الخميس، 12 ديسمبر 2013

منطقة الفراغ التشريعي

منطقة الفراغ التشريعي

بقلم سماحة الأستاذ الشيخ محمد كاظم الخاقاني
********************* 

التعبير بمنطقة الفراغ التشريعي قد يكون بحسب الظهور البدوي متضمنا لشيء من التسامح أو مؤديا لمفهوم غير مراد لأصحاب النوايا السليمة حيث لا فراغ في نفس الأمر و الواقع لشريعة كانت تبياناً لكل شيء في مواطن الكتاب و السنة و السيرة ، فلم تترك واقعة ولا حادثة إلا بينتها لذوي البصيرة الذين يعيشون أبعاد الرسالة بأبعادها الثلاثة أصلا بحسب الكتاب و بيانا بحسب السنة و تطبيقا بحسب السيرة ليصبح كل حدث صغرى كل لتلك الكبريات التي رسم خطاها المعصومون في غضون حياة أربعة عشر معصوماً من النبي الأكرم صلى الله عليه وآله وسلم حتى زمن الغيبة للحجة (عج) .

 

و المراد من الفراغ هي الصلاحيات بما تناسب حياة الأمة بمقتضى الزمان و المكان في مجال تطبيق الشريعة بما يناسب الأولويات العقلية أو الاجتماعية في حياة الفرد و المجتمع و النظام الإسلامي بحسب ما يستوحيه المسلم من سيرة المعصومين لكافة شؤون حياته الفردية و الاجتماعية و نظامه الإسلامي على اختلاف المسؤولية لهذا المسلم في حياة أمته الإسلامية حيث قال صلى الله عليه وآله وسلم : } كلكم راع و كلكم مسؤول عن رعيته { .

 

فمن جملة هذه الصلاحيات تطبيق الكبريات على مصاديقها بتنفيذ الشريعة في مواطن الضرورات و المسلمات و كذلك ما يكون راجحا بحسب الاجتهاد و أهل الخبرة سواء في ذلك الاجتهاد الفقهي أو الاقتصادي أو السياسي أو الثقافي أو غيره من محاور الاجتهاد و الاختصاص تحت ظل الشريعة و ضوابط الشورى .

 

و منها إجراء الأحكام الثانوية من قبل الشورى المختصة بها بعد ثبوتها بأدلتها بالنسبة إلى ذلك الأمر الطارئ في محاور المصالح العامة و الحكومة الإسلامية لا ما يعد من العناوين الثانوية في مجال شؤون الفرد حيث يكون حقا شخصيا أو تكليفا خاصا يميزه الفرد بوجدانه و عقله و مشورته مع الآخرين و بمسؤولياته الباطنية تجاه الحق تعالى و الخلق .

 

و منها مواطن تزاحم الملاكات ثم العمل طبقا لما يرجحه أهل الخبرة تحت ضوابط الشورى سواء كان التزاحم في ميادين الأمور العقلية العائدة إلى المصالح العامة أو الاجتماعية أو الاقتصادية حيث انه ليس من حق أي أحد بانفراده أن يقرر مصير أمة كما عاشته الأمة الإسلامية طيلة القرون سواء باسم أمير المؤمنين أو ولي الأمر أو الأمير حيث عاشت الأمة استبدادا لا مثيل له حتى في الغابات باسم الله سبحانه و تعالى و رسوله حشد لتلقين الأمة شرعيته وعاظ السلاطين .

 

و منها مواطن تشخيص الأولويات للأخذ بالراجح منها بعد انصياعها أيضا تحت ضوابط الشورى لأصحاب الخبرة ليكون التنفيذ أيضا بيد الحكومة الإسلامية لأن ولاية الحاكم هي ولاية تنفيذ للشيء و ليست ولاية تبديل و تغيير للأحكام الشرعية ككون البضاعة تمرًا أو سيفاً أو حصيراً في يوم من الأيام و كونها من مستجدات العصر الحديث في يوم آخر بعد كونها مما أحلها الله سبحانه و تعالى .

 

و الأمة بحاجة ماسة في كافة مجالات الحياة لأصحاب الخبرة على صعيد العلم و العمل حتى يصبح ميدان جولان الحكومة الإسلامية في المواطن النظرية و كذلك في مجال تطبيق الشريعة على الواقع الخارجي مزدهرا بأهل الاختصاص و محفوفا بضوابط الشورى حيث يكون العمل بالشورى راجحا في مواطن الحياة الفردية و لازما في مواطن الحياة الاجتماعية و التخطيط لرسم مصير أمة أو شرح الرسالة الإلهية .

 

أجل من الضروري أن تقع الأمور بأيدي أهل الخبرة و الأخصائيين ليعمل كل ذي خبرة و اختصاص في مجال عمله من فقه أو اقتصاد أو سياسية أو علم نفس وهكذا، كل ذلك تحت ظل موازين الشريعة بإشراف من قبل شورى الفقهاء لصيانة الأمور و شرعيتها .

 

فقد حدد الإسلام حدود التصرفات الفردية و الاجتماعية و صلاحيات الحاكم و الحكومة الإسلامية تحت ضوابط الشرع و الشورى و لم يفتح المجال تحت عنوان منطقة الفراغ لهجمة الاستبداد للتلاعب بالقوانين و ضياع حقوق المجتمع و الأقليات بادعاء تشخيص المصلحة ليتلاعب المتلاعبون تحت غطاء التأويل و التفسير بكل أبعاد الرسالة و حياة المجتمع و أوكل مواطن التطبيق لمنهج الشرع بما يناسب الفرد و المجتمع و الحكومة إلى كل بما يناسب  المقام بإشراف لسليم العقل و نور العلم حتى و أنه منع الإنسان من التصرف في أمواله الشخصية إذا لم يتزن من حيث البذل و سماه سفيها و جعله تحت سلطان الولاية .

 

فتطبيق الشريعة في ميادين المسؤوليات العامة و المصالح الاجتماعية بما يكون رسما لمنهج الشرع و تخطيطا لمصير أمة لابد و أن يجري تحت ضوابط الشورى بما يعم تطبيق الشرع بعناوينه الأولية أو الثانوية و كذلك بالنسبة إلى كل ما يعود إلى مواطن الاجتهاد سواء كان اجتهاداً فقهياً أو اقتصادياً أو سياسياً أو اجتماعيا أو غير ذلك لأن الاجتهاد حتى و لو كان في مواطن الفقه و الأصول إذا تجاوز حدود الفتوى و التقليد و راح ليرسم شرعا أو يخطط لمصير أمة لابد و أن يكون تحت ضوابط الشورى في كافة ميادينه العلمية و التطبيقية بما يناسب المقام من شورى الفقهاء أو الاقتصاد أو السياسة أو غير ذلك .

 

و كذلك لابد أن تحدد الصلاحيات للحكومة الإسلامية تحت ضوابط الشورى من أهل الخبرة و الاختصاص فيما تعود إلى تشخيص الأولويات في المصالح العامة و الأخذ بالراجح في مجال التزاحم للملاكات من صراعات في ميادين الأهم و المهم و القبيح و الأقبح و الفاسد و الأفسد حيث لا يكون هناك مخلص من أحدها عند التزاحم .

 

فيتعين الأهم أو القبيح أو الفاسد في مجال التزاحم في مورد المصالح العامة ليقدَم على ما هو المهم في أو الأقبح أو الأفسد مما يحتاج المقام أيضا إلى ضوابط الشورى لتشخيص هذا الواقع و من كونه أمرا عقليا أو سياسيا أو اقتصاديا و يكون المقام عند العجز عن التشخيص أو عدمه هو التخيير.

و من صلاحيات الحكومة الإسلامية تطبيق مسلمات الشريعة و ضرورياتها تحت إشراف لجان مؤمنة و من أهل الخبرة لتجنب سوء العمل في مواطن التطبيق مما قد يعود على الشريعة ببعض السلبيات لما لحسن التطبيق من أثر بليغ على النفوس و كذا العكس عند سوء العمل في مواطن التطبيق حيث يكون تشويها للشرع .

 

و من صلاحيات الحكومة الإسلامية أيضا تطبيق الكبريات على صغرياتها تحت ضوابط الشورى و إشراف أهل الخبرة و ذلك لأن الكثير من المصاديق ربما دخلت في ظرف زمني أو مكاني خاص تحت كبرى من الكبريات ثم كانت بمقتضى زمان أو مكان داخلة تحت كبرى ثانية كما تقدم في بعض المقدمات من أنه قد يعد شيء من لباس الشهرة عند عرف أو بحسب ظرف خاص ثم لا يكون كذلك عند عرف آخر أو بحسب ظرف زماني أو مكاني آخر .

 

و رب بضاعة حرمت بمقتضى زمان لأنها تشترى من المحاربين أو تباع عليهم و إذا انتهى هذا التخاصم فلا موجب لبقاء الحكم على مثل هذه البضاعة المباحة بحسب نفسها و رب أداة كانت مختصة بالقمار لا مورد لاستعمالها في غير ذلك أو تمثال أو مجسم لا مورد له سوى العبادة الباطلة و قد انتهى زمنها و أصبح لهما مواطن استعمال أخر .

 

و رب شيء كان في زمان لا مالية له فأصبح في زمان آخر ذا مالية لدى العقلاء يعتد بها تبذل بإزائها الأموال و رب عمل كان عبثا بحسب عرف أو زمان أو مكان أصبح عملا عقلائيا في ظرف آخر و لو كان من قبيل جمع الحشرات لأنها أصبحت موردا لاستعمال طبي أو عملي و رب حكم كانت له ضرورة بحسب ظرف قد لا تكون له بحسب ظرف آخر تلك الضرورة و لذا يجب أن تكون مثل هذه الأحكام تعايش واقع الحياة لأنها ليست من قبيل الحكم على الصلاة أو الصوم أو الحج أو الخمر و الميسر و الغيبة .  

 

و كذلك قد تختلف الأحكام بحسب ظروف الاضطرار و العسر و الحرج كما و أن شيئا قد تكون له في ظرف مرجحاته العقلية أو الاجتماعية أو السياسية أو يكون الشيء لهوا و عبثا أو ضررا أو باطلا بالقياس إلى فرد أو ظرف خاص و قد لا يكون كذلك بالقياس إلى فرد أو ظرف معين .

 

كما و أن الأحكام الثابتة لموضوعاتها قد تختلف باختلاف الأفراد فقد تكون الصلاة واجبة من قيام على فرد و من جلوس على فرد آخر و قد يجب الصوم على فرد و قد لا يكون واجبا أو يكون محرما بالقياس إلى فرد آخر كما و إنه قد يعتقد شخص بتحقيق شرط لشيء و يراه الآخر مفقودا أو يرى تمامية بينة و الآخر لا يراها عادلة ، و مثل هذه المواطن ليست من باب تغيير الأحكام .

 

و قد اتضح من المقدمات أن الفقيه يكون مرجعا في تشخيص الكبريات في مواطن الأحكام الشرعية و لا عموم لذلك في بقية شؤون الرسالة التي هي رسالة الحياة في كافة جوانبها .

 

 

كما و أنه لا خصوصية له في مواطن تشخيص المصاديق و لو في كبريات كانت من اختصاصه إلا أن يكون هو من أهل الخبرة فيها فتكون لخبرته مرجحات الاطمئنان و الوثوق لمن ليس من أهل الخبرة لكن لا شأن لذلك في التقليد حتى لمقلديه .

 

كما و أنه من اللازم تحديد ميادين البحث الفقهي الكبروي ليمتاز عن مواطن الصغريات ليرجع فيها إلى أهل الخبرة بما يناسب المقام من العرف أو المباني العقلائية أو أهل الاختصاص ككون هذا من مصاديق الخمر أو الربا أو اللهو أو الضرر المحرم .

لكن ربما وقع الخلط فراح المقلد يسأل الفقيه عن الدخان أنه من المفطرات أم لا ؟ في حين أن الكلام كبرويا عن الغبار الغليظ و مصاديقه عرفية غاية ما يمكن أن يدعى فيه أن الفقيه أحد أفراد العرف في ذلك لا لأنه من مواطن التقليد التي يجب فيها رجوع العامي إلى مقلده .

 

كما و أنه لا بد و أن تحدد ميادين التقليد التي هي في مواطن الأحكام عما هو من الأمور العقائدية التي لا تدخل تحت إطار التقليد و هي المباحث التي تستفاد من علم الكلام و الحكمة أو التفسير و الروايات في مجال العقائد حتى لا تساق الأمة للتقليد حتى في مثل هذه الأمور العقائدية كما هو مشاهد في أغلب المدن .

 

كما و أنه لا بد من فرز و تمييز بين ما هو من خطى المعصوم الواجب الإتباع و بين ما فعله المسلمون إلا أن تكون سيرة من المتشرعة أهل العلم و التقوى حيث تطمئن النفس بحكايتها خطى من أوجب الله سبحانه و تعالى إتباعهم و إلا فقد أصيبت الأمة بتقديس الرجال على حساب الشرع القويم فضاعت الكثير من معالم الشرع في ظل هذا الخطأ و رب حسن ضيَع ما هو أحسن منه و حق ضيع ما هو أحق منه .

 

هذا كله إن لم يكن من ماكر جاء بكلمة حق يريد بها باطلا أو كان من جاهل عاش حضارة جاهلية باسم الدين يريد شهود شرع الله سبحانه و تعالى في وجوه الرجال و النساء خلافا لما ما ورد عن الهداة }  إن الحق لا يعرف بالرجال اعرفوا الحق تعرفوا أهله {

 

كما و إن الأمة قد أصيبت من خلال تقديس الرجال بتقديس فهمهم لنصوص الكتاب و السنة ظانة أن ما توصل إليه السلف من فهم أو تطبيق للرسالة في ميادينها المختلفة كان وحيا غير قابل للاجتهاد و النقاش و إن وجدت الأمة نفسها أن الاختلاف في الفهم و التطبيق ساق الكثير من السلف إلى الحروب فضلا عن الشتم أو التكفير لبعضهم البعض الآخر .

 

أضف إلى ذلك ما حاولت الأمة من غمض الطرف عما تشاهده من العديد من الأخبار المتواترة التي تشير إلى أن أمة محمد صلى الله عليه وآله وسلم ستسير على ما سارت عليه الأمم كاليهود و النصارى شبرا بشبر و ذراعا بذراع  و إنهم لو دخلو جحر ضب لدخلت هذه الأمة فيه و لما ورد من قول الرسول صلى الله عليه وآله وسلم من أنه يؤخذ ببعض أصحابه إلى النار فيقول : أصحابي أصحابي فيقال له : ما تدري ما أحدثوا بعدك .

 

كما و أنه في كثير من الموارد تدخلت أيدي السياسة و السلطة لتفسير و توجيه النصوص فأطلقت أيدي  وعاظ السلاطين و منعت من إبداء الرأي بقية علماء و مفكري هذه الأمة و إلا فأين المهاجرون و الأنصار ليصبح أبو هريرة راوية الإسلام في عهد معاوية و هو القائل كما  في الصحاح كالبخاري و غيره يتهمني المسلمون بكثرة الأحاديث و الكذب فيها و لماذا تخاف السلطات من كتابة السنة و نشرها و تمنع المسلمين من تدوينها .

 

أجل يمنعها متقدم لينشرها آخر كمعاوية على أيدي أبي هريرة و أمثاله من مقربي السلطات العايش في كنف نعيمهم و قطر ندى أفضالهم ، فما أذن الحكام في نقله من السنة إلا ما كان يوافق فقهاء السلطة أو لا يعارض آرائهم مما لا دخل له في شؤون حكمهم و أصيبت جراء ذلك الأمة التي عاشت تحت ظل الجبابرة المستبدين باسم أمراء المسلمين أو المؤمنين بالذل و التبعية ليصبح المسلم المثالي من لا يتكلم و لا يسمع و لا يرى .

  

 

فراحت الأمة تعيش تحت ظل الجبابرة هذه المأساة و راح الكثير من العلماء يراعون أولياء نعمهم و هم الحكام الذين ملكوا مصادر الحياة المالية و الاجتماعية ليصبحوا موظفين يتقاضون الرواتب منهم و يداهنونهم من أجل العيش على حساب الشرع و الأمة بإخفاء كثير من حقائق رسالة السماء .

 

و كيف نعجب من مراعاة كثير من العلماء أولياء النعم كالسلطات الذين يملكون مصادر الحياة المالية و الاجتماعية و ها نحن نشاهد أيضا البعض من العلماء ممن تحرر بحسب مسلكه من تبعية الجبابرة راح ليسعى لمرضاة أولياء النعم أيضا حين اختلف أولياء النعم من مذهب لآخر فأصبح ولي النعمة بدلا من الحاكم هم عامة الناس فراح ليكتم الكثير من موازين الحق و يعيش بعقلية العوام لأن بأيديهم أيضا مصادر الحياة كالحق الشرعي و المكانة الاجتماعية .

 

و إن كان عند التأمل لا يجد الإنسان داعيا للتعجب في المقام لأنها سنة الحياة بإزاء أولياء النعم حكاما كانوا أو من سائر الناس ما لم يحصل التحرر من قيود العبودية للدنيا و المتحررون نوادر من البشر و هم الأقلون الذين اختارهم الله سبحانه و تعالى حججا على خلقه و إلا فالناس عبيد الدنيا و الدين لعق على ألسنتهم يدورونه ما دارت معايشهم كما قال الإمام الحسين عليه السلام إلا من عصم الله ، فإنه ولي التوفيق .

 

و كيف نعجب من تعيين مصير الأمة على أيدي الفرد باسم أمير المؤمنين و هو ما أذعنت إليه الأمة طيلة القرون تحت أعواد وعاظ السلاطين على حساب الشرع لتعيش هوان التبعية و الذل بعد ما عشنا نحن نفس هذا الواقع و إن تبدلت الأسماء و العناوين حينما أصغت الأمة أيضا لضجيج من ملؤوا مساجد الله سبحانه و تعالى بهتاف الموت لكل من خالف رأي الحاكم في كيفية تدبير دفة الحكم و إن كان المخالف هو جل علماء الطائفة إلا من ندر منهم في هذه الأزمنة الأخيرة كما وقع الأمر بالنسبة لمسألة ولاية الفقيه و ذلك على مرأى و مسمع من الأمة و علمائها و لا أدري أين ذهب مفهوم الاجتهاد و حرية الرأي عند قوم ينزلون إلى الشوارع بهتافات الموت لكل من لم يوافق رأيهم في مسالة الولاية المطلقة و يجعلون الحماس الشعبي لأناس لا يفهمون مفردات الكلمات العلمية مستندا لصحة منطقهم و صواب منهجهم .

 

و قد صرح بعض الأعلام بأن منطقة الفراغ التشريعي هي المباحات و المندوبات و المكروهات دون الواجبات و المحرمات ، فلولي الأمر أن يتدخل فيها كأن يمنع الأشخاص مثلا عن شرعية الإحياء للأراضي وفقا لمقتضيات الظروف الخاصة و الدليل على ذلك النص القرآني حيث يقول تعالى } يا أيها الذين آمنوا أطيعوا الله و أطيعوا الرسول و أولي الأمر منكم {  بحيث تكون محاور الصلاحيات تعم كل مورد لم يرد فيه نص خاص يدل على حرمته أو وجوبه كالنفقة على الزوجة ، ففي مثل هذه المواطن ليس لولي الأمر التدخل فيها .

 

فنقول : إن ثبوت هذه الصلاحيات لولي الأمر لا يدل على سريانها بالنسبة إلى الفقيه أو رئيس الحكومة الإسلامية لأن كلامنا في المقام ليس عن صلاحيات أصحاب الولاية المطلقة الذين هم أولى بالناس من أنفسهم لأنهم مظاهر الحق و موازين العدل و إنما الكلام في حدود صلاحيات الفقيه و رئيس الدولة الإسلامية التي يجب أن تحدد بإطار تطبيق الشريعة بالدليل و البرهان تحت ضوابط الشورى من أهل الخبرة و الاختصاص حيث لا صلاحية لفقيه في تقنين أو تقرير مصير أمة أو رسم شريعة بنحو التفرد في الرأي طبقا لاجتهاده الخاص .

 

نعم ما يكون من أعمالهم عليهم السلام راسما لحكم شرعي بحيث يستفاد منه بنحو الجزم أنه ما كان من شان ولايتهم الخاصة بل جيء به لتطبيق الشريعة في ميادين السنة العملية بعناوينها الأولية أو الثانوية فإنه يكون من الصلاحيات في المقام لولي الأمر شريطة أن يتمشى مع ضوابط الشورى لأهل الخبرة و أما ملاحظة المصالح الاجتماعية بما يناسب الزمان والمكان فهو تحت ضوابط الأولويات بإطارها الشرعي بحدود الشورى أيضا .

وأما الأحكام الشرعية سواء منها الواجبات و المحرمات أو المباحات و المستحبات والمكروهات فهي جميعا ثابتة لموضوعاتها لدخول الصغريات تحت كبرياتها مطلقا بلا أي دليل على التخصيص بولاية الحاكم الشرعي والضرورات تبيح المحظورات في كل المواطن إلا أن يمنع من السريان طروء قاعدة عليا ( حاكمة ولو عقليا ) أو تكون بعض مصاديق الضرورات خارجه عن إطار الكبرى بحسب ظرف زمني أو مكاني كما تقدم بيانه في المقدمات .

فإذن على فرض طرو عنوان ثانوي على ما كان من المباحات كالأرض لمن أحياها لظروف خاصة  كعدم اتساع الأراضي وكثرة الناس وتحقق قدرات طائلة لبعض أصحاب القدرات المالية لإحياء الأراضي بنحو يكاد أن يمنع الضعفاء من الإحياء لعدم مقدرتهم و عدم مقدرة الحكومة على مساعدتهم قد يكون سببا لطرو عنوان ثانوي في ميادين المصالح العامة التي لا يمكن العمل بها إلا من خلال ضوابط المشورة من أهل الخبرة و الاختصاص سواء كان المقام يستدعي التشاور مع أصحاب الاختصاص في مجال الاقتصاد أو غير ذلك .

و لا يكفي مجرد دعوى تحقق العناوين الثانوية في ميادين المصالح العامة من قبل الحاكم أو الهيئة الحاكمة ما لم يقرن ذلك بتأييد من قبل اللجان المختصة و ضوابط الشورى و إلا فلو فسح المجال لدعوى ثبوت العناوين الثانوية و تشخيص المصالح بلا تقييدها بضوابط الشورى فسوف لا تبقي معاول أصحاب المصالح ركنا من أركن الشرع إلا و هدمته و لا تبقي معرفيتهم المتأطرة بالمصالح موردا إلا و فسرته و أولته بما يتمشى مع مصالحها الشخصية تحت عناوين مختلفة فضلا عما لو قيل بأن من صلاحياتها التدخل في ميادين الأحكام الأولية من المباح و المكروه و المستحب بإعطائها حكما وجوبيا أو تحريميا .

 

ولا أظن أنه مع تحقق العدل و التطبيق السليم للشريعة يحدث عنوان ثانوي في مثل إحياء الأراضي التي أراد الله سبحانه و تعالى للتنافس في مجالات الرشد و التنمية و العمران إلا في ظروف نادرة جدا يجب تشخيصها من قبل أهل الخبرة كما تقدم .

فإذا كان العنوان الأولي كالأرض لمن أحياها مانعا من حق الحياة للآخرين كأن كان الأغنياء بقدرات طائلة وكان العجز من قبل الحكومة الإسلامية مانعا من مساعدة الضعفاء لإنعاش الحياة الاقتصادية و التنافس في مجال إحياء الأراضي ففي مثل هذه الظروف النادرة يمكن طرو عنوان ثانوي يعطي الحكومة الإسلامية الصلاحية لمنع الأغنياء من الإحياء للأراضي و لكن فرض كلمة [ يمكن ] لا يكفي لطرو عنوان ثانوي في المقام لرفع اليد عن العنوان الأولي و هو [الأرض لمن أحياها ] ما لم يثبت ذلك بواسطة أهل الخبرة لكي لا يحصل التلاعب من الحكام كما هو المشاهد في أغلب المناطق الإسلامية .

 

              

و بالجملة لو أطلقت أيدي الحكام من قبل الشرع تحت عنوان منطقة الفراغ التشريعي و لو في مثل المباحات بأن يجعلوها واجبة أو محرمة بدعوى طرو عنوان ثانوي سوف لا تبقى قاعدة من قواعد الشرع في ميادين المباحات و المندوبات و المكروهات إلا و نسفتها معاول التوجيه و التأويل تحت غطاء تشخيص المصلحة و العناوين الثانوية فضلا عما لو أطلقت أيديهم بلا شورى و بلا حاجة إلى مختصين في الواقع البشري و إرهاصاته تحدد بهم هوية الموضوع و حيثياته كما و أن الابتعاد عن منطقة الفراغ قد يفضي إلى الجمود تحت عنوان المحافظة على الشرع فلذلك لابد من تفاعل مع الواقع حتى لا توسم الشريعة مع سعة انطلاقها بطابع يظهرها قاصرة عن تفسير مستجدات العصر و هجمة التطور .

 

فالإسلام بحاجة إلى رجال و نساء يعيشون سعة الصدر ، يحتضنون البشرية بأسرها مع المحافظة على مبادئ الإسلام في ظل أبعاد الشريعة الثلاث الكتاب و السنة العملية و العلمية يدافعون عن أسسها الثابتة و تراثها المنهوب الذي شوهته تراكمات التاريخ ، يميزون بين الأسس التي لا تقبل النقاش و بين الاجتهادات التي طرأت في ضمن أربعة عشر قرنا حيث يمكن أن يجري في حق بعضها التعديل و التنظيم أو الاستفسار و التغيير تبعا لاجتهاد و بحث علمي جديد و بالأخص لو كانت البحوث العلمية من أهل الخبرة بنحو مشترك بعيد عن رواسب التقليد باسم الاجتهاد بروح تذعن بكل إقرار بأن ما توصل إليه البشر من لمس روح الشريعة و فهم أبعادها إنما كان نقطة من بحر حتى لا يصاب المسلم بالتوقف عن مسيرة الكمال .

فليس الشك في المنهج الإسلامي و قابلياته لمواكبة الزمن و إنما الشك في ما توصل إليه الكثير من المجتمعات الإسلامية من فهم الشريعة خوفا من أن يكون سوء الفهم ينعكس على نفس الشريعة و يدعوا إلى صياغة أسسها من العدل أو الإحسان بصياغة جافة على أيدي بعض من ينسب نفسه إلى العلم و المعارف الإلهية فلو أريد من العنصر الثابت هي الكبريات المسلمة الشرعية و من المتغير ما يفهمه المجتهدون من الشريعة فيما يعود إلى مواطن الاجتهاد و استنباط الأحكام من أدلتها الظنية و محاور الأصول العملية أو موارد الدلالات غير القطعية و ما هو من موارد تشخيص المصاديق لإدخالها تحت الكبريات فلا مانع من ذلك فإنه لا مشاحة في الإصلاح أو كون المتغير هو ما كان راجحا لتغيّر الحكم تبعا لتغيّر موضوعه .

 

 

 

 

 

فإذن ليست هناك من صلاحيات خاصة للدولة تسمى بمنطقة الفراغ سوى تطبيق الشريعة بأبعادها المختلفة في محاور الأحكام الأولية و الثانوية و تشخيص مواطن التزاحم للملاكات و الأولويات .

و قد وقع التلاعب في كثير من مواطن التطبيق و التفسير مع حفظ الإطارات العامة للشريعة و ذلك من خلال التلاعب بالمقاييس .

 

و الخوف في هذه العصور من التحلل باسم التطور بما قد يوصل إلى التلاعب بالمقاييس تحت عناوين شتى من قبيل دعوى فهم الغايات أو لمس المصالح أو المفاسد و العمل بروح الدين لا بحروفه .

 

و من جانب عدم التخصص في كثير من مواطن الشريعة على ضوء الكتاب و السنة أفضى بالبعض لتصور فراغ و قصور في الشريعة بمعناه السلبي في حين أنه كان ناشئا من عدم مواكبة المسلمين للشريعة بأبعادها الثلاث و عدم  وجود خبراء في كثير من المجالات كالاقتصاد الإسلامي أو علم النفس أو غيره تحت ضوابط الشرع التي قد تكون مهجورة أيضا و إن كان في بعض الموارد حصل فيها بعض التحرك بقدر متابعة و مسايرة الآخرين تحت ضغوط الزمن لكنها لا تفي لرسم الشريعة و دفع شبه القصور أو توهم فراغ تشريعي في المقام .

 

فلابد أن تحدد صلاحيات الدولة الإسلامية ضمن إطار الشورى في كافة مجالات الحياة تحريكا لروح المسؤولية و القابليات المختلفة لكيلا تذهب الطاقات هدرا أو تتحجم أو تتحجر العقول تحت مطارق الاستبداد أو التقليد . 

 

و إن كان من الملحوظ أن لكل أمة بحسب حضارتها و زمانها و مكانها التفاعل الخاص مع روح الشريعة التي هي الفطرة و الاستسلام إلى الحقيقة ، فلا أظن أن جميع الأمم لو أسلمت لتفاعلت مع الإسلام تفاعلا واحدا ما لم تصل إلى الكمال المطلوب حيث لا يختلف عند ذلك الواقع في أعينها .

 

فتفاعل العربي الحضري يختلف عن القبلي بأزاء الآباء و الأمهات و حقوق الأبناء و حسن الضيافة و الشجاعة حيث ينظر كل بمنظاره الخاص سعة و ضيقا إلى الشريعة بأبعادها المختلفة كما و أن الغربي المسلم ينظر إليها بمنظار آخر حتى و لو كان كل مسلم يعيش سلامة في دين ، كما و أن التفاعل مع حقيقة واحدة كالصلاة يختلف باختلاف النفوس فقد تكون مسقطة للتكليف فقط كما و أنها قد تكون قربانا و معراجا و عمودا للدين على اختلاف مراتب الإيمان و الخلوص و بعد المعرفة .

 

و الذي يجب أن يلحظ في المقام الخوف من وقوع التلاعب في مواطن التطبيق و التفسير مع حفظ المتون و الإطارات تدليسا و خداعا للشعوب و ذلك من خلال استغلال الجهل بالشريعة أو عدم الإحساس بالمسؤولية تجاه التخطي للقوانين من قبل أصحاب المصالح الشخصية فإنه رب حق أريد به باطل تحت غطاء العناوين الثانوية أو حصل في حقه التحريف في مواطن التطبيق و دعوى تشخيص المصالح بعيدا عن قاعدة الشورى و حدود الحرية و مجالات صلاحيات الحكومة الإسلامية .     

 

 

 

 

فالشرع تبيان لكل شيء ما ترك أمرا إلا وبين حكمه فإذن ليس هناك من منطقة فراغ بما توحي به العبارة بحسب ظاهرها البدوي من ترك الشرع لواقعة أو حكم قد أوكل أمره إلى ولاة الأمر .

 

و لا أظن أن الشريعة ثابتة بأحكامها الوجوبية و التحريمية فقط لتكون بقية الأحكام في مواطن الندب و الكراهة و الإباحة محلا لمنطقة الفراغ التشريعي و تصدي الحاكم الإسلامي بل كل حكم لموضوعه باق على ما هو عليه و إنما يقع النزاع في صغروية المصاديق لكبرى من الكبريات من حيث تشخيص الموضوع و يبقى التأمل في جميع الأحكام التي أصابها الفقيه باجتهاده من حيث كونها متطابقة مع الواقع أم لا ؟ و إلا فجميع الأحكام الخمسة يمكن أن تعمها الأحكام الثانوية لأن الضرورات تبيح المحظورات حتى الصلاة بلحاظ كيفياتها و إن كانت هي لا تسقط بحال .

 

و هذا مما يمكن أن يختلف باختلاف ظروف الحياة و هو ميدان واسع يجري فيه النزاع لكي لا يصبح التقليد جالسا على كرسي الاجتهاد لأن الاجتهاد ليس تقنينا للشرع بل هو سعي للوصول إلى فهم الشريعة و أحكامها الثابتة في نفس الأمر و الواقع التي قد يقع فيها الخطأ من قبل المستنبط كبرويا أو من حيث التطبيق صغروياً .

 

فإذن الصلاحيات لرئيس الحكومة الإسلامية أو ولي الفقيه محددة في الكبريات بوجوب الالتزام فيها و تنفيذ قواعد الشرع المسلمة و أما الاجتهادية فهي داخلة تحت ضوابط الشورى و أهل الخبرة و الاختصاص و كذلك الأمر في مجال الصغريات ثم يعود التنفيذ إلى رئيس الدولة تحقيقا لقوله تعالى }  و شاورهم في الأمر فإذا عزمت فتوكل على الله { فالعزم تطبيق للمنهج بعزم و جد بعد مراحل المشورة مع أهل الخبرة في كافة مجالات العلوم المختلفة .

 

و نحن اليوم بحاجة ماسة إلى خبراء في كافة المجالات المختلفة للشريعة حتى لا يتوهم البعض أن الشرع ترك جانبا من جوانب الحياة حيث يكون قد نظر إلى جانب من الجوانب فظن وجود فراغ في التشريع .

 

نعم ليس من السهل التطبيق السليم للشريعة من الكبريات على مصاديقها المناسبة لها بعد الابتعاد عن معايشة الشريعة بأبعادها الثلاثة و لو من بعض الجهات .

 

فالتطبيق السليم وظيفة اجتماعية تتبع حسن النوايا و العمل بأبعاد المعرفة حتى نتدارك بعض ما حصل طيلة أربعة عشر قرنا من قسوة للزمان على العلم و الحريات و وقوع الأمور في أغلب الأزمنة بأيدي غير أهلها و قد أضاف على هذه السلبيات التي سببت البعد عن التطبيق السليم كما تقدم الكثير من العوامل منها إن الكثير منا لا يرى لغيره حق الحياة في مواطن العلم و المعرفة جازما بأن ما توصل إليه من الاستنباط و الفهم هو الحق الذي لا نقاش فيه و أن كل ما كان مخالفا لهذا الفهم يكون باطلا يجب أن يحكم عليه بالاضمحلال و العدم في حين أن المتنازع فيه من شؤون الاجتهاد و ليس من مسلمات الشريعة .

و ربما صار في بعض المقامات تأييد الرأي بكثرة المؤيدين و الأنصار و الحماس الشعبي بدلا من الاستدلال بالكتاب و السنة و العقل و هذا ربما جرى بين أهل الطائفة الواحدة فضلا عن جريانه بين الطوائف المختلفة الإسلامية التي ساقها الكبر الباطني بدلا من السلام الإسلامي إلى تكفير الآخرين جهلا بالشريعة تبعا لخطوات الشيطان كما تبدو معالم هذا الجهل لدى المكفرة المبيحين لدماء المسلمين فضلا عن غيرهم طهّر الله سبحانه و تعالى منهم الأرض قبل ظهور وليّه الأعظم الحجة المنتظر عجل الله تعالى فرجه الشريف إنه العلي القدير .

 

و ربما أضاف على هذه السلبيات كتمان الحقيقة من قبل البعض مماشاة مع السلطات أو استعطافا لعواطف الجماهير ، و راح آخرون ينظرون إلى الجوانب السلبية و لو بمعتقد أنفسهم بدلا من النظر إلى الإيجابيات و الجوامع في العقيدة .

 

و هناك الكثير ممن يندفع وراء الجوانب الجانبية بدلا من دراسة الأسس و القواعد الإسلامية و إضاعة الحياة في بعض البحوث التي لا طائل من ورائها في دراسة المنهج الإسلامي و السعي بمجادلات شتى لجعل ثمرات نادرة أو وهمية بل قد يصل بنا الأمر في بعض المقامات أن يقول القائل منا : بأن هذه البحوث و إن لم تكن لها ثمرات علمية و لا عملية إلا أنها تفيد لتشحيذ الذهن حتى سارت القرون المعاصرة بنحو من الإفراط و التفريط بالنسبة إلى علم أصول الفقه و إدخال ما لا دخل له بالاستنباط بحيث جعلت الطالب كأنه يسبح في بحر لا ساحل له كما تقدم بيانه .

 

فالكثير من هذه العوامل و غيرها صيرت الكثير من الحقائق يصعب تناولها سواء في مراحل العلم أو في مواطن التطبيق في حين أنه تقدم أن قلنا أن الأساس و الميزان هو الكتاب المجيد الذي كاد أن يكون عند المسلمين مهجورا .

 

فبعض العوامل كعدم المماشات مع الكتاب المجيد و السنة العملية التطبيقية ربما أدى لتوهم باطل و هو الاعتقاد بمنطقة فراغ بمعنى قصور الشرع القويم عن بيان كل شيء بعد كون الشريعة هي فطرة الحياة ، وسنن الله لا تبديل و لا تحويل لها سواء في واقع التكوين أو التشريع و إن حقائق الأحكام تابعة للمصالح و المفاسد التي لا يمكن تحت شعار الحركية أو التطور أن ينال البشر من قدسيتها كما لا يتمكن أن ينال من القوانين الثابتة الطبيعية أو الفلكية أو الرياضية أو الفيزيائية أو الفلسفية .

 

فمثلا هناك أسس عقلية حكمية لا تنالها مطارق الحدثان كعدم اجتماع النقيضين أو احتياج الممكن إلى العلة و استحالة الترجح بلا مرجح و كالثوابت في علم الهندسة و الرياضيات و كالفطريات البشرية و الوجدانيات و حسن و قبح ما تسالمت عليه البشرية من الفضائل و الرذائل الأخلاقية حيث لا يمكن أن يقال أن حسن العدل و قبح الظلم أصبح كلاما رجعيا و إن أمكن أن يختلف الناس في محققات كل من العدل و الظلم في الخارج بتبع اختلاف العقليات و الحضارات و الديانات .

 

 

 

 

فشعار التطور و التغيير يجب أن يلحظ بدقة كي لا يأخذ جانبا وهميا يوجب الخلط بين نواميس الكون الثابتة و الأحكام التابعة لموضوعاتها تبعا للمصالح و المفاسد المتغيرة بما يناسب الزمان و المكان و الأفراد و المجتمعات البشرية و ما هو من شأن التكامل الذي بني عليه عالم الإمكان طرّا بحيث يعم الجبال و الكواكب و المجرات لسيلان عالم الإمكان نحو الكمال كما قال تعالى }  فترى الجبال تحسبها جامدة وهي تمر مر السحاب {  فلا ليل ثابت و لا نهار و لا جبل فكل في فلك يسبحون و قد أمرنا أن نربي أبنائنا لزمان غير زماننا لما هو من مقتضيات التطور تبعا للزمان و المكان .

 

فإذن لا يجوز الجمود لكونه ينافي سنة التطور في الأرض بما فيها من التكامل و التغيير و لا شيء ثابت من أرض و لا سماء حيث تُبّدل الأرض غير الأرض و السماء غير السماء فالكل محكوم للتبدل و التغيير و السير نحو الغايات و غاية الغايات اللامتناهية في الكمال هي الله سبحانه و تعالى فبهذا اللحاظ و التقويم لمعرفة المباني الإسلامية لا ثبات لأي موجود لسيلان عالم الإمكان و الحركة نحو الكمال المطلق .

و من ناحية ثانية أنه سيلان و حركة نحو الكمال تحت ضوابط العلم و النواميس المحكمة السليمة الصحيحة .

فإذن هناك قواعد و قوانين و سنن و محكمات و أصول ثابتة في كافة المعالم لا تبديل و لا تغيير لها هي ضوابط التكامل لعالم الإمكان و ليست منهجا للجمود و التخلف مع عين ثباتها .

 

و هناك سنن بما يناسب المكان و الزمان فهي ثابتة بلحاظ موضوعاتها و ظروفها الخاصة فمثلا يقال إن في كذا ضوابط و شروط و زمان و مكان يقع كذا شيء و في كذا ظرف يجب الحرب أو السلم أو الصلح و عند كذا فصل يكون الجو باردا أو حارا و هكذا آلاف الضوابط التابعة لشرائطها و عللها بما يناسب ظروفها الخاصة سواء كانت بحسب التكوين أو بحسب العقل بحيث يجب أن يكون الإنسان متفاعلا مع مقتضياتها حتى لا يحكم على الليل بحكم النهار و لا على الشتاء بحكم الصيف و لا على السلم بحكم الحرب و لا على الصديق بحكم العدو و لا على الجاهل بحكم العالم و لا على نفسه في أيام شيخوخته بحكم ما كان شابا .

 

و لا يطبّق على نفسه أحكام الصحة حينما يصبح مريضا و لا يتعامل مع مستوجبات الغضب و الشدة تعامل البسمة و الحنان و هذا التغيير للأحكام من لوازم تغيير الموضوعات و الزمان و المكان و بقية المستجدات و العوامل التي يجب التعامل معها طبقا لما تقتضي الأشياء تبعا لعللها و أسبابها من الشرائط الطبيعية و العقلية .

 

و عليه فنحتاج إلى لجان من أهل الخبرة و الاختصاص في كثير من المواطن لدراسة السنن الثوابت بإطلاق الكلمة و إلى معرفة السنن الثوابت بحسب زمانها و مكانها و مستوجباتها الخاصة بما لها من الاختلاف بمصاديقها و كيفياتها و مظاهرها و ما هو من شأن السيلان و التغيير و التبديل لحركة كل شيء نحو غايته الخاصة بما للأشياء جميعا من الحركة نحو غاياتها حتى لا يقع الخلط بين السيلان و التغيير الذي هو من شأن الكمال لكل شيء حتى لا يفر الإنسان من الجمود و التقليد و يقع في مغالطات كلامية و أوهام باسم الثقافة و التطور بالتحلل من كل شيء بلا تنقيح و لا تمييز لما هو من شأن التكامل و التغيير لكل شيء بحسب ما يناسبه و بين ثوابت السنن في عالم الإمكان .                  

فلا بد من تنقيح البحث لمعرفة مواطن الثبات و محكمات السنن و ما يكون من السنن المتغيرات في عين ثباتها في أصول قواعدها بتبع ظروفها الخاصة من السيلان و التغيير لكل شيء في عالم الإمكان من حيث المصداق سواء كان التغيير في جوهره أو كمه و كيفه أو بقية شؤونه و خصوصياته المختلفة و ما هو من الثوابت بحسب واقع النفس و الفطرة و الخلق السليم .

 

 

من معالم الثورة الحسينية

من معالم الثورة الحسينية

بقلم سماحة الأستاذ الشيخ محمد كاظم الخاقاني

 لبى الحسين عليه السلام صرخة الأمة واستغاثتها , تلك الأمة التي كانت تعيش حياة البؤس والحرمان والذل والهوان على أيدي حكامها الطغاة الذين كانوا يحكمون الناس بإسم الله و شرايع السماء واصفين انفسهم بأمراء المؤمنين و أولي الأمر الذين أمر الله تعالى بطاعتهم تفسيرا للآي الحكيم بتبع الهوى .

فأسرع عليه السلام نحو العراق ملبيا دعوة الداعين لتخليص الأمة من ذئاب قد افترستها بلا رحمة قاصدا بذلك تحقيق الحق و إقامة العدل .

فخرج عليه السلام هو و أهل بيته من مدينة رسول الله (ص) متوجها نحو مكة المكرمة لإقامة الحجة على كافة المسلمين و منها توجه إلى العراق حاملا معه النساء والأطفال ومن عزّ لديه من أهل بيته و خلص أصحابه.

ولما اعترض عليه المعترضون قائلين يا حسين : لا تخرج وتشق عصا المسلمين, أعرض عنهم وقال كلمته الخالدة (إنما خرجت لطلب الاصلاح في أمة جدي رسول الله (ص) آمر بالمعروف وانهى عن المنكر ),فلم تأخذه في الله لومة لائم صاغتها ظلمات حناجر الدجالين او تلتها ألسن الجهلة المتنسكين الذين ظنوا شرع الله كثرة صلاة بها تُسّود جباههم و إن كانوا لداعية الحق الذي افترضه الله تعالى عليهم تاركين وللحق جاهلين وعن إقامة العدل معرضين في حين انه لو كانت كثرة العبادة منجية من سخط الله تعالى لما كان ابليس في الدرك الاسفل من النار بعد ستة آلاف سنة من العبادة عندما أبى واستبكر عن امتثال أمر الله تعالى .

ولما وصل الحسين عليه السلام الى مشارف الكوفة وسأله البعض عما دعاه لحمل نسائه و أطفاله ونساء بني عمومته قال مقالته التي لو شرحناها و بينا مدى ابعادها للأم وبالأخص للمسلمين منهم لميزوا بذلك بين الصادقين والكاذبين حينما قال لأهل الكوفة أو العراق ( أهلي مع أهليكم ونفسي مع أنفسكم) مبينا للعالم ان دعاة الحق والصالحين لا يدعون أحدا الى تحقيق عدل ودفع ظلم ونساؤهم واطفالهم في الأمان و أعراض الناس و أطفالهم معرضون للعدوان والقتل والأخطار كما يفعل ذلك الدجالون والماكرون .

كما وأنه عليه السلام خلافا لما يشاع ويكتب من أنه لما وقع النزاع بين أصحابه و أهل بيته مِن أنه مَن يتقدم للقتال يوم العاشر من المحرم, الأنصار او بنو هاشم وأنه ما رضي الانصار إلا ان يتقدموا فرضي بذلك بنو هاشم  فإنه يؤسفني ان اسمع مثل هذا الطرح صادرا من بعض الخطباء و رجال الدين بعد كونه مخالفا لسيرة الصادقين ومنهج الشرع وما عليه واقع الحروب من كونها تبدأ بتقدم بعض الابطال من الطرفين ثم تلتحم الحرب بعد ذلك وكان الحسين عليه السلام قبل التحام الحرب قال لولده علي الأكبر تقدم يا بني ولذا كان علي الأكبر اول قتيل يوم الطف لأنه بعد قتله الكثير من الابطال أمر إبن سعد الجيش بالهجوم و قال اشهدوا لي عند الأمير عبيد الله بن زياد أني اول رام رمى الحسين بن علي فاحتوشوه من كل جانب ومكان وقطعوه بالسيوف وكان ذلك مخالفا لأعراف الحروب لكن لا عرف ولا دين لبني أمية و أزلامهم .

 وهكذا كانت سيرة الصادقين على طول التأريخ في حروبهم فذا هو علي عليه السلام و هو بطل الابطال يحدثنا ان المعارك التي كانت تجري في عهد رسول الله (ص) اذا اشتدت المعركة وحمي الوطيس واحمرت الحدق قال علي عليه السلام كنا عندها نلوذ برسول الله (ص) فما كان احد منا اقرب الى العدو منه.

أجل كان رسول الله (ص) عندما تشتد المعركة يجعل نفسه درعا يقي به أهل بيته والمسلمين وذا هو علي (ع) ايضا يحدثنا قائلا كان رسول الله (ص) اذا تقابلا الجيشان المسلمون والمشركون يقول تقدّم يا علي تقدم يا حمزة تقدم يا فلان ويا فلان من أهل بيته وعمومته فيجعل اهل بيته درعا يقي بهم المسلمين ونفسه درعا يقي بها أهل بيته وما سمعنا يوما من الأيام ان صالحا من الصالحين او اماما من الائمة او نبيا من الأنبياء الذين هم الأسوة لرسم معالم الشرع أمر اصحابه بالدفاع عن حق او عدل واختبأ ورائهم طالبا للآمن وكيف يكون ذلك وهو يرى القتل شهادة يلقى بها ربه و ذا هو علي عليه السلام يقف في القلب في معركة الجمل ويعطي الراية العظمى لولده محمد و يأمره بالتقدم فلما ابطأ بعث إليه ان تقدم يا بني فبعث إليه محمد بن الحنفية والله اني لأتقدم على جبال من الاسنة والسيوف فلما رأى علي عليه السلام نفسه اولى بحمل الراية العظمى من ولده محمد تقدم وأخذ الراية منه و سار بها نحو القوم فلم يسبقه احد اليهم ولم يكن احد أقرب منه الى أصحاب الجمل وكان قد جعل ولده الحسن و الحسين في الميمنة والميسرة وهكذا كانت حروبه في صفين والنهروان دروسا لطلاب الحقيقة واصحاب البصائر لنميز بذلك بين دعاة الحق والباطل وأهل الصدق والكذب ولنعرف سيرة الصادقين ومن كان يريد الاسلام لنفسه ليعيش به في الدنيا حياة الترف والرئاسة و الجبروت والسلطان على حساب قيم رسالات السماء ومن يريد نفسه للحق والاسلام مضحيا بكل غال ونفيس من أجل اعلاء كلمة لا إله إلا الله كلمة الحق التي بها تحقيق موازين العدل ليعيش الناس حياة الكرامة والعز لا الذل والهوان .

فكفى أيها الحكام ضحكا على الشعوب باسم الدين ومظاهر التقوى يا من قدمتم و تقدمون ابناء الناس و الفقراء والمساكين الى محارق الموت في لهوات الحروب وأنتم آمنون فاكهون في بيوتكم تستغلون جهل الأمة بشريعة الاسلام لغاياتكم وعروشكم يا من قلتم وتقولون إن تساقط ابناء الفقراء و البسطاء من الناس كالورق في أيام الخريف في محارق الحروب يا ليتنا كنا من حرس الثورة فهب انكم كنتم شيوخا عاجزين فأين قافلة الشهداء التي قدمتموها من الابناء و الاحفاد والاصحاب وذا هي الحرب قد دامت بين ايران والعراق ثمانية اعوان اكلت الاخضر واليابس وقتل فيها الملايين من المسلمين وجرح من جرح وهدمت فيها الديار واضيعت الحريم وقد قاتل مع الانبياء والائمة الصالحين من تجاوز الثمانين عاما كعمار وحبيب بن مظاهر وغيرهما من الابرار كثير على طول التأريخ فإن الحرب بين ايران والعراق ان كانت كما تزعمون بين الاسلام والكفر فلماذا لم تبادروا اليها شهداء في سبيل الحق لتكونوا اسوة يقتدي بكم الصالحون كما هي سنة الله في عباده بأن جعل الأنبياء واوصيائهم الكرام اسوة يقتدي بهم اهل البصائر.

هدانا الله وإياكم ايها الناس ويا أمة محمد (ص) الى مناهج اوليائه وثبتنا على الطريق وابعدنا عن الدجل والنفاق و الرياء انه ولي التوفيق والسلام على من اتبع الهدى .

فهذه كلمة حق لمن شاء الى ربه سبيلا لكي لا نكون من الكاتمين للحق وسيرة محمد و آله الطاهرين لمرضاة الاكثرية التي تقدس الرجال بدلا من تقديس شرع الله تعالى كما وانها كلمة تقال لإقامة الحجة ليوم لا ينفع فيه مال ولا بنون إلا من اتى الله بقلب سليم .

و أسمعوها ايها الناس لا من امثالي من الخاطئين والجهال المذنبين بل من الصادق الأمين سيد المرسلين محمد ابن عبد الله (ص) حيث يقول : (الحق لا يعرف بالرجال) فلا تخدعوا بالمظاهر وزنوا الرجال بالحق ولا تزنوا الحق بالرجال  واسمعوها ايضا ايها الناس من امام المتقين امير المؤمنين علي عليه السلام حيث يقول (الحق لا يعرف بالرجال اعرفوا الحق تعرفوا أهله).

أجل إنه من عرف الحق عرف أهله بموازين الحق علما وعملا وبذلك سيجد معالمه واضحة يتمكن بها ان يميز بين رجال الحق والباطل فاقرؤا ايها الناس بانفسكم سيرة محمد وآله الطاهرين قراءة لله تعالى تهتدوا بها الى سبل ربكم اللهم وفقنا للحق والعمل به و ابعدنا عن العيش على حساب دينك وجنبنا مسالك الشياطين الساكتين عن الحق لمرضاة العامة من عبادك إنك انت ارحم الراحمين حسبنا الله عليه توكلنا انه هو ارحم الراحمين.

 

مقالة بمناسبة شهر رمضان المبارك

مقالة بمناسبة شهر رمضان المبارك

بقلم سماحة الأستاذ الشيخ محمد كاظم الخاقاني

بسم الله الرحمن الرحيم والصلاة والسلام على محمد وآله الطبين الطاهرين.

وبعد فإنه لابد من السير والسلوك بعيدا عن التبعية والتسليم لكل ما قيل او يقال لشهود الحقائق بقدر المستطاع , تلك الحقائق النيرة التي راحت لتسدل عليها حجابا حوادث الدهور و تراكم صفحات الأيام والسنين وظلمات الليالي و إجتهادات الرجال سواء كانت ناشئة عن قصور او تفسير للحقائق بتبع الهوى حيث أن لهذه الأسباب وغيرها التأثير البالغ لفهم الكتاب والسنة وسيرة المعصومين عليهم السلام.

لأن مما بات جليا أن كل إنسان على قدر سعة عقله و سلامة فطرته وما للزمان والمكان والحضارات من تأثير ينظر الى الحياة و يقرأ التاريخ و رسالات السماء.

و نحن لا ندري كم من تأثير كان لهذه العوامل على فهم الشريعة التي وصلت بأيدينا و لذا كان على كل طالب حق أن يُمعن النظر بنفسه إن كان أهلا لذلك ليعيش الشريعة على جميع أبعادها الثلاث كتابا وسنة وسيرة بعيدا عن هذه الغشاوات والحجب حتى لا يستلم موروثا قد كبلته قيود الزمان والمكان و الأهواء والتقاليد و قد يكون في ضمن ذلك ما لا أصل له مما قد أصبح من المسلمات.

فالبدوي الأمي قد ينظر الى الحياة نظرة تختلف بكل مقاييسها و أبعادها عما يراه الحضري المثقف وإن كان كل منهما يحمل روح الإيمان.

و إذا كان محمد (ص) يدعو ربه أن يرى الحقائق كما هي فما هو حالنا نحن و نحن نعيش شرع الله بما له من البطون والأبعاد و الأسرار والخفايا التي تحتاج الى قدر ما من الحرية في الرأي و الإبتعاد عن التقاليد الموروثة و هذا مما يدعو طالب الحق أن يبتعد عن روح الكبر الذي قد يسوق الى الجهل المركب او الى الجزم الذي قد تكون مناشئه التقليد تحت مسميات الإجتهاد و لذا أقول أولا وقبل كل شيء لابد من التأمل في بعض مفردات الشريعة حتى نتمكن من خلال هذه المفردات قبل التوغل في أعماق العقيدة و فهم أبعادها بآياتها و عظيم رواياتها من الحصول على فهم يأخذ بنا شيئا بعد شيء للنظر والتأمل فيما هو أرفع منها مكانة حتى نرقى الى فهم أبعاد التوحيد و النبوة والإمامة و سيرة المعصومين سيرة نشاهد من خلالها شرع الله مطبقا على صعيد الخُلق العظيم و الحكومة الإسلامية كما وانه لابد من التأمل في عظيم المراد من القضاء والقدر و الأمر بين الأمرين بعيدا عن الجبر والتفويض و مزالق الأقدام التي دفعت و تدفع بالأمة  أن تعيش بعيدة عن روح الحياة حيث أصبحت أمة راكدة لا حراك فيها  إلا فيما يسوقها الى الجدل والعناد و التشتت والتمزق.

و أضرب لهذه المفردات التي يجب ان تكون منطلقا للحركة نحو فهم الشريعة أمثلة حيث أن كل واحد منا حين ينظر الى مفردة قد يفسرها بتبع الذوق و ماهو عليه من البعد المعرفي او الحضاري و لذا كانت هذه الأمور مؤثرة حتى على صعيد فهم هذه المفردات على الرغم من بساطتها فكيف بنا و فهم عظائم الأمور ودقائق الآيات والروايات و لذا نقول رب سامع لكلمة وردت عن الرسول (ص) وهي : (صوموا تصحوا) راح ليعطيها بعدا خاصا لأنه طبيب حيث تكون النظرة لديه نظرة تناسب الصحة الجسدية وما للصيام من تأثير على البدن و آخر راح لينظر إليها بمنظار آخر يشاهد فيها معالم الثبات و الخلق ومواساة الآخرين لتكون مدعاة له ليحس بآلام الفقراء والمساكين لنقاء نفسه و طهرها من حجب الغفلات و رب ثالث أعطى الكلمة او هذه الجملة بعدا اوسع من كل ذلك لتعم شؤون الحياة بما لها من بعد نفسي و جسدي و إقتصادي و سياسي و هي كلمة واحدة راح لينظر إليها كل واحد بمنظاره و يفسرها بما يناسبه من تفسير وربما قطع كل واحد بما ذهب إليه بتبع مناشيء قطعه.

أجل هكذا تفسر الكلمات و تختلف الآراء حتى بالنسبة الى المفردات فضلا عما كان يعود الى عميق معالم التوحيد و رفيع مقام الآيات و الروايات و سيرة المعصومين عليهم السلام.

و هكذا هم الناس على طول التأريخ في تلقيهم لمفاهيم الرسالة المحمدية فهذا لا يفهم من آية او رواية تحدثت عن الرزق إلا ما كان مرادا ماديا و آخر يتبادر ذهنه الى عظيم المنة و رفيع الهداية و شآبيب الألطاف ومنحة العقل من الله الرؤوف الرحيم.

وثالث بمجرد ان يسمع مثلا بأن الشكر يزيد النعم يزداد دعاءا وصلاة طالبا من ربه مزيدا من المال و ربما رأى أن أداء شكر النعمة هي كلمة الحمد بعد كل وجبة طعام و أنه بذلك قد أدى ما عليه من واجب النعم و قام بما عليه من أداء شكر النعمة و الحال لو أن متكلما او حكيما طرقت مسامعه كلمة شكر النعمة او المنعم لذهب الى القول بأن ذلك واجب عقلي حيث يجب شكر المنعم و لعل الفقيه يقول في المقام نعم إن ذلك قد ورد الأمر به فهو واجب لأن الأمر ظاهر في الوجوب.

فهكذا هي الأمور بكل أبعادها الإجتماعية والسياسية و الشرعية تختلف بإختلاف الآراء و تتقيد بقيود الزمان والمكان و تُفسر بتبع الإجتهاد وتسدل عليها الحجب تقليدا للآخرين حينما تعظم مكانتهم في النفوس حيث قد راحت هذه الامور وبعد طي القرون ان تدفع بالناظر الى الآيات والروايات نظرة مكبلة بالقيود حتى كاد ان يصبح العقل البشري غير حر من بعد ما خلقه الله تعالى حرا و أراد منه ان ينظر الى الحقائق بعقله و سلامة فطرته ولذا راحت لتشير الروايات الى انه حينما يأتي مهدي آل محمد (ص) ويفسر ويطبق شرع الله بما كان على عهد الرسول (ص) يأتيه بعض المؤمنين مستغربا قائلين له يبن رسول الله هل جئت بدين جديد؟! و إذا كان هذا هو حال بعض المؤمنين في أبعاد معارفه لفهم شرع الله فكيف حال سائر الناس , كل ذلك لإبتعاد الامة عن واقع شرع الله حينما راحت لتتهاون في الدين لتعرف الدين بكل أبعاده من أفواه الرجال إلا من كان من النوادر من البشر الذين حصّنهم الله عن مزالق الأقدام لطهر نفوسهم وخلوص نياتهم رحمة من الله بواسع لطفه حيث أن الله تعالى لا يضيّع عباده المخلَصين فهو الآخذ بأيديهم الى صراطه المستقيم رحمة بحالهم بعد اختبار نفوسهم وتمحيصها بشدائد الأمور و لإقامة الحجة على الآخرين ليوم الحساب حتى لا يقول قائل يومئذ إلهي وسيدي ومولاي ضاعت علي السبل في ظلمات الدهور ليقال له لو كنت أهلا لإهتديت الى سواء السبيل و أي احد أصدق مقالا من الله تعالى حيث يقول : (والذين جاهدوا فينا لنهدينهم سبلنا وان الله لمع المحسنين).

أجل هكذا قد اخذ الله تعالى على نفسه لطفا بحال العباد أن يهديهم الى سواء السبيل إن علم صدق النية و سبل الهداية لا تحد بحد في مدارج العلم والعمل حيث أن من المستحيل أن يبقي الله الشيطان مضلا ولا يجعل لأوليائه ما يتمسكون به ومن تلك المسالك لبلوغ الغايات و شهود معالمها ما أشار إليه تعالى في كتابه المجيد بالنسبة الى العبد الصالح و موسى عليهما السلام وعلى رأس الجميع هو مهدي آل محمد (ص) إصلاحا لبواطن الأمور و هديا لرجال الله المخلصين ولو بإشارة من قول تشعر به نفس اولئك الذين هم من أصحاب البصائر.

ولما اختلف شهود الحق باختلاف الآراء والغايات راح البعض ليعطي عظيم مقام الحب الذي هو أعظم مقام في الكون في مواطن حب الله تعالى وحب آل الرسول (ص) وفي مواطن فهم المراد من القربى مفهوما لغويا او قبليا ناسيا او متناسيا ان شرع الله بعيد كل البعد عن ضيق دائرة النزعات و ظلمات رواسب القبليات حيث أن الحب والآل حب إلهي والبيتوتة نبوية تحكي ابعاد الخلوص وسير الرسالة في مواطن التطبيق والبيان حيث يصبح الحب للقربى حبا للسلوك نحو معالم التوحيد في جميع هذه الأبعاد علما وعملا للعروج الى الله تعالى بطهر وبصيرة ومشاعل علم.

نعم هكذا تفهم الحقائق في ظلمات الدهور او بتبع طهر النفوس ليأخذ كل بقدر عقله وطهره بعد طي هذه القرون حيث أن ذلك هو واقع الأمم بما تعيشه على اختلاف مذاهبها وما تدعيه من يهودية او نصرانية او اسلام حينما جائت لتنظر الى شرايع السماء من خلال اجتهادات الرجال وغاياتها على طول التأريخ حتى أصبح لهذا التهاون في الدين رسالات السماء شعارا و إطارا لا يروي لناظره انوار الملكوت ولا حياة الكرامة والعدل والحق التي كانت غاية لجميع الانبياء والمرسلين وبها احيوا الأمم واخرجوها من الظلمات الى النور و جعلوها ثورة ضد الباطل والمبطلين.

أجل قد فُسرت كلمة المحبة بتبع ذهنية قبلية بأن المراد منها بأن محمدا (ص) نبي الرحمة والسلام هو كما انا وانت يتكلم بدوافع الحب الغريزي الفطري العائلي ظنا منهم ان سيد الكائنات رئيس قبيلة دفعته نوازع القبلية ان يدعو كغيره الى حب أهله واسرته كما هي سنن الحكام ورؤساء القبائل فراح ليُعطى الحب النبوي النابع من حب الله اللامتناهي بما يحمل من عظيم التآلف والتقارب والهدي والرشاد حبا ضيق الدائرة وجده البدوي متحققا بينه وبين أهل بيته كما وأن البيتوتة أيضا تختلف باختلاف الرؤى ومدارج المعارج الراجعة الى مسالك الربوبية ومعالم التوحيد حيث راح البعض ليظن أن الله ورسوله على مستوى عقولهم وأن مناشيء الحب والقرب عندهما هي كما عند زيد وعمرو.

هكذا راحت لتفسر بسائط الكلمات الى دقائقها في مواطن التوحيد والنبوة و الإمامة والقضاء والقدر بتبع الهوى وضيق مزالق الفهم حينما أنزل الحب الإلهي و النبوي الرفيع الى مستويات ظلمات القبائل حتى راح ليدفع بالبعض الى أن يتشوق لشهود ربه شابا جميلا في ساحة المحشر و راح ليصبح القضاء والقدر بما يحمل من عظيم المعاني حاملا في طياته الجبر المستلزم لوصف الله تعالى بالظلم و قائله على الرغم من هذه الأخطاء يبشر نفسه بأنه اصبح من المتألهين المتوغلين في أعماق المعارف الإلهية حيث أنه لا يرى ان القدرة الإلهية محددة و راحت لتصبح النبوة التي هي تجليات الأسماء والصفات الإلهية حيث أن انبياء الله على اختلاف مراتبهم هم ظهور عدله وحكمته وعلمه و رحمته وغضبه راح ليدفع ضيق الرؤى بالبعض ان يرى محمدا سيد الكائنات حامل بريد كأعراب الجاهلية قبل ان يُحمّل اعباء الرسالة لإحياء البشرية بل رحمة للعالمين.

كما وأن بصمات الليالي والأيام والآراء والأذواق وقيود الحضارات كانت وما تزال مؤثرة مشهودة حتى بالنسبة الى مفاهيم كادت ان تكون بنفسها بديهية واضحة لولا أن ألقت هذه المؤثرات بظلالها عليها فخدشت معالم وجهها الناصع كمفهوم الخير والشر والحق والعدل فأصبح الخير مالا و الشر فقرا لا يتبادر الى الأذهان منهما إلا ذلك وقد كان قارون غنيا والأنبياء الكرام فقراء , هكذا هي الأذهان حينما أصبحت المجتمعات تعيش مادية الفكر حتى كاد أن ينسى المؤمن فضلا عن غيره أن الخير هو العقل و الهداية والتوفيق الإلهي لسلوك سبل الربوبية والثبات على الصراط المستقيم أجل من بعد ان كان للخير ابعادا كثيرة راح كل انسان ليراه بمنظاره حتى تضيقت دائرته عند الكثير في الدرهم والدينار و إن كانا هما من الخير لو سلك بهما صاحبهما مسالك الرحمة والجود ولم يصبح مثالا لقوله تعالى (إن الإنسان ليطغى إن رآه استغنى) وهم اكثرية البشر إلا من رحمه الله تعالى لزكاة نفس إشتعلت بمشاعل العلم و تأدبت بأدب الله تواضعا يسوق إلى معارج الربوبية.

هكذا راح الناس ليفسروا حتى البديهيات من المفاهيم كالخير والشر حينما عاشوا ليالي الغفلات بعيدين عن الغاية التي من أجلها خُلقوا المشار إليها بقوله تعالى : (وما خلقت الجن والإنس إلا ليعبدون) كما وأنه تعالى ما بعث الأنبياء الكرام إلا ليقوم الناس بالقسط لكن العبادة التي هي واقع الحياة بكل أبعادها خُلقا ومعرفة وسلوكا على الصراط المستقيم بكل ما يحمل من أبعاد الحق في مقابل الباطل وما للعدل من رفيع مقام في مقابل الظلم والظالمين راحت لتصبح كل هذه الحقائق مجرد ذكر لفظي لا حراك ولا روح فيه حينما فسر للناس الذين هان عليهم دينهم شرع الله أصحاب المآرب والغايات بتبع الهوى وهكذا راحت لتفسر الجماعة بالأكثرية بدلا من أن تكون جماعة الإيمان و راح ليفسر الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر بالأمر بالصلاة و النهي عن شرب الخمر فقط تاركين ما لهما من واسع امر يدعو الى كل خير و يبعد عن كل شر و راحت لتفسر الطاعة بالإستسلام لمن ملك مقاليد الأمور و لو كان من الأشقياء و هكذا راحت لتفسر التقية بالصمت وهلمّ جرا راحت لتتصدع معالم الدين في كل مجالاتها بعد أن كانت رسالات السماء ثورة ضد الجهل و الظلم والظالمين وبتبع ما تقدم من البيان أقول إنه لابد من نظرة جديدة حرة و قراءة نزيهة لجميع معالم شرع الله كتابا و سنة وسيرة للمعصومين عليهم السلام حتى لا يكون شهود الحق من وراء هذه التراكمات التي املتها صحائف الأيام و أعطتها طابع الصدق حتى اصبحت وكأنها من مسلمات الشرع القويم التي لا يجوز لأحد التأمل فيها فضلا عن التشكيك او الحكم عليها بالبطلان.

و إذا كان كتاب الله تعالى ميزانا توزن به الأحاديث صدقا وكذبا وعليه يجب ان يعرض أيضا ما يدعى من سلوك للرسول و آله الكرام علي الكتاب المجيد حتى يضرب بما يخالفه من أمر عرض الجدار فإنه مما يجدر به أن يقال كيف يمكن العرض على كتاب الله وهو قد أصبح مهجورا بين المسلمين و كيف يمكن لمن لا يعرف القرآن ان يعرض عليه الأحاديث و سيرة المعصومين ولذا يجب الرجوع الى الكتاب المجيد اولا ليصبح ميزانا للحق حتى يطرح ما يعارضه من حديث او مالا يناسبه من سيرة تدعى بالنسبة الى المعصومين التي أريد منها ان تكون تجسيدا لأبعاد الحق والعدل لمن أراد الى ربه سبيلا لكن من المؤسف ان هذه أيضا أصبحت لا تروي لعشاق الحق إلا تأريخ ولادة او وفاة وكم هو عدد الأبناء والزوجات وبعض الفضائل والكرامات التي تنتقى بتبع الأذواق وقد يكون بعضها من الخرافات تاركين منها ما يكون يقظة للضمير و نورا للهدى ليكون سيرة و سلوكا للأمة في ظلمات الدهور.

و إذا كانت الغاية من بعثة الأنبياء عليهم السلام (ليقوم الناس بالقسط) و( أن الله تعالى لو لم يبق من الدنيا إلا يوم واحد لأطال ذلك اليوم حتى يخرج مهدي آل محمد (عج) لإقامة العدل وتطهير الأرض من الجور) فإنه يصبح لزاما على كل مؤمن ومؤمنة أن يراجع نفسه ويحاسبها قبل الحساب و كذلك قبل يوم الظهور هل هو وجد الدين في نفسه عدلا به قوام كل شيء فراح ليسعى لتحقيق العدل في نفسه و مجتمعه ليكون أهلا لذلك لو جاء يوم الظهور أم انه يحيي الأيام والليالي بالأدعية ويجري المدامع صبيحة يوم الجمعة إذا قرأ دعاء الندبة وهو في واقعه يعيش من اعوان الظالمين ولو بصمته عن الظلم والظالمين وهو يعلم علم اليقين أن تحت راية الظلم و إن تلبست بلباس الدين يفسر الكتاب المجيد بتبع الهوى وكذلك الروايات و تقسم الاموال كذلك و تقام الصلوات في معابد رب العالمين و لو بإمامة من هم من أشباه الحجاج بن يوسف الثقفي والحال ان شرع الله لا لبس فيه لمن عاش سيرة الرسول و الأئمة الكرام ولحسن الختام نذكر شواهد حق من سيرتهم العطرة لتكون ذكرى للذاكرين ومن أحب الحياة الكريمة ولم يغالط النفس بجعل الرجال موازين للحق فمن تلك السيرة العطرة لإصلاح النفوس ومعرفة الحق ما جاء عن علي (ع) :(إن الله جعلني إماما لخلقه ففرض علي التقدير في نفسي و مطعمي ومشربي و ملبسي كضعفاء الناس كي يقتدي الفقير بفقري ولا يطغي الغني غناه) وقال عليه السلام في موطن آخر : (إن الله عزوجل فرض على أئمة العدل أن يقدروا انفسهم بضعفة الناس كي لا يتبيغ بالفقير فقره).

وقد ورد عنهم عليهم السلام (إن قائمنا أهل البيت إذا قام لبس ثياب علي عليه السلام وسار بسيرته) وقد جاء عن علي عليه السلام في سيرة رسول الله (ص) (إنه كان طبيبا دوارا بطبه) أي أنه كان يخالط الناس ويعيش حياتهم ويصلح حالهم بما أوتي من علم ومال ولم يعش العزلة عن مأساة الأمة .

وقد ورد عن الحجة (عج) بالنسبة الى من هم فقهاء الأمة الذين يجب الرجوع اليهم : (وأما الحوادث الواقعة فإرجعوا فيها الى رواة حديثنا…) و الحوادث كما يعلم الجميع ليست حكما شرعيا وإنما هي ما تعيشه الأمة لكي يكون الفقيه مرشدا يعيش احزان الأمة و مأساتها لتقتدي به الأمة لمعرفة مناهج الانبياء والأئمة الكرام.

والبصير يعرف الحق بالحق لا بالرجال إلا من وجدهم ميزان صدق به شهود سيرة الأنبياء والأوصياء الكرام جعلنا الله و إياكم ممن عاش البصيرة لشهود الحق و العمل به والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته .

في حاب الإمام الحسين ع المحاضرة 14

محاضرات في رحاب الإمام الحسين عليه السلام 
لسماحة الأستاذ الشيخ محمد كاظم الخاقاني
المحاضرة 14
عنوان المحاضرة: من هم الذين قتلهم معاوية مع حجر بن عدي وكيف كان كلامهم وقوة إيمانهم؟


في حاب الإمام الحسين ع المحاضرة 13

محاضرات في رحاب الإمام الحسين عليه السلام 
لسماحة الأستاذ الشيخ محمد كاظم الخاقاني
المحاضرة 13
عنوان المحاضرة:ما هي كلمات الإمام الحسين ع لأهل العراق في طريقه إلى كربلاء؟