شرح خطبة الشقشقية للإمام
علي عليه السلام رقم 6
كتبت من محاضرة صوتية ألقاها سماحة الشيخ محمد كاظم الخاقاني قبل سنين
في الكويت
المحاضرة السادسة
كان البحث في شرح الخطبة
الشقشقية للإمام علي (ع) ، وقد وصلنا في البحث إلى هنا: ( فما راعني إلاّ والناس
كعرف الضبع إليّ ينثالون عليّ من كلّ جانب حتى
لقد وطيء الحسنان و شق عطفاي مجتمعين حولي كربيضة الغنم فلما نهضت بالأمر نكثت
طائفة و مرقت أخرى و قسط آخرون كأنهم لم يسمعوا كلام الله ) .
فعندما نراجع هذه الخطبة
نشاهد في بعض مجالاتها: أنّ الإمام
علي (ع) يقول: لو وجدتُ أنصاراً لصلت على القوم، وفي آخرها نشاهده يَرُدّ الناس ثلاثة أيام، ويصرّ على عدم القبول، حتى يصل الأمر منه إلى أن يقول لهم: لا حاجة لي في أمركم، أنا معكم، فمن اخترتم رضيت به، فإنّي أكون وزيراً خير من أن أكون أميراً، فإذا كان يريد أنصارا لإقامة الحق و ضرب المتقمصين بقميص الخلافة كيف يردّ القوم من بعد ما جاء المسلمون إليه بكافّة طبقاتهم؟ بأنصارهم ومهاجريهم، بممثّليهم من كلّ الأقطار الإسلامية، الذين كانوا في الحج، فجاؤوا إلى المدينة بعد ختام مناسك الحج، فكيف يمكن أن نجمع بين الأمرين: بين صولته لو وجد أنصاراً، وبين قوله في ختام الخطبة: لا حاجة لي في إمرتكم أنا معكم، فمن اخترتم فقد رضيت به؟ فما المراد من هذا الرضا الذي يشير إليه الإمام (ع) ؟
علي (ع) يقول: لو وجدتُ أنصاراً لصلت على القوم، وفي آخرها نشاهده يَرُدّ الناس ثلاثة أيام، ويصرّ على عدم القبول، حتى يصل الأمر منه إلى أن يقول لهم: لا حاجة لي في أمركم، أنا معكم، فمن اخترتم رضيت به، فإنّي أكون وزيراً خير من أن أكون أميراً، فإذا كان يريد أنصارا لإقامة الحق و ضرب المتقمصين بقميص الخلافة كيف يردّ القوم من بعد ما جاء المسلمون إليه بكافّة طبقاتهم؟ بأنصارهم ومهاجريهم، بممثّليهم من كلّ الأقطار الإسلامية، الذين كانوا في الحج، فجاؤوا إلى المدينة بعد ختام مناسك الحج، فكيف يمكن أن نجمع بين الأمرين: بين صولته لو وجد أنصاراً، وبين قوله في ختام الخطبة: لا حاجة لي في إمرتكم أنا معكم، فمن اخترتم فقد رضيت به؟ فما المراد من هذا الرضا الذي يشير إليه الإمام (ع) ؟
أقول: هنا نكتة دقيقة يجب
الالتفات إليها، وتستفاد أيضاً من سيرة رسول اللَّه (ص) ، وهي: أنّه حينما حاصر
المشركون واليهود والكثير من المتعاهدين معهم المسلمين في الخندق في حرب الأحزاب،
واستمرّت المسألة والحصار شهراً كاملاً، بعث الرسول (ص) على رؤساء الأنصار وخاطبهم
ليخفّف الوطئة والحصار على المحاصرين بإعطائه بني غطفان ــ وهم عشرة آلاف مقاتل ــ
نصف ثمار تمر المدينة أو ثلثه حتى يرجعوا عن مناصرة مشركي
قريش، ولكنه (ص) لمّا وجدهم لا رضاء لهم في ذلك تنزّل إلى رأيهم ولم يحمّلهم رأياً
في مسألة عسكرية، وكذلك لمّا وقع الخلاف في الرأي بين الرسول (ص) والمسلمين في
غزوة أحد على الخروج خارج المدينة أو الدفاع عن المدينة في داخلها، كذلك على خلاف
رأيه، تنازل إلى رأي الأكثرية من المسلمين، وهكذا في كثير من الموارد نشاهد الرسول
(ص) ؛ تنمية لروح الحرية وحركة العقل، أعطى الحرية للمسلمين حتى يشعروا بأنّ لهم
رأياً، وأنّ رأيهم محترم، وأن المصير مصيرهم، وهم بروح الحرية أولى به من كل أحد
ما دام شأناً إسلامياً، لا مدخلية لـه في حكم، فللمسلمين أن يختاروا ما ينفعهم أو
يضرهم، لا أنها مشورة خداع لا قيمة لها، كما نشاهد في كثير من البلاد الإسلامية؛
حيث يكون الرأي أوّلاً وأخيراً للحاكم، فهناك مواطن فيها شورى، وفيها مماشاة لآراء
المسلمين، وهناك مواطن فيها جري الشريعة لا يمكن فيها التغيير والتبديل، فهنا لا
يسأل الرسول (ص) المسلمين: هل يقبلون وجوب الصلاة أم لا مثلاً؟ أو هل يقبلون حرمة
الخمر أم لا؟
فهنا ما جاء (ص) ليشاورهم في
مثل هذه الأمور، لا في أحكامها، ولا في جميع شؤونها، ولا في واجباتها أو محرّماتها
أو مستحباتها، ولا في أخلاقها، ولا في تشريعه العسكري أو الاقتصادي، أو حدودها
وقصاصها، ولا في أيّ جانب من جوانب الشريعة، فهو في جميع ذلك لم يكن ليشاور أحداً
في هذه الأمور؛ فإنه شرع اللَّه تعالى، وأوّل الناس امتثالاً لـه هو الرسول (ص) ،
فحكم اللَّه وشرعه ليس لأحد فيه رأي، ولا نظر، لكن الرسول (ص) شاورهم في أمور أخرى
كما ذكرنا، حتى لا يصبح المسلم يتبع الحكومة بلا تفكير ولا نظر ولا سؤال، وليميت
روح الاستبداد بين الناس، ويحيي روح الحرية والتفكر، لكي لا يصبح المسلم المثالي
من لا يسمع، ولا يرى، ولا يتكلم، كما صنع الحكّام ووعّاظ السلاطين بالمسلمين، فهذا
النمط المثالي من المسلمين.
فكذلك الإمام علي (ع) جاء
ليطبّق أبعاد الشريعة؛ لأنّ الشريعة في بدايتها قد لا تكون واضحة؛ لكون المسلمين
لم يسبقوا بالموازين والقيم الشرعية قبل عهد الرسول (ص) ، ولكون كثير من أحكام
الشريعة جاءت في السنين الأخيرة من عهد الرسول (ص) ، فما ساروا فترة طويلة من
الزمن على طبقها حتى يعرفوا موارد التطبيق الصحيح، ولتصبح حياة المسلمين بعدما
تنتهي رواسب الجاهلية منهم والتي أشار الكتاب المجيد إلى عمق رسوخها في النفوس،
كما في قصص بني إسرائيل مع موسى (ع) ، وما لروح الوثنية من تأصّل في أفكارهم
وأفعالهم، وعليه فقد يقع المسلم في الخطأ في مواطن التطبيق، أو قد تدعوه رواسب
الجاهلية إلى الانقلاب على الأعقاب، كما حصل ذلك بعد كل نبي، وبعد رحيل الرسول
الأعظم (ص) ، ولذا أراد اللَّه تعالى للبشرية أن تكون بعد كلّ نبي أوصياء، يطبّقون
الشريعة عقباً بعد عقب إلى سنين طوال، حتى تطبّق الشريعة باثني عشر نقيباً،
تطبيقاً بلا زيادة ولا نقصان؛ لتحفظ الشريعة من الإفراط والتفريط، ولتصبح الشريعة
حضارة للمجتمع، لا حكماً وثقلاً وتكليفاً على عواتقهم، وهذا هو الذي حرّفه الشيخان
وتجاوزا عليه، فأضاعا به شرع اللَّه تعالى، وظلما من خلاله عباد اللَّه.
فإذن: نقول: تكريماً للحرية،
وتنبيهاً لروح الإحساس بالمسؤولية التي رفع شعارها الرسول (ص) : ( كلكم راع وكلكم
مسؤول عن رعيته) ([1][1])، فتح روّاد السلام الإلهيون
الأبواب للأمم ليختاروا مصيرهم بأنفسهم، ولو كان الأمر في بعض الأحيان يدعو إلى
الخطأ والضرر، وقد جاء الرسول (ص) في غدير خم ليبيّن للأمة التي ما عرفت لسان
الحرية، ولا لسان المثل والقيم، ولا عرفت أيَّ لسانٍ إلاّ لسان السيف والعصا، ولذا
تعجّبوا من كلمات ومنهج الرسول (ص) كيف يقول: ( من كنت مولاه فعليٌّ مولاه) ([2][2]) ، فهذه صياغة ما سمعتها
العرب ولا العجم من ذي قبل، بل كانوا معتادين أن يسمعوا: هذا هو وليّ العهد من
بعدي، ومن خالفه قطع عنقه، فالناس معتادون على لسان السيف لا لسان الحرية والديمقراطية،
وإن سموا أنفسهم بالمسلمين لكن حضارة الجاهلية بعدُ لم تنتزع رواسبها من أعماق
النفوس، فلما جاء الرسول محترماً لروح الحرية وعيّن علياً (ع) في غدير خم، الذي
عينته الآيات والروايات بقوله (ص) : ( أنا مدينة العلم وعليٌّ بابها) ([3][3]) ، و ( أنت منّي بمنزلة هارون
من موسى) ([4][4]) ، فهذه الكلمات لا تفهمها
الأمم؛ لأنّ الناس عبيد العصا، يفهمون أن يقف الرسول (ص) ويقول: من تخلّف عن بيعة
أمير المؤمنين علي بن أبي طالب ضربت عنقه. ومرّت ألف وأربعمائة سنة على كلام
الرسول (ص) ، وحتى هذه اللحظة، ما فهمت الأمة الإسلامية هذا الكلام، ويقولون: لو
كان الرسول (ص) يريد علياً (ع) لعيّنه ونصّبه، فيجب على الأمة أن يأتوا إلى علي
(ع) من بعد ما عرفوا معنى: من كنت مولاه فعليٌ مولاه، وتم البيان.
أجل، كان على الناس أن يأتوا ملتمسين طائعين، فاهمين لحقائق
الأمور، ويطلبوا من علي (ع) أن يقيم لهم الحق والعدل، ولكن لما ذهبوا يتصارعون على
سلطان محمّد، كما يقول ابن الخطّاب، وعلي (ع) في بيته جالس مشغول بتكفين وتجهيز
الرسول (ص) كان ينتظر من الأمة التي ربّاها رسول اللَّه (ص) أن تأتي بنفسها مطيعة
وملتمسة خاضعة لصاحب الحق؛ ليمنّ عليهم بتطبيق الشريعة، وبيان آفاقها: كتاباً
وسنّة، لكنهم لمّا اختاروا أبا بكر ما نازعهم الإمام علي (ع) ؛ تكريماً لحرية
الرأي، والقرآن أكبر شاهد، حيث يقول: { وما محمد إلاّ رسول قد خلت من قبله الرسل
أفإن مات أو قتل انقلبتم على أعقابكم ومن ينقلب على عقبيه فلن يضرّ اللَّه شيئاً} ([5][5]) فإنّ الانقلاب على الأعقاب
ما كان فردياً، بل كان يمثل الأغلبية، فلما كانت الأغلبية تريد أبا بكر خليفة لقرب
عقلية الحاكم والمحكوم ما خالفهم عليّ (ع) ، لكن لمّا جاؤوا ليصوغوا كلّ كبيرة
وصغيرة من انحرافاتهم، ويقولوا كلّ مقالة تبعاً لشهواتهم ورغباتهم وينسبوها للَّه
ولرسوله، ويقولوا كل ما جاء به الأول والثاني والثالث هو سيرة رسول اللَّه (ص) ،
وهو شرح للكتاب المجيد، وقف علي (ع) ، ومواقفه ضدّ الشيخين ومواقفه مع الثالث
معروفة، وقال في هذه الخطبة مشيراً إلى كل ذلك: ( أن أصول بيدٍ جذّاء، أو أصبر على
طخية عمياء) .
فإذن: ليس هناك من تناقض بين
صدر هذه الخطبة وذيلها؛ لذا ما بايع علي (ع) هؤلاء المنقلبين على الأعقاب إلاّ
قهراً، إلاّ من بعدما هوجم، إلاّ من بعدما وجد الخلاف من الأنصار والمهاجرين، وقال
لهم علي (ع) بعد مقتل الخليفة الثالث: لا حاجة لي في أمركم، لكنه لم يقل: لا حاجة
لي في مواريث النبوة والخلافة على وجه الأرض وتمثيل الأنبياء والأوصياء، بل قال:
أنا معكم، فمن اخترتم فقد رضيت به، ومعناه: من اخترتم لهكذا خلافة هي من شأن
أموركم وحياتكم لا ربط لها بشرع اللَّه ( فإني أكون وزيراً خير من أن أكون أميراً)
([6][6]) فهو يعني: إذا كنت أميراً
يجب أن أطبّق الرسالة، وتطبيق الرسالة بمثلها وقيمها الرفيعة على أمّة تعيش
الظلمات وروح الجاهلية على حساب الدين ليس من الممكن في هذا الوقت بعد خمس وعشرين
سنة من الانحراف والضلالة، بل هو من المحال.
ثم قال (ع): ( دعوني والتمسوا
غيري) وهذا الكلام أيضاً يدلّ على أنه ما كان يريد أن يكون خليفة لأمّة تريد
الخليفة لشهواتها ورغباتها.
ثمّ قال: ( فإنّا مستقبلون
أمراً لـه وجوهٌ وألوان، لا تقوم لـه القلوب) يعني العقول، فيقول (ع) : كيف تريدون
إصلاحاً بعد خمسة وعشرين سنة من الانحراف؟ وكيف أتمكن من أن أصلح نفوساً توغّلت في
الظلمات وسقطت إلى الحضيض؟ فلا يمكن إخراجها إلى نورانية شريعة السماء التي أرادها اللَّه ورسوله مرة ثانية، والناس اليوم يصعب عليهم أن
يميّزوا بين الأمين والخائن، والحق والباطل، والنور والظلمة، فكيف يمكن لعلي (ع)
أن يرد أمّة اعتادت أن تسمّي الخطأ صواباً، وأن تسمي الذئب راعياً، وأن تسمي
المنافق زاهداً، وأن تسمّي الفاسق الجائر والياً ؟
فقال (ع): ( فإنّا مستقبلون
أمراً لـه وجوه وألوان، لا تقوم لـه القلوب، ولا تثبت عليه العقول) ، لماذا يا
أمير المؤمنين؟ وكأنه قال: وذلك لما حدث من التغيير ( وإن الآفاق قد أغامت) يعني:
غطّت الحقائق، فأصبحت الآفاق الحقيقية لشريعة رسول اللَّه (ص) لا تشاهد إلاّ
ببصيرة أبي ذر وعمّار ومالك، وأين أنتم أيها السواد الأعظم من بصيرة هؤلاء العظماء
أصحاب البصائر والألباب؟ أما الأعمى فلا يستطيع أن يشاهد الآفاق الصحيحة السليمة
من خلال هذه الغيوم، بل ربما يختلط الأمر على السليم أيضاً، وعليه فكيف يمكن أن
يرجع الإمام (ع) الأمر إلى صوابه من بعد ما تبدّلت الموازين، وغامت الآفاق باسم
الحق في غضون خمسٍ وعشرين سنة؟ حيث يقول:
( وإنّ الآفاق قد أغامت، والمحجّة قد تنكّرت) يعني: المحجّة البيضاء أصبحت لا تعرف ولا ترى، وهي الحقيقة، والمعروف حيث أصبح منكراً يعني: أصبحت المنكرات معروفاً، والمعروف منكراً، وحيث قال: ( واعلموا أنّي إن أجبتكم ركبت بكم) فأنتم إنّما صحتم: واإسلاماه، وواديناه، حينما نهب الثالث وبنو أبيه بيت المال نهباً، وخصص المناصب ببني أمية، فنازعتموه لدنياكم، وليس لدينكم، فما نازعتم الخليفة الثالث في أمرٍ شرعي، أو في إضاعة مواريث النبوة، بل نازعتموه ولايةً ومالاً وحكماً ونهباً لبيت مال المسلمين، و ( إني إن أجبتكم ركبت بكم ما أعلم) ؛ لأنّ هدفي أن أتوصّل لأخراي، ولكن كيف يكون ذلك بواسطة قوم ما قاموا على الخليفة الثالث إلاّ بسبب الدنيا وصراع المصالح؟
( وإنّ الآفاق قد أغامت، والمحجّة قد تنكّرت) يعني: المحجّة البيضاء أصبحت لا تعرف ولا ترى، وهي الحقيقة، والمعروف حيث أصبح منكراً يعني: أصبحت المنكرات معروفاً، والمعروف منكراً، وحيث قال: ( واعلموا أنّي إن أجبتكم ركبت بكم) فأنتم إنّما صحتم: واإسلاماه، وواديناه، حينما نهب الثالث وبنو أبيه بيت المال نهباً، وخصص المناصب ببني أمية، فنازعتموه لدنياكم، وليس لدينكم، فما نازعتم الخليفة الثالث في أمرٍ شرعي، أو في إضاعة مواريث النبوة، بل نازعتموه ولايةً ومالاً وحكماً ونهباً لبيت مال المسلمين، و ( إني إن أجبتكم ركبت بكم ما أعلم) ؛ لأنّ هدفي أن أتوصّل لأخراي، ولكن كيف يكون ذلك بواسطة قوم ما قاموا على الخليفة الثالث إلاّ بسبب الدنيا وصراع المصالح؟
( فاعلموا أني إذا أجبتكم
ركبت بكم ما أعلم، ولم أصغ إلى قول القائل، وعتب العاتب) لكن اتركوني فهو خير لكم؛
لأني لست ذلك الرجل الذي تريدونه، أنتم تريدون رجلاً جسراً لدنياكم، وأنا لست ذلك
الرجل، فإن استلمت الأمور سرت على كتاب اللَّه وسنّة نبيّه، ولو كنتم تريدون سنّة
وكتاباً لجئتم إلى الحق بعد وفاة رسول اللَّه (ص) ، حينما كانت الآفاق واضحة،
والمحجّة ناصعة، وحينما كان العهد قريباً، ( وإن تركتموني) يكرّر العبارة عليهم
مرة بعد مرّة؛ لتكون حجّة عليهم يوم القيامة، وبحمد اللَّه هم إلى يومنا هذا كما
كانوا قبل ألف وأربعمائة سنة، وقد تصل الحالة في الانحطاط إلى مرحلة أن يتردّد
متردّدهم بين علي (ع) ومعاوية، فهكذا مسلم ننزّه كلمة الإسلام والاستسلام للحقيقة
والعقل السليم والفطرة منه؛ لأنّ مما لا ريب فيه أن البهيمة تظلم بانتسابها إليه،
ولكن أمرنا بحسب الأحكام لمصلحة أن نسمّيه في دار الدنيا مسلماً، وأن عليه أحكام
المسلمين.
ثمّ قال (ع): ( وإن تركتموني
فأنا كأحدكم، ولعلّي أسمعكم وأطوعكم لمن وليتموه أمركم) فما دامت المسألة أموراً
شخصية وأمراً يرجع إليكم، فأنا معكم، ( وأنا لكم وزيراً خير لكم منّي أميراً)
فإذن: الذي دفعه وردّه عليّ (ع) في بداية رحيل رسول اللَّه (ص) هي أمور الدنيا،
وكون الدنيا جسراً لمصالحهم، وكون الولاية وسيلة لمآربهم، فهذا هو الذي ردّه
علي (ع) ، أمّا مواريث النبوة فقد مرّ منه أنه قال: ( أرى تراثي نهباً) ، وقد مرّ منه على أنّه يلتمس أنصاراً ثمّ قال: ( أن أصول بيدٍ جذّاء) .
علي (ع) ، أمّا مواريث النبوة فقد مرّ منه أنه قال: ( أرى تراثي نهباً) ، وقد مرّ منه على أنّه يلتمس أنصاراً ثمّ قال: ( أن أصول بيدٍ جذّاء) .
والآن نلخّص ما مرّ من هذه
الخطبة في أمور:
الأمر الأول: إنّ الذي أراده
علي (ع) في أن يصول من أجله لو وجد أنصاراً هي مواريث النبوة والإمامة والخلافة
للَّه على وجه الأرض؛ حيث أشار إليها بقوله: ( أن أصول بيدٍ جذّاء، أو أصبر على
طخية عمياء) .
الأمر الثاني: بيان أنّ
استقالة الخليفة الأول ما كان حقيقة، بل تظاهراً بالزهد والتقوى، حينما أشار (ع)
بقوله: ( بينما هو يستقيلها في حياته إذ عقدها لآخر بعد وفاته) يعني قولـه:
أقيلوني أقيلوني لست بخيركم وعليٌّ فيكم، ما كان إلاّ وسيلة للتظاهر بالزهد
والتقوى، وقد كذّب نفسه حينما نصّب الثاني، وقال: إنّ خير خلق اللَّه هو عمر بن
الخطاب.
الأمر الثالث: أنّ هذه الخطبة
تشير إلى خشونة عهد الخليفة الثاني، وتردّده في الأحكام، وتعثّره في الموازين؛
استبداداً منه بالرأي المشار إليه بقوله (ع) : ( فصيّرها في حوزة خشناء) وأنه ليس
قابلاً للتفاهم والمشورة؛ لما هو مصاب به من الكبر وغلاظة الطبع.
الأمر الرابع: بيان أنّ أهل
الإيمان والمعرفة إن وقفوا أمام الرجل الثاني أضرّوا أنفسهم، وإن سكتوا أوقعوا
أنفسهم في مهالك مخالفة الحق تعالى، وضياع الشريعة باسم الدين؛ حيث أشار (ع) إلى
ذلك بقولـه: ( فصاحبها كراكب الصعبة) .
الأمر الخامس: أنّ علياً (ع)
بيّن مسرحية الشورى التي ابتدعها الخليفة الثاني، فبيّن أنها كلمة حق أريد بها
باطل، بعد غض الطرف عن الأمر الثابت، وهو النصّ على الإمامة.
الأمر السادس: بيان أنّه عند
الاضطرار أو عند الظروف المعيّنة يستطيع الإنسان أن يعمل التقيّة؛ حيث إنها ميزان
العقل، وهذه المجاراة ليست في أمور الشريعة، بل هي إنما تكون تكريماً لرأي
الأكثرية؛ للابتعاد عن روح الاستبداد ما دام الأمر أمراً بشرياً.
ثمّ يقول الإمام (ع): ( فما
راعني) أي فما أفزعني ( إلاّ والناس كعرف الضبع) قلنا: الضبع حيوان كثر الشعر على
عنقه، فأصبح يضرب مثلاً للازدحام وكثرة الناس، ( إليَّ ينثالون عليّ من كل جانب)
أي يزدحمون وينصبّون عليَّ انصباباً، ( حتى لقد وطىء الحسنان، وشقّ عطفاي) يعني:
وخدش جنباه من شدة الازدحام، ( مجتمعين حولي كربيضة الغنم، فلما نهضت بالأمر نكثت
طائفة) أي: نقضت العهد، وأشار بذلك إلى طلحة والزبير، وإلى بعض الأنصار والمهاجرين
الذين نكثوا العهد والتحقوا بأهل الجمل في البصرة من بعد ما بايعوه، ( ومرقت) أي:
وخرجت طائفة أخرى من الدين، وهو إشارة إلى الخوارج الذين كانوا يظنون بأنفسهم
زهّاداً،
( وقسط آخرون) وهم معاوية وأهل الشام، كأنهم لم يسمعوا قول اللَّه تعالى حيث يقول: { تلك الدار الآخرة نجعلها للذين لا يريدون علواً في الأرض ولا فساداً والعاقبة للمتقين} ([7][7]) .
( وقسط آخرون) وهم معاوية وأهل الشام، كأنهم لم يسمعوا قول اللَّه تعالى حيث يقول: { تلك الدار الآخرة نجعلها للذين لا يريدون علواً في الأرض ولا فساداً والعاقبة للمتقين} ([7][7]) .
ثم قال (ع) : ( بلى واللَّه،
لقد سمعوها ووعوها، ولكنهم حليت الدنيا) تشبيهاً للدنيا بالمرأة، ( في أعينهم،
وراقهم) أي: وأعجبهم ( زبرجها) أي: زينتها الخلاّبة، ( أما والذي فلق الحبة، وبرأ
النسمة، لولا حضور الحاضر) وهو هذا الجمع الذي جاء إليه للبيعة ( وقيام الحجّة
بوجود الناصر) فالأمر الأول هو حضور المسلمين للبيعة، والأمر الثاني هو بأنهم
أقاموا عليَّ الحجّة بأنّ الناصر موجود إن أردت أن تقوم بالحق، وإن كنت أعرف أنّ
هؤلاء ليسوا بأهل نصرة لحق؛ لأنهم قاتلوا عثمان لدنياهم لا لدينهم، ( وما أخذ
اللَّه على العلماء أن لا يقارّوا على كظّة ظالم) يعني: أن لا يسكتوا ولا يوافقوا
ولا يقرّوا على كظّة أي شدّة ظلم الظالم ( ولا سغب مظلوم) أي: ولا شدّة جوع
الجائع، والمراد به هضم الحقوق، أي على العلماء أن يبيّنوا الأمر لمّا نصبوا
أنفسهم مراجع للناس، فعليهم أن يبـيّنوا الحقائق للناس، وما جعلهم اللَّه تعالى
مراجع فقط ليأخذوا الأخماس والزكوات وتنهب الشريعة بكلّ قيمها، وهم يتترّسون
بالتقية؛ فراراً من المسؤولية، قائلين: نحن لا نتدخل في السياسة، والسياسة الباطلة
طلب الزعامة وإدارة الحكم بالمكر والشيطنة لا الدفاع عن حق المظلوم بالأمر بالمعروف
والنهي عن المنكر، ( لألقيت حبلها على غاربها) أي: فلولا هذه الأمور وتمامية هذه
الحجج لألقيت حبلها أي الناقة ــ والمراد منها الخلافة ــ على غاربها أي على
كاهلها وعاتقها
( ولسقيت آخرها) والمراد من الآخر: الأمة بعد قتل عثمان، ( بكأس أوّلها) يعني: كما تركت الخلافة في بداية الأمر والأمة ضائعة في متاهاتها لكنت تركتها مرة ثانية في هذا العهد بعد مقتل عثمان، لكن هذه الأمور الثلاثة حينما اجتمعت صارت حجّة عليَّ لكي أقوم بالأمر، ( ولألفيتم دنياكم هذه أزهد عندي من عفطة عنز) فمرة يتكلّم عن الدنيا ويقول: هي كعفطة عنز، وأخرى يقول: طلقتها ثلاثاً، وفي ثالثة يشبهها بنعل مرقّع عندما يخاطب ابن عبّاس، ورابعة يشبهها بعظم خنزير بيد أجذم، فإذن ما قبل الخلافة إلاّ ليأمر بالمعروف وينهى عن المنكر.
( ولسقيت آخرها) والمراد من الآخر: الأمة بعد قتل عثمان، ( بكأس أوّلها) يعني: كما تركت الخلافة في بداية الأمر والأمة ضائعة في متاهاتها لكنت تركتها مرة ثانية في هذا العهد بعد مقتل عثمان، لكن هذه الأمور الثلاثة حينما اجتمعت صارت حجّة عليَّ لكي أقوم بالأمر، ( ولألفيتم دنياكم هذه أزهد عندي من عفطة عنز) فمرة يتكلّم عن الدنيا ويقول: هي كعفطة عنز، وأخرى يقول: طلقتها ثلاثاً، وفي ثالثة يشبهها بنعل مرقّع عندما يخاطب ابن عبّاس، ورابعة يشبهها بعظم خنزير بيد أجذم، فإذن ما قبل الخلافة إلاّ ليأمر بالمعروف وينهى عن المنكر.
فقام إليه رجلّ من أهل السواد ــ والمراد من أهل السواد: أهل العراق ــ عندما وصل إلى هذا
الموضع، فقدّم لـه كتاباً، فأخذ (ع) ينظر فيه، فلما فرغ من قراءته قال لـه ابن
عباس: يا أمير المؤمنين، لو اطّردت، يعني: لو إتبعت خطبتك وأتممتها من حيث
أفضيت، يعني: من حيث انتهيت إليها، فقال(ع): ( هيهات يا ابن عباس! تلك شقشقة هدرت)
والشقشقة ــ بكسر القاف ــ هي شيء كالرية يخرجها البعير من فمه إذا هاج، فمثّل
نفسه بالبعير إذا هاج؛ لشدة تأثّره من الوضع السائد الجاري في الضلالة باسم الدين،
يعني: أنا منذ خمسة وعشرين سنة ما تكلّمت بصراحة تامة كهذا اليوم، لكنّي أردت الآن
أن أتكلّم بهذه الصراحة، وأقيم الحجة على المسلمين على طول القرون إلى الأبد،
حتى يظهر القائم عجل اللَّه تعالى فرجه الشريف فيملؤها عدلاً وقسطاً من بعد ما
ملئت ظلماً وجوراً، ويرجعها إلى شريعة رسول اللَّه (ص) من بعد ما تيأس النفوس من
كلّ منجٍ: علمانياً كان أو شيوعياً أو شرقياً أو غربياً، مسلماً كان من أبناء
السنّة والجماعة، أو من أهل الولاية، أو كان من اليهود والنصارى.
انتهت الخطبة بحمد اللَّه
تعالى.
والحمد للَّه ربّ العالمين
[1][1]ــ مسند أحمد، أحمد بن
حنبل 2 : 111 ، وصحيح البخاري، محمد بن إسماعيل البخاري 1 : 215 ، وغيرها من
المصادر الكثيرة.
[2][2]ــ بصائر الدرجات،
محمد بن الحسن الصفّار: 97 ، ح 5 ، والكافي، الشيخ الكليني 1 : 286 ، باب ما نصّ
الله عزّوجلّ ورسولـه على الأئمة واحداً فواحداً، ح 1
، وغيرها من المصادر الكثيرة.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق