خالصة لوجه الله تعالى لدخلنا الجنة بلا حساب، فنحن نزور الصديق لا لوجه الله، بل
لمناسبات شخصية، لأني أخاف إن لم أزره ينتقدني، لكن المشكلة أنّ الإنسان مبتلى
ببلائين: الأول بلاء الرياء الذي في أكثر الأحيان قد يكون مخفياً، حتى ورد ما مضمونه:
إنّ الرياء في أمّتي أخفى من دبيب النملة السوداء على الصخرة الصمّاء في الليلة
الظلماء.
فالإنسان قد تصل حالته
إلى أنّه يعمل الأعمال لكنّها للاسم والعنوان، أي: لكي يمتدح. والإمام الصادق (ع)
يقول: وإذا اشتغل العبد بما أمره الله تعالى ابتعد عن المفاخرات.
ثم قال (ع) : ( لا
يتفرّغ منها إلى المراء والمباهاة مع الناس، فإذا أكرم الله العبد بهذه الثلاث هانت عليه الدنيا) .
يعني: إذا رضي عنه
الناس فأهلاً وسهلاً، وإذا أعرض عنه الناس لا يهتم بهذا الأمر أبداً، فيصبح مثالاً
لمن لم تأخذه في الله لومة لائم.
ثم قال (ع) : ( ولا
يطلب الدنيا تكاثراً) وليس معناه: أنّ الإنسان المؤمن لا يطلب الدنيا، بل الإنسان
المؤمن هو الذي يبذل جهده للدنيا والآخرة معاً.
ولذا قال (ع) : ( ولا
يطلب الدنيا تكاثراً وتفاخراً، ولا يطلب ما عند الناس عزّاً وعلوّاً، ولا يدع
أيّامه باطلاً، فهذا أول درجة التقى) .
أقول: وأين نقع نحن من
مقامات التقوى إذا كان هذا أوّلها؟!
ثم قال (ع) : ( قال
الله تبارك وتعالى: { تلك الدار الآخرة نجعلها للذين لا يريدون علوّاً في الأرض
ولا فساداً والعاقبة للمتقين} ) .
أقول: وأمّا وصف
المتّقين في نهج البلاغة للإمام علي (ع) فليراجعها القارىء الكريم، ولينظر إلى
أوصاف المتقين.
ثم قال الرجل: قلتُ: يا
أبا عبد الله أوصني، قال: ( أوصيك بتسعة أشياء، فإنها وصيتي لمريدي الطريق إلى
الله تعالى، والله أسأل أن يوفقك لاستعماله، ثلاثة منها في رياضة النفس) والرياضة
كما قالوا: هي تهذيب الأخلاق النفسية؛ لأنّ تقوى بلا كماليات أخلاقية لا تكون
مصداقاً للتقوى.
( وثلاثة منها في
الحلم، وثلاثة منها في العلم، فاحفظها، وإياك والتهاون بها) ، قال عنوان: ففرغت
قلبي لـه.
فقال: ( أما اللواتي في
الرياضة: فإياك أن تأكل ما لا تشتهيه، فإنه يورث الحماقة والبَلَه) يعني: أنّ
الإنسان ما خلق للأكل، بل خلق للعلم والتقوى والمعارف، يعني: لا تأكل كأكلة
المنهوم، ( ولا تأكل إلاّ عند الجوع، وإذا أكلت فكل حلالاً) ولا يكون الأكل حلالاً
إلاّ إذا كان ما يحصل في اليد حلالاً، ( وسمّ الله، واذكر حديث الرسول (ص) : ما
ملأ آدمي وعاءً شرّاً من بطنه) فيأكل ابن آدم لقيمات يقمن
صلبه، ( فإن كان ولابد فثلث لطعامه، وثلث لشرابه، وثلث لنفسه. وأمّا اللواتي في
الحلم: فمن قال لك: إن قلتَ واحدة سمعت عشراً فقل لـه: إن قلت عشراً لم تسمع
واحدة، ومن شتمك فقل لـه: إن كنت صادقاً فيما تقول فأسأل الله تعالى أن يغفر لي،
وإن كنت كاذباً فيما تقول فالله أسأل أن يغفر لك) ، وهذه تربية إسلامية ربّانا بها
الإسلام.
( ومن وعدك بالخنا) أي:
الفحش والكلمات البذيئة ( فعده بالنصيحة والدعاء) يعني: من شتمك قل لـه: أدعو الله
لك بكل خير.
ثم قال (ع) : ( وأما
اللواتي في العلم: فاسأل العلماء ما جهلت، وإياك أن تسألهم تعنّتاً) .
فمن المحرّمات التي على
كل إنسان أن يلتفت إليها هي أن تسأل العالم للإخبار: هل هو يعرف أو لا يعرف، وإذا
لم يعرف حتى تشكل عليه، يعني: أنك اندفعت لإهانة الرجل، ومن سأل شخصاً بهذا الضمير
فعليه أن يطلب العفو والغفران من ذلك الشخص.
( وإياك أن تسأل
تعنّتاً وتجربة، وإياك أن تعمل برأيك شيئاً، وخذ بالاحتياط في جميع ما تجد إليه
سبيلاً، واهرب من الفتيا هربك من الأسد، ولا تجعل رقبتك للناس جسراً. قم عنّي يا
أبا عبد الله فقد نصحت لك، ولا تفسد عليّ وردي، فإنّي امرؤ ضنين بنفسي، والسلام
على من اتبع الهدى) ([5][5]) .
والحمد لله ربّ العالمين.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق