شرح
خطبة الشقشقية للإمام علي عليه السلام رقم 5
كتبت من محاضرة صوتية ألقاها سماحة الشيخ محمد كاظم الخاقاني قبل سنين
في الكويت
المحاضرة الخامسة
قال أمير المؤمنين (ع) : (
فصبرت وفي العين قذى، وفي الحلق شجا، أرى تراثي نهباً) وهنا يسأل السائل: عن أي
تراث يتكلّم علي (ع) وهو يراه ينهب لا يقدر عن الدفاع عنه؟
فنقول: إنه لتراث عظيم، فوق
ما يظنّه الجاهلون والبعيدون عن الحقائق والمعارف الإلهية، فالمنهوب هو مواثيق
الأنبياء، وشريعة السماء.
أجل، نهب كتاب اللَّه، وفُسّر
بالرأي والشهوات، ونهبت القيم والمثل باسم الشرع على أيدي سماسرة المنافقين
والمكرة الخائنين، فيتكلّم علي (ع) عن تراثه، تراث الأنبياء والأوصياء، الذي ذهب
نهباً وتحريفاً وتبديلاً وتغييراً تحت مسمّيات الدين والإسلام والقيم والرسالة،
فلم ينازع علي (ع) أحداً في سلطان.
فعلي (ع) أراد أن يلفت أنظار
الأمة الإسلامية إلى خلافة اللَّه تعالى على وجه الأرض، والإمامة التي أصبحت
ألعوبة بأيدي الطلقاء والذين طردهم رسول اللَّه (ص) ، ولعنهم حينما لعن المتخلفين
عن جيش أسامة، هذا هو الذي جعل علياً يتأوّه ويتألم ويبيّن الحال في هذه الخطبة
المملوءة بالحزن والأسى.
ثم قال (ع) : ( حتى مضى الأول
لسبيله، فأدلى بها إلى ابن
الخطاب بعده) ، ثم تمثّل الإمام (ع) بقول الأعشى:
شتّان ما يومي على كورها
|
ويوم حيان أخي جابر
|
فيقول علي (ع) : أين الأيام
التي قضيناها على عهد رسول اللَّه (ص) نسير من نورٍ إلى نور، ومن نصر للقيم
الرسالية إلى نصرٍ آخر؟
والمراد من ( كورها) ظهر
الناقة، أو رحلُ الناقة.
يقول (ع): وكأننا نعيش على
ناقة عجفاء، لا استقرار ولا أمنية ولا راحة فيها في عهد هؤلاء المغتصبين لتراث
الأنبياء، فهذا شعر تمثّل به ليقرّب الأمر، فيوم حيان: كناية وإشارة إلى أيام رسول
اللَّه (ص) .
ثم قال: ( فيا عجباً) من
كلامه وهو يقول: لست بخيركم وعلي فيكم، وبين تنصيبه لعمر بن الخطّاب بحدّ السيف،
بلا نصّ، ولا شورى، والثاني تقبّلها بعد قوله: إنّ بيعة أبي بكر كانت فلتة، بلا
تردد، وبلا أيّ كلام.
ثم قال: ( بينا
هو يستقيلها في حياته إذ عقدها لآخر بعد وفاته لشدّ ما تشطّرا ضرعيها) لشدّ
أي لصعب وعظم. ما تشطّرا أي ما تقاسما، والمراد من المتقاسمين: أبو بكر وعمر،
وضرعيها أي ضرعيّ الناقة، فهذا يحلبها تارة، وذاك يحلبها أخرى، أو هذا يحلب منها
ضرعين، وذاك يحلب منها ضرعين، فهو يشير إلى توافقهما، وإلى الحزب الذي كان
متشكّلاً في عهد رسول اللَّه؛ لقبض أزمة الأمور وللتفاهم المسبق الذي كان بين
الرجلين قبل قبض أزمّة الأمور، فأصبحت الخلافة مواريث لمصالح الرجلين.
ثمّ قال (ع) : ( فصيّرها) أي
فجعل الخلافة ( في حوزةٍ) أي في ناحية وجانب، ( خشناء) يوصف أخلاق الخليفة الثاني
بالخشناء، إشارة إلى غضبه المتزايد، وكلماته الشديدة، فأيُّ حوزة يا أمير
المؤمنين؟ قال: ( يغلظ
كلمها) ، يقول: جرح هذا الرجل بأفعاله وأعماله جرحٌ غليظ عميق يغلظ كلمها، والكلم هو الجرح، أي هذا الرجل بأفعاله وأعماله جرحه للشريعة والمؤمنين جرحٌ غليظ عميق، فكلمها يعني به: أن ضرره وإيلامه في الأعماق، ( ويخشن مسُّها) أي: ومن يرد أن يمسّ هذه الطبيعة لهذا الرجل يجدها خشناء، أي أنّ الرجل ليس قابلاً للتفاهم.
كلمها) ، يقول: جرح هذا الرجل بأفعاله وأعماله جرحٌ غليظ عميق يغلظ كلمها، والكلم هو الجرح، أي هذا الرجل بأفعاله وأعماله جرحه للشريعة والمؤمنين جرحٌ غليظ عميق، فكلمها يعني به: أن ضرره وإيلامه في الأعماق، ( ويخشن مسُّها) أي: ومن يرد أن يمسّ هذه الطبيعة لهذا الرجل يجدها خشناء، أي أنّ الرجل ليس قابلاً للتفاهم.
ثمّ جاء (ع) ليبيّن الأمور
التي وقعت في عهد الخليفة الثاني فقال(ع): ( ويكثر العثار فيها) يقولون: فلان عثر
وتصادمت رجله مع حجر، أو شيء، فيقول علي (ع) : ويكثر العثار فيها أي السقوط في
هذه الخلافة، وهي كما تعلمون، فكم يجد المتتبع فيها من اجتهاد في مقابل نصّ ؟ وكم
من تسارع في حكم ثم بعد ذلك يظهر للخليفة الخطأ في حكمه؟ كما في حكمه على امرأة ــ
اتهمت بالزنا ــ بالقتل وهي حامل، ثمّ لما وصل الخبر إلى علي (ع) قال: إن كان
للرجل سلطان عليها فما سلطانه على جنينها؟ فقال الخليفة: لولا علي لهلك عمر.
فأحكامه واجتهاداته وتسارعه
واستبداده في الأحكام ليس يخفى على أحد إلاّ لمن جعل العناد لنفسه مسلكاً، وكان
يريد الإصرار على الباطل واللجاج في مقابل الحق.
ثم قال (ع): ( و
الإعتذار منها فصاحبها كراكب الصعبة) فإنّ الدابة تارة تكون منقادة مطيعة، وأخرى
تكون صعبة الانقياد، فإن أراد الإنسان أن يوقفها خرم أنفها، وإن أراد أن يعطيها
الزمام أسقطته وأهلكته، فالتفسير الأول يقول: إنّ صاحب هذه الخلافة ــ وهو الخليفة
الثاني ــ واقع في صراع داخلي، فهو لا يدري ماذا يصنع؟ وماذا يقول؟ فتارة يعثر
ويتخبّط في الأحكام، وأخرى يعتذر، ويوجّه، فهو كإنسان قد ركب دابة ليست بذلول، فإن
أوقفها وأراد أن تكون بيده خرمته وجرحته وخرمت أنفه، وإن أرد أن يعطيها الزمام
تسارعت به وأسقطته وأهلكته.
والتفسير الثاني ــ وهو
الأولى عند التوجّه والالتفات ــ : أنّه من بعد ما وصف علي (ع) الخلافة بأنّها
وقعت بأيدي أناس أوجبت الأسى، وأوجبت أن يكدح فيها مؤمن حتى يلقى ربّه، فهكذا
خلافة مَن صاحبها وعايشها إن أراد أن يقف أمامها أوقع نفسه في البلاء والخرم
والضرب والنكال، ومن أراد أن يسكت عن هذا التيار المنحرف أهلك نفسه؛ لأنه لابدّ
وأن يسكت عن الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وأن يجاري الأقوياء، وهذا المعنى
الثاني هو الأقرب؛ لأن الخليفة الثاني ما كان بهذه المرحلة وبهذه الحالة أن يصارع
نفسه ليل نهار فيما وقع فيه وما ارتكبه، وإلاّ لتراجع وندم، فإذن المراد من (
فصاحبها) أي فصاحب هذه الخلافة، كراكب الصعبة، وهي الإبل غير الذلول، وغير
المنقادة،[إن أشنق لها خرم و إن أسلس لها تقحم] فإن لزم زمامها في يده خرمها، وإن أفلت الزمام لها، يعني:
وإن جعل كلّ شيء يجري كما هو وسكت عن كل ما يشاهد وما يجري في هذه الخلافة،
تقحّم، يعني: وقع في الهلاك والنيران.
فإذن: يقول ــ في زمن الخليفة
الثاني ــ : إن سكتنا عن الحقائق وقعنا في النيران، وكيف نسكت وقد أمرنا اللَّه
ببيان الحقائق؟ وإن تكلّمنا أوقعنا أنفسنا في مضيقة الاستبداد وخشونة الرأي والصد
الشديد الذي يوجب القطع والهلاك.
ثم قال: ( فمني الناس لعمر
اللَّه) قسم ( بخبط) والخبط: هو السير على غير هدى، (وشماسٍ) أي اضطراب ونفور،
فأخذت الناس تنفر من هذه الطباع، ومن هذا الاستبداد، ( وتلوّن) يعني: واختلاف
واختلال رأي، ( واعتراض) أي: السير عرضاً على خلاف الطريق المستقيم، يقول (ع) :
هكذا كنّا نعيش في عهد الخليفة الثاني.
ثم يقول (ع): ( فصبرت على طول
المدّة، وشدّة المحنة، حتى إذا مضى) أي: الثاني ( لسبيله، جعلها) شورى ( في جماعة
زعم أنّي أحدهم، فياللَّه وللشورى! متى اعترض الريب فيّ مع الأول منهم حتى صرت
أقرن إلى هذه النظائر!) .
لقد أشرنا إلى مسألة الشورى
في المحاضرة السابقة نحواً ما، ولا نريد التطرّق إليها هنا في شرح الخطبة.
ثمّ يقول (ع): ( لكنني أسففت
إذ أسفّوا، وطرت إذ طاروا) فالطائر
إذا أخذ يطير على سطح الأرض يقال: أسف، فيقول (ع) : إذا حاولوا النزول نزلت معهم،
وإذا حاولوا الصعود صعدت معهم، فهو إمّا يحاول بيان التقية في ذلك الحين على: أنه
لا ملجأ لأحدٍ إلاّ أن يقبل ويسكت عمّا يجري في عهد الخليفة الثاني، أو أنه يريد
أن يقول: لكن أسففتُ إذ أسفوا، وطرت إذ طاروا، بالنسبة إلى الأمور الشخصية، لا إلى
أمور الشريعة، يعني: ما كان يرجع إليه من الأمور الشخصية يقول: كنت أحاول المسايرة
معهم، لكن لا في الأمور الشرعية؛ لأنّ اللَّه تعالى أخذ على العلماء: أن لا
يقارّوا على كظّة ظالم، ولا سغب مظلوم، كما سيأتي بيانه الآن.
( فصغا) أي: فمال ( رجلٌ
منهم) أي من الستة في الشورى ( لضغنه) أي لحقده السابق؛ لأنه يقال: إن علياً (ع)
قتل في حرب بدر أبا سعد بن أبي وقّاص، فكانت هذه نارٌ في صدر سعد، حتى جاء زمن تصفية
الحسابات، فيقول (ع) : فصغى: أي فمال رجلٌ منهم لضغنه، أي لحقده، وهو سعد بن أبي
وقّاص، وقيل: إنّ أباه قد مات في الجاهلية، والإمام (ع) يشير هاهنا إلى قتله أخوال
سعد في يوم بدر.
( ومال الآخر) وهو عبد الرحمن
بن عوف ( لصهره) ؛ لأنّ زوجة عبد الرحمن هي أخت عثمان بن عفان من أمّه، فهذه
الأمور هي التي دعت الرجلين إلى أن يسيرا على خلاف الشرع في مسألة الشورى، لكن
هناك أمور كثيرة ومساوىء عديدة دعتهما إلى هذا الانحراف، وهو تأييد عثمان بن عفان
في مسألة الخلافة، وقد انتهينا الآن من الخليفة الثاني.
ثمّ جاء الإمام (ع) ليتكلّم
عن خلافة الخليفة الثالث، فقال: ( إلى أن قام ثالث القوم نافجاً حضنيه بين نثيله
ومعتلفه) فالإمام (ع) ــ في هذا المقطع من الخطبة ــ يصف عثمان فيقول: ( إلى أن
قام ثالث القوم) وهو عثمان بن عفان، ( نافجاً) أي رافعاً ومنتفخاً ومتكبّراً،
فالنافج: هو الذي من شدّة الأكل الكثير ينتفخ، و ( حضنيه) : جانباه، أي ما بين
الإبطين والكرش.
وبعبارة ثانية: جعل حضنيه لكي
يأخذ وينهب بيت مال المسلمين، يعني لكي يأكل ويشرب، وهذا هو همّه في مسألة
الخلافة، فنافجاً يعني رافعاً ومنتفخاً تشبيهاً لـه بالبعير.
( بين نثيله) النثيل: هو
الروث، يعني: هو ما يدفعه الحيوان، فيقول (ع) : ما كان هناك همّ ولا غمّ ولا فكرة
لهذا الرجل إلاّ أن يأكل ويدفع ما أكل، هذه هي كلّ قمم الأفكار عند هذا الثالث
والمهام العظمى لـه.
( ومعتلفه) المعتلف: هو المحل
الذي يجعل للدواب من أجل الأكل، فهمّه أن يعلف ويعتلف ويأكل ويقذفهما.
( وقام معه بنو أبيه، يخضمون
مال اللَّه خضمة الإبل نبتة الربيع) وهو أكل
الشيء بأقصى وبنهاية الأضراس، يعني: يأكل من هنا إلى هنا، وبعبارة ثانية: يعني
يأكل من فكٍّ إلى فكٍّ ثان، فيخضمون مال اللَّه خضمة الإبل؛ لأنّ الإبل في الأيام
الباردة تتحمل الجوع؛ لعدم وجود العلف، فإذا وجد العلف في أيام الربيع يأتي إليه
منهوماً فيأكل بكلّ قواه، وكأنّه يظن أنّه لا يشبع، فيقول (ع): هذا الرجل ومعه بنو
أميّة يأكلون كلّ شيء بجيمع فمهم، وأقصى أضراسهم، فهم يخضمون مال اللَّه خضمة
الإبل في نبتة الربيع، فهؤلاء مثل الإبل في الربيع انقضّوا على بيت مال المسلمين.
ثمّ قال (ع) : ( إلى أن
انتكث) أي انتقض ( عليه فتله) والفتل كما تعرفون،
يقال: فلان فتل الحبل، فيشير الإمام (ع) أن الخليفة الثالث لم يجن عليه أحد، بل
سياسته وتدبيره ونهمته دعت الناس أن يقفوا ضدّه، ( إلى أن انتكث) أي انتقض عليه،
وفتله أي سوء تدبيره وأعماله، فقضى عليه، ( وأجهز عليه عمله) أي: وأجهز على عثمان
عمله، فساقه إلى ما ساقه إليه من غضب شعبي عام.
( وكبت به بطنته)
فيقول: الذي أسقطه وسبب قتله هو بطنه، يعني: نهمته وتخمته وأكله الكثير، والبطنة
هي التخمة من شدة الأكل.
( فما راعني إلاّ والناس كعرف
الضبع إليّ) فما راعني: أي فما روّعني إلاّ اجتماع الناس في بيتي بعد مقتل عثمان،
فلو كان علي (ع) ينازع أحداً في حكم لخطّط لثورة ضدّ حكم عثمان، ولتسابق إلى
إسقاطه، ولوقف موقفاً شديداً ضدّ عثمان لقبض أزمة الأمور، فيقول (ع) : مع ابتعادي
عن كلّ القضايا أفزعني ما أفزعني، وهو اجتماع الناس حولي، فما هو هذا الفزع الذي
يتكلّم عنه الإمام علي (ع) ؟
أقول: إرجاع الأمر إلى مجاريه
يروّع علياً (ع) مع ما يعرف من انحراف الأمّة؛ لأنّ الشريعة في غضون خمسٍ وعشرين
سنة سارت العكس، وسارت التبديل والتغيير باسم الشرع القويم، فإرجاع الأمور إلى
مصبّها بعد ابتعادها الشاسع عن الصراط المستقيم من أصعب الأمور؛ لأنّ البيت إذا
سقط لعلّك تتمكّن أن تبني بيتاً جديداً من أساسه وأصله مرّة ثانية، لكن البيت إذا
بني بناءً غير سليم فإرجاعه إلى الصحّة يكون من أصعب الأمور؛ وذلك لأنّ الناس
اعتادوا الترف والنهب والتبديل والتغيير على حساب الدين، فكيف يمكن أن
يرجع الإمام الأمر إلى زمن وشريعة رسول اللَّه (ص) ؟
إذن: فما راعني وأفزعني إلاّ
واجتماع الناس بعد الانحراف خمس وعشرين سنة، يريدون منّي أن أرجع الأمور إلى عهد
رسول اللَّه (ص) ، وأنا أعلم منهم أنّهم لا يريدون إلاّ مصالحهم، وما نازعوا عثمان
لحقّ أضاعه، أو يقين من شرع بدله، وإنّما نازعوه مواريث الدنيا، فإذن هو تكليف
ثقيل.
( كعرف الضبع) لأنّ
الضبع ــ كما يقال ــ يكون على رقبته شعر كثير، فيقول: انهال عليّ الناس كشعر
الضبع الذي يحيط بالضبع؛ لكثرتهم، فهو كناية عن كثرتهم وازدحامهم عنده، وإصرارهم
عليه أن يتقبّل الخلافة.
والحمد للَّه ربّ العالمين
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق