كتبت من محاضرة صوتية
ألقاها الشيخ عام 1995م في الكويت
من جملة الوجوه التي
تقرّب ما عليه علماء الشيعة هي أنّ مسألة
( الراسخون في العلم) ليست كما يدعي ذلك أبناء العامة والجماعة.
( الراسخون في العلم) ليست كما يدعي ذلك أبناء العامة والجماعة.
فكلّ كلام لابد أن ينظر
إليه بما يحمل من معنى ولو بما يحمله من معناه اللغوي، فكلمة المحكم فسّرها علماء
المسلمين بمعنى الأصل، وفسّرها آخرون بمعنى ما يرجع إليه؛ لأنّه من أمّ الكتاب،
وفسّرها البعض بأنّ المراد من المحكم هو بمعنى الإحكام أو الوضوح، وقال آخرون: هو
الذي لا يحتاج إلى قرينة مبـيّنة، أي قرينة حالية أو مقالية تبـيّن المراد منه،
وقال آخرون: هو ما لا يحتمل إلاّ وجهاً واحداً ومعنى واحداً، وما احتمل الوجوه
يكون متشابهاً، فيكون في مقابل المحكم الذي هو الأصل، والمجهول لا يقابل المحكم،
فكيف ذهب البعض إلى أنّ المتشابه من خصائص الله تعالى، فيكون مجهولاً على البشرية
حتى على من نزل عليه القرآن، وهو رسول الله (ص) ؟ فإذن يكون في مقابل المحكم
الفرع.
فإذن: هناك أصول وثوابت
في الكتاب المجيد، ولذا ورد ( فما ورد عليكم من خبرين مختلفين فاعرضوهما على كتاب
الله، فما كان في كتاب الله موجوداً حلالاً أو حراماً فاتبعوا ما وافق الكتاب، وما
لم يكن في الكتاب فاعرضوه على سنن رسول الله (ص) ، فما كان في السنة موجوداً
منهياً عنه نهي حرام، ومأموراً به عن رسول الله (ص) أمر إلزام، فاتبعوا ما وافق
نهي رسول الله (ص) وأمره ...) ([1][1]) .
فإذن: هناك ملجأ وهو
الأصل في الكتاب المجيد وفي السنة النبوية، وهذا الأصل لابد وأن يكون في مقابله
فرع، أي: أنّ هناك من الناس مَن يتمكن من إرجاع الفروع إلى أصولها، وهؤلاء هم (
الراسخون في العلم) ، أو هم الذين يتمكّنون من تطبيق حقائق الكتاب المجيد على
مصاديقه.
فربّ إنسان نظر نظرة
غير سليمة إلى موقف الإمام الحسين (ع) ، فوجد الإسلام ثورة، فراح ليلقي بنفسه
وبالآخرين في التهلكة؛ ظاناً أنه إنسان يطبّق منهجاً إسلامياً؛ لأنّ الحسين كان
ثورياً، وراح آخر ليقول: الدين هو صلحٍ ومهادنة؛ مستدلاًّ بصلح الإمام الحسن (ع) .
فالإسلام ليس صلحاً وليس حرباً و ... ، بل الإسلام منهج الحياة، والراسخون في
العلم هم الذين يتمكّنون بعد معرفة الكتاب والسنة الثابتة أن يطبّقوا ما يجري في
حياتهم على سنة رسول الله (ص) وأهل بيته الكرام، حتى يعلموا طبقاً لسنة رسول الله
(ص) وطبقاً للكتاب المجيد متى يكون الصلح شرعاً، ومتى يكون الصلح استسلاما ومذلة،
ومتى تكون الثورة ضدّ الظالمين شرعاً، ومتى تكون من إلقاء النفس في التهلكة،
فلابدّ من قراءة سيرة رسول الله وأهل بيته الكرام قراءة إتقان وفهم، فليست من سيرة
رسول الله (ص) أن نعرف متى ولد؟ وكم تزوج؟ ومتى توفّي؟ فهذه أمور لها ما لها من
الأهمية، ولكن لا تدخل في صنع الإنسان المسلم، بل الذي يدخل في صنع الإنسان المسلم
في مسيرة الحياة أن يعرف: أنهم متى كانوا مسالمين، ومتى ... ؟
فالاحتمال الثاني هو
تشخيص المصاديق، وهو: متى يكون الصلح مصداقاً لشرع الله؟ ومتى تكون الحرب مصداقاً
لشرع الله؟ وهذا لا يحصل إلاّ بمحكمات الكتاب، وبثوابت السنّة، وبمعرفة سيرة رسول
الله (ص) وأهل بيته الكرام، وكذلك المتشابه فهو ما يحتاج إلى توضيح وبيان، فقولـه:
( أقيموا الصلاة) لا يحتاج إلى توضيح وبيان بعد كون الإنسان عارفاً باللغة
العربية، لكن الكثير من الأمور تحتاج إلى توضيح وبيان.
ورب إنسان سمع قولـه: (
يد الله) ، فظنّ أن الله تعالى لـه يد، وسمع عرش الله وكرسيه فظن أنّ الله لـه عرش
وكرسي كما للناس الآخرين.
فإذن: المتشابه هو الذي
يحتاج إلى توضيح وبيان، فالمحكم يقابله المتشابه، أما قول أبناء العامة في المقام:
بأنّ المحكم يقابله المجهول المحض؛ لأنهم قالوا: المتشابه ما كان مجهولاً حتى على
رسول الله (ص) ، فيا ليتهم نازعونا في بيانه على أئمتنا ، لكن عناداً حتى لا
يقول القائل منّا: إذا كان المتشابه معلوماً لدى رسول الله (ص) فهو قد علّم علياً
(ع) كل الحقائق، فالمتشابه عند علي (ع) ، فإنّ العناد واللجاج ــ وهو المرض الذي
لا علاج لـه ــ ساقهم إلى أن يجعلوا في مقابل المحكم: المجهول، ولا أظن أنّ عربياً
يقرأ هذه الآية الشريفة ويتصوّر أنّ المحكم يقابله المجهول، وكون المحكم في مقابل
المجهول المحض الذي لا يعرفه إلاّ الله، فهو كلام غير سليم.
ومن جملة المحتملات في
المقام المؤيدة لنظرية الشيعة: كلمة تصدر من أمثالي ربما صدرت بدوافع العاطفة،
وربما صدرت بدوافع حبّ الله، وربما صدرت بدوافع مصلحة شخصية، وربما صدرت بدوافع
جهل، وما شاكل هذه الأمور، فقد أخاطب إنساناً وأسمّيه بتسميات عظيمة كالعالم،
والراسخ في العلم، وآية الله الكبرى، أو العظمى، وما شاكل هذه العبائر، فأنا على
قدر حجمي من الفهم والعلم قد أطلق كلمة فأتجاوز فيها الحدود، أما ربّ الكائنات
تعالى فمن المستحيل أن يخاطب أحداً بالراسخ في العلم على مستوى معيّن ومحدّد؛ لأنّ
الله تعالى ليس أنا ولا أنت، فلا يخاطب أحداً ويسمّيه راسخاً في العلم إلاّ إذا
كان في تمام المعارف وكمالها، وقد تقدّم أنّ ما تقوّلـه أبناء العامة في مسألة
الراسخين في العلم لا يتناسب حتى مع المفهوم اللغوي، وهو مفهوم الإحكام والأصل،
فإذا كانت كلماتهم لا تتناسب حتى مع المفهوم اللغوي فضلاً عن المعاني الكثيرة
البعيدة فلابدّ وأن نرى: أنّ من رآه الله تعالى عالماً راسخاً في العلم بإطلاق
الكلمة أيكون جاهلاً ببعض القرآن، وقد مدحه الله تعالى لا بالعلم، بل مدحه في
الرسوخ والثبات والتعمّق في العلم؟
وأيضاً: حينما يمدح الله
تعالى الراسخين في العلم، ويقول: آمنا بذلك، وأنه من ربّنا، فهل الإيمان بما في
القرآن المجيد وأنه من ربنا يختص بالراسخين في العلم، أو يعمّ كلّ مؤمن؟ يقيناً
يعمّ كل مؤمن، لأنّ المؤمن المعتقد برسالة الرسول (ص) لا يتردد في كون هذا القرآن
هو الكتاب الذي جاء به رسول الله (ص) ، فتكون صفة مشتركة بين الراسخين في العلم
وبين المؤمنين بما هم مؤمنون، فأيّ مزيّة للراسخين في العلم إذا كانوا لا يعرفون
إلاّ المحكم؟ والإنسان المؤمن يدعوه دينه أن يعرف المحكم، والإنسان المؤمن لا يعرف
المتشابه، والراسخ في العلم أيضاً لا يعرف المتشابه، فصارا بكفّة واحدة، فأيّ داعٍ
لكي يمدح الله تعالى الراسخين في العلم بهذا المدح العظيم وهم فقط قالوا بمقالة {
آمنّا به كلّ من عند ربنا} ، وهذه ليست صفة مختصة بالراسخين، فكل مؤمن ولو كان
أمّياً لا يقرأ ولا يكتب هو جازم بأنّ ما في القرآن هو من ربّنا، فهل يكون هذا صفة
مدح للراسخين في العلم؟
فهؤلاء مع كل الأسف
ساقهم العناد إلى أن يتخبّطوا تخبطاً لا يفهمون مغزاه وأبعاده حتى لم يتأملوا
بمعاني مفردات الكتاب المجيد.
وأما بعض الروايات في
المقام كما عن أبي جعفر (ع) حيث قال:
( يبسط لنا العلم فنعلم، ويقبض عنّا فلا نعلم) ([2][2]) ، فكيف يمكن أن نتعقّل أنّ الله سبحانه وتعالى يحجب أولياءه مما هو من شأن العلم؟ فلابدّ وأن يرجع الكلام إلى ما تقدّم سابقاً: بأنّ ما رجع إلى محض اختبارهم أو ما رجع إلى أمور لا ربط لها ولا تمتّ بأي صلة بشرع الله، فالله تعالى يقبض مثل هذه الأمور؛ لأنّها أمور لا تستدعي معرفة.
( يبسط لنا العلم فنعلم، ويقبض عنّا فلا نعلم) ([2][2]) ، فكيف يمكن أن نتعقّل أنّ الله سبحانه وتعالى يحجب أولياءه مما هو من شأن العلم؟ فلابدّ وأن يرجع الكلام إلى ما تقدّم سابقاً: بأنّ ما رجع إلى محض اختبارهم أو ما رجع إلى أمور لا ربط لها ولا تمتّ بأي صلة بشرع الله، فالله تعالى يقبض مثل هذه الأمور؛ لأنّها أمور لا تستدعي معرفة.
وهناك روايات أخرى
تقول: إن شئنا علمنا وإن شئنا فلا نعلم.
فالإنسان لو ذهب إلى
مدرسة فترة من الزمن واستذوق العلم يندفع اندفاعاً قوياً إلى المعارف، ويصبح كهائم
ليله ونهاره يريد أن يعرف أمراً جديداً، فكيف حال عظماء الخلق كمحمد (ص) وآله
الكرام من طلب العلم! فيقيناً من المستحيل أن يشاؤوا عدم العلم، والعلم نور الله،
فكيف يشاؤون عدم العلم! إلاّ أن نقول: لا يشاؤون ما هو من شأن اختبارهم حتى
يمتحنوا، ولا يشاؤون ما هو لا ربط لـه بعلم ولا ربط لـه بأيّ جهة من الجهات.
وفي حديث عن أبي جعفر
(ع) في قولـه تعالى: { عالم الغيب فلا يظهر على غيبه أحداً} قال: { إلاّ من ارتضى
من رسول} فإنه يسلك بين يديه ومن خلفه رصداً، وكان ــ والله ــ محمّد (ص) ممن
ارتضى([3][3]) .
فإذا لم يكن محمّد (ص)
سيد الكائنات ممن ارتضاه فمن الذي يرتضيه الله سبحانه وتعالى لمكنون علمه؟
وعن عمار الساباطي قال:
سألت أبا عبد الله (ع) عن الإمام يعلم الغيب؟ فقال: لا ، ولكن إذا أراد أن يعلم
الشيء أعلمه الله ذلك([4][4]) .
ونحن لابدّ أن نجمع
الآيات والروايات حتى نتمكّن من فهمها؛ لأنّ الآيات بعضها يفسّر بعضاً، والروايات
كذلك بعضها يفسّر بعضاً، ولا يمكن أن نأخذ برواية واحدة ونقول: لا يعلمون الغيب؛
لأنهم قالوا: لا نعلم الغيب، فلابدّ أن نتأمّل عن أيّ غيبٍ يتكلّمون: غيب هو من
شؤون المعارف للوصول إلى الله والقرب إليه من العلوم المختلفة، أو غيب في مسائل
جزئية لا تكون شأناً من شؤون العلم؟
وعن المعلى بن خنيس، عن
أبي عبد الله (ع) أنه قال: ( ما من
أمر يختلف فيه اثنان إلاّ ولـه أصلٌ في كتاب الله، ولكن لا تبلغه عقول
الرجال) ([5][5])، لا عقول الأنبياء والأوصياء، يعني: أنّ الناس لقصور ذاتي أو لحجب حجبتهم عن المعارف لا يتمكّنون من الوصول إلى ذلك؛ لأنّ العقل بما هو عقل يدرك الحقائق؛ لأنّ الله جعله حجّة، لكن لبعض الأمور والجهات المختلفة لا يكون الإنسان قادراً على بلوغ بعض مراتب العلم.
أمر يختلف فيه اثنان إلاّ ولـه أصلٌ في كتاب الله، ولكن لا تبلغه عقول
الرجال) ([5][5])، لا عقول الأنبياء والأوصياء، يعني: أنّ الناس لقصور ذاتي أو لحجب حجبتهم عن المعارف لا يتمكّنون من الوصول إلى ذلك؛ لأنّ العقل بما هو عقل يدرك الحقائق؛ لأنّ الله جعله حجّة، لكن لبعض الأمور والجهات المختلفة لا يكون الإنسان قادراً على بلوغ بعض مراتب العلم.
وفي رواية سدير قال:
كنت أنا وأبو بصير ويحيى البزاز وداود بن كثير في مجلس أبي عبد الله (ع) إذ خرج
إلينا وهو مغضبٌ، فلما أخذ مجلسه قال: ( يا عجباً لأقوام يزعمون أنّا نعلم الغيب،
ما يعلم الغيب إلاّ الله عزوجل، لقد هممت بضرب جاريتي فلانة، فهربت مني، فما علمت
في أي بيوت الدار هي) ([6][6]) .
وهنا يجب التوجّه، حيث
قلنا: إنّ الروايات بعضها تفسّر بعضاً، فحينما خرج (ع) مغضباً وهو يقول: يزعمون
أنّا نعلم الغيب، وفرّت جارية هرباً منّي، ولا أدري في أي مكانٍ من الدار هي،
فيحتمل أنها كلمة أطلقها الإمام (ع) تقية؛ ليفهم أنّ في المجلس من يحتاج أن يتكلّم
معه بكلامٍ ليدفع الأخطار عن نفسه، وعن شيعته، وكم من عيونٍ مدسوسة لهؤلاء الخبثاء
الذين تقمّصوا كل شيء باسم الدين، فلمَ لا نحمل مثل هذه الكلمات على أنها صدرت
تقيّة، أو لتمويه أمر؟
أو يريد أن يبيّن أنّ
فرار الجارية من الأمور الجزئية، وإذا كان من الأمور الجزئية فلا يطلب من الله
تعالى كشفها.
وعن جعفر بن محمّد
الصوفي قال: سألت أبا جعفر محمّد بن علي الرضا (ع) وقلت لـه: يابن رسول الله، لمَ
سمّي النبي الأمّي؟ قال: ( ما يقول الناس؟) قلت لـه: جعلت فداك، يزعمون أنما سمّي
النبي الأمّي لأنه لم يكتب، فقال: ( كذبوا، عليهم لعنة الله، أنّى يكون ذلك والله
تبارك وتعالى يقول في محكم كتابه: { هو الذي بعث في الأميين رسولاً منهم يتلوا
عليهم آياته ويزكيهم ويعلمهم الكتاب والحكمة} ([7][7]) فكيف كان يعلمهم ما لا
يحسن؟) .
والآن أثبت العلم أنّ
الكثير من المطالب إذا تكلّم بها المتكلّم لهجة خطابية قد لا يتوصّل إليها
الإنسان، فكيف يبعث الله إنساناً ليس قادراً على أن يملك أمراً لتفهيم الناس، ليس
قادراً أن يكتب أمراً لتفهيم الناس، أليس هذا من القصور في البيان؟ نعم، يكون من
القصور في البيان، فلابدّ وأن يكون المبعوث للبيان والخطاب للبشرية قادراً بكل
أنحاء وجهات العلم حتى يكون أداة موصلة للحقائق، كما وأنه يخاطب الناس على قدر
عقولهم، فلابدّ أن يستخدم الأدوات المناسبة بكلّ معنى الكلمة حتى يكون حجة تامة
يوم القيامة، ولا يتمكن أحد أن يقول: تكلّم وخاطبني خطاباً ولو كتبه لي لفهمت، ولو
شرحه لي بكيفية من الكيفيات لفهمت!
ثم أضاف (ع) قائلاً: (
والله لقد كان رسول الله(ص) يقرأ ويكتب باثنين وسبعين أو بثلاثة وسبعين لساناً)
هذه هي معتقداتنا في رسول الله (ص) .
ثم قال (ع) : ( وإنما
سمّي الأمي؛ لأنه كان من أهل مكة، ومكّة من أمهات القرى، وذلك قول الله تعالى: {
لتنذر أمّ القرى ومن حولها} ) ([8][8]) .
هناك أمور أخرى ترتبط
بمسألة علم الأئمة ، ونحن كشيعة لا نتردد
في كونهم يعلمون كل شيء، ولا نتردد في ولايتهم تشريعاً وتكويناً، والناس غير
الشيعة على قسمين: معاند، فلو جئت إليه برسول الله (ص) لبقي معانداً، وقد بقي
القوم ألفاً وأربعمائة سنة يعاندون ويصرّون على الكثير من الأباطيل، والقسم
الثاني: عامة الناس، وهم المستضعفون، والكلام إذن مع هؤلاء المعاندين لا يفيد، لكن
هناك شبهة نحن كشيعة يجب أن نلتفت إليها كي نفهم الآخرين؛ لأنّ البعض مصرّ على
العناد.
لعل سائلاً يسأل ويقول:
كيف أقدم الحسين (ع) وهو العالم بمقتله في العراق؟ وكيف يقدم المعصوم على شرب أو
أكل السمّ وهو يعلم بذلك؟ وكيف يخرج عليّ إلى مسجد الكوفة وهو عالم بقتله على يد
ابن ملجم؟ وكيف يجعل علي (ع) مَن كان غير طاهر النسب كزياد ابن أبيه والياً
ومستشاراً لوالي البصرة؟ وهذا غريب من الأمر.
فهل جعل الإمام علي (ع)
زياد ابن أبيه وشريح القاضي للاضطرار كما اضطر إلى التحكيم؟ وهل هناك من دواع إلى
الاضطرار؟ وكيف يجعل القاضي من هو معلوم الحال كشريح؟
فإن قلت: أصرّ أهل
الكوفة على إبقائه.
نقول: هل إصرار أهل
الكوفة على إبقائه يكون ملاكاً شرعياً لكي يبقيه علي (ع) ويسلّم إليه أعراض الناس
وأموالهم ودماءهم؟
نذكر رواية قبل أن ندخل
إلى شرحٍ أو تفصيل في المقام، فنذكر رواية صحيحة عن الإمام الباقر (ع) ، ثم نتعرّض
بعدها لآراء الأعلام في مثل هذه الأمور:
فعن ضريس الكناسي، قال:
سمعت أبا جعفر (ع) يقول ــ وعنده أناس من أصحابه ــ : ( عجبت من قوم يتولونا،
ويجعلونا أئمة، ويصفون أن طاعتنا مفترضة عليهم كطاعة رسول الله (ص) ، ثم يكسرون
حجتهم ويخصمون أنفسهم بضعف قلوبهم، فينقصونا حقّنا، ويعيبون ذلك على من أعطاه الله
برهان حق معرفتنا، والتسليم لأمرنا، أترون أنّ الله تبارك وتعالى افترض طاعة
أوليائه على عباده، ثم يخفي عنهم أخبار السماوات والأرض، ويقطع عنهم مواد العلم
فيما يرد عليهم مما فيه هو قوام دينهم؟) فقال لـه حمران: جعلت فداك، أرأيت ما كان
من أمر قيام علي بن أبي طالب والحسن والحسين وخروجهم وقيامهم بدين
الله عز ذكره، وما أصيبوا من قتل الطواغيت إياهم والظفر بهم حتى قتلوا وغلبوا؟
فقال أبو جعفر (ع) : ( يا حمران، إنّ الله تبارك وتعالى قد كان قدّر عليهم ذلك،
وقضاه وأمضاه وحتمه على سبيل الاختيار، ثم أجراه، فبتقدم علم إليهم من رسول الله
(ص) قام علي والحسن والحسين ...) ([9][9]) .
فهذه المسألة مرتبطة
بباب القضاء والقدر، لكن أشير إليها إشارة خفيفة وسريعة:
إنّ الرواية تقول: إنّ
الله تعالى قد كان قدّر ذلك عليهم وقضاه و ... فبتقدم علمٍ إليهم من رسول الله (ص)
قام الحسين بما قام، وقام علي (ع) بما قام، والرواية طويلة لكن هنا كلمة لابدّ من
الالتفات إليها، وهي: أنّ رسول الله (ص) حينما أراد أن يبعث بعض المسلمين في غزوة
مؤتة جمع المسلمين فخاطبهم، وقال: ( إن قتل زيد فجعفر، فإن قتل جعفر فعبد الله بن
رواحة) ([10][10]) فبكى المسلمون؛ لأنهم
علموا أنّه لا يقول: إن قُتل فلان فيحمل الراية من بعده فلان إلاّ وأنّ هؤلاء
مقتولون بالمائة مائة، فكان يعلم بقتلهم وبعثهم إلى حرب، فهل العلم بالموت جهاداً
يسقط التكليف؟ وإلاّ يجب على الإنسان أن يكون في خروجه في أيّ معركة عالماً قاطعاً
أنه لا يصاب بشيء، فالعلم بالموت ليس من الأمور التي تجعل الشهادة من الإلقاء
بالنفس في التهلكة، وها هو التاريخ يتحدّث على أنّ علياً (ع) عندما وصل إلى البصرة
ويئس من القوم أن يرجعوا إلى حكم الله تعالى، ووجدهم مصرّين على العناد كتّب
الكتائب، ورتّب الأمور، ثم قبل الحرب قال: من لهذه الصحيفة يقدم بها على القوم
ويقرأها عليهم إتماماً للحجة وهو ميّت! فانتدب إليها شاب في العشرين من عمره
فأخذها وقرأها على القوم، وما أن أتمّها حتى قُتل، فهل مثل هذا يمنع أن يقدم
الإنسان؟ وهل مثل هذا يسمّى بإلقاء النفس في التهلكة؟ كلاّ، فإنّ إلقاء النفس في
التهلكة هو ضياع النفس جهلاً، والذي يقدم جهلاً بدون التفات يسمى ملقياً لنفسه في
التهلكة.
والحمد لله ربّ العالمين
[8][8]ــ بصائر الدرجات،
محمد بن الحسن الصفار: 245 ، باب 4 في أن رسول الله
كان يقرأ ويكتب بكل لسان، ح 1 .
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق