شرح خطبة الشقشقية للإمام
علي عليه السلام
كتبت من محاضرة صوتية ألقاها سماحة الشيخ محمد كاظم الخاقاني قبل سنين
في الكويت
المحاضرة الأولى
الحمد للَّه الذي لا يبلغ مدحته القائلون، ولا يُحصي نعماءه
العادّون، ولا يؤدّي حقّه المجتهدون.
وأحمده إتماماً لنعمته؛ حيث هدانا بنور الإيمان والإسلام،
فسرنا تحت راية رسول اللَّه (ص) ، وقد جاء بينابيع الخير وأطياف السلام، والأمم
متشتتة في آرائها، مختلفة في سيرها نحو وديان الظلمات، لكنّ الأسماء مختلفة،
والعناوين متفاوتة، وإلاّ فالجامع لجميع الأمم آنذاك هي الضلالة والغواية، والبُعد
عن منهج الحق والصراط المستقيم، فهذا ابتدع رهبانية نصرانية ما أنزل اللَّه بها من
سلطان، وذاك ابتدع يهودية بخيلاء الكبر والعناد، و آخر راح ليعبد النار.
أجل، جاء رسول اللَّه (ص) والأمم بهذا الحال، حتى بلغ بهم
الانحدار ــ من بعد جميع الأنبياء والرسل ــ إلى السير نحو الحضيض والسقوط، ثمّ
سارت الأمة الإسلامية فترة من الزمن تحت راية قائدها الأعظم محمّد (ص) تهتدي بهدي
الإسلام، وتسير بخطى الرسالة، وتفخر على الأمم: أنّها خرجت من الظلمات إلى النور،
وما هي إلاّ فترة قليلة من الزمن حتى أصبحنا ــ كأمة إسلامية ــ مصداقاً لقوله
تعالى: { وما محمد إلاّ رسول قد خلت من قبله الرسل أفإن مات أو قتل انقلبتم على أعقابكم ومن ينقلب على عقبيه فلن يضرّ اللَّه شيئاً وسيجزي
اللَّه الشاكرين} ([1][1]) وقد قال رسول الله (ص) :(ستسير هذه الأمة على ما سارت عليه
الأمم من قبلها شبرا بشبر و ذراعا بذراع حتى ولو أنهم دخلوا جحر ضب لدخلتم فيه
فقيل له يا رسول الله (ص) اليهود والنصارى ؟قال نعم ) فهذه سنّة اللَّه تعالى في
عباده، أجراها على الماضين، وألحق بهم التالين؛ لإتمام الحجة في دار الفناء،
فانقلبت الأمة على أعقابها بعدما عاش الرسول (ص) بين ظهرانيهم ثلاث وعشرين سنة،
يخرجهم من الظلمات إلى النور، وإذ بلحظة واحدة بعد رحيله تنقلب الأمة على الأعقاب،
وترجع الجاهلية مرة ثانية، سواء كانت جاهلية باسم الجاهلية والأوثان، أو كانت
جاهلية باسم الإبراهيمية والموسوية والعيسوية، لتصبح بعد ذلك جاهلية باسم رسول
اللَّه (ص) ، فتبدّلت الأسماء، والجهل نفس الجهل، والغواية نفس الغواية، والثابتون نوادر من البشر، هم حجج اللَّه تعالى على خلقه، فأخذوا باسم الإسلام يسحقون معالم الإسلام، وباسم الصلاة يهدمون قوائم الشرع، ويقتلون النفوس، ويشوّهون المناهج، ويبدّلون النواميس، ويلعبون بكلّ القيم، فيُقتل مالك بن نويرة ــ ذلك الرجل الصالح ــ باسم دين اللَّه، وتستباح حُرمته، ويُتعدّى على عرضه باسم رسول اللَّه (ص) ، فأخذت التجاوزات على القيم باسم النواميس والشرائع الإلهية يوماً بعد يوم تدخل في ظلمة، وتتجاوز لتنتقل إلى ظلمة أخرى، فقتل خالد بن الوليد مالك بن نويرة، وتعّدى على عرضه في تلك الليلة، باسم اللَّه، وباسم رسوله، وباسم خلفاء المسلمين، والمسلمون بمشهد وبمنظر ينظرون ما يرتكب هؤلاء، ولا رادع ولا متكلّم، كأنهم يشاهدون الأنوار وسبل الحق والخير، ولم يشاهدوا الزناة والطغاة والمجرمين، ويعيش أبو ذر ــ ذلك الرجل الصالح بشهادة رسول اللَّه (ص) ــ بعيداً عن مدينة رسول اللَّه في الربذة، مبعّداً، يعيش وحيداً، ويموت وحيداً، ويؤتى بالحطب ليحرقوا الدار ومن فيها، وهو بيت ما قام الإسلام ولا استقام إلاّ به، ألا وهو بيت علي وفاطمة، وإذ نرى الذين طردهم الرسول، وحكم عليهم بالكفر والارتداد والعناد، وأبعدهم من المدينة، يدخلهم الخليفة الثالث بلا رادع ولا مانع.
اللَّه (ص) ، فتبدّلت الأسماء، والجهل نفس الجهل، والغواية نفس الغواية، والثابتون نوادر من البشر، هم حجج اللَّه تعالى على خلقه، فأخذوا باسم الإسلام يسحقون معالم الإسلام، وباسم الصلاة يهدمون قوائم الشرع، ويقتلون النفوس، ويشوّهون المناهج، ويبدّلون النواميس، ويلعبون بكلّ القيم، فيُقتل مالك بن نويرة ــ ذلك الرجل الصالح ــ باسم دين اللَّه، وتستباح حُرمته، ويُتعدّى على عرضه باسم رسول اللَّه (ص) ، فأخذت التجاوزات على القيم باسم النواميس والشرائع الإلهية يوماً بعد يوم تدخل في ظلمة، وتتجاوز لتنتقل إلى ظلمة أخرى، فقتل خالد بن الوليد مالك بن نويرة، وتعّدى على عرضه في تلك الليلة، باسم اللَّه، وباسم رسوله، وباسم خلفاء المسلمين، والمسلمون بمشهد وبمنظر ينظرون ما يرتكب هؤلاء، ولا رادع ولا متكلّم، كأنهم يشاهدون الأنوار وسبل الحق والخير، ولم يشاهدوا الزناة والطغاة والمجرمين، ويعيش أبو ذر ــ ذلك الرجل الصالح بشهادة رسول اللَّه (ص) ــ بعيداً عن مدينة رسول اللَّه في الربذة، مبعّداً، يعيش وحيداً، ويموت وحيداً، ويؤتى بالحطب ليحرقوا الدار ومن فيها، وهو بيت ما قام الإسلام ولا استقام إلاّ به، ألا وهو بيت علي وفاطمة، وإذ نرى الذين طردهم الرسول، وحكم عليهم بالكفر والارتداد والعناد، وأبعدهم من المدينة، يدخلهم الخليفة الثالث بلا رادع ولا مانع.
هكذا تلاعبوا بالقيم الإسلامية، فأخذت القيم الإسلامية تنهار
يوماً بعد يوم، حتى جاء الثاني، وقسّم الأموال على الشهوات، وقدّم من قدّم، وأخّر
من أخّر، حتى وصل الأمر بأن كانت الأعمال جهارى ترتكب على خلاف الموازين والقيم
الإسلامية، فكأنّهم ما عاشروا الرسول (ص) ، وما سمعوا آية، ولا صلّوا، ولا صاموا،
حتى وصل الأمر إلى مرحلة بأن قام المسلمون جميعاً على الخليفة الثالث فقتلوه، وجاؤوا
بجمعهم وبقبائلهم وبشتى أصنافهم من كلّ المدن التي كانت قد اجتمعت في المدينة
ليبايعوا علياً (ع) ، لكنّها كانت أطماعاً باسم الدين، ومقاصد شخصية، فما نقموا
على عثمان؛ لأنه غيّر وبدّل، فلو كانوا نقموا عليه تغييراً أو تبديلاً لنقموا على
الأول والثاني! لكنّ عثمان خصّصها لنفسه وأهل بيته من بني أمية، فضجّ الناس
والمسلمون، فصاحوا: واديناه، واإسلاماه، فكانوا يصيحون لمقاصدهم الشخصية، بعيدين
عن كلّ الحقائق.
فلمّا جاء رجل الحق والصدق والثبات، وصيّ رسول اللَّه (ص)
ليأخذ بهم إلى المحجة البيضاء، وإذا بهم ــ مرّة ثانية ــ يجسّدون الانقلاب على
الأعقاب، ويرجعون إلى الجاهلية مرة ثانية، ونحن نحمد اللَّه تعالى على أننا بعد
رحيل رسول اللَّه (ص) اهتدينا بعترته الطاهرة، فرحنا نسير وراء الولاية الكبرى،
ولاية علي (ع).
أجل، قد تمسّك الأبرار والصلحاء كأبي ذر والمقداد بولاية
علي(ع)، فملئت من هؤلاء وأضرابهم السجون طيلة القرون، وارتوت من دمائهم الأرض،
فهذه مرج عذراء قُتل فيها الرجل التقي البار حجر بن عدي، وقُتل من كان معه، وهذه
كربلاء أكبر شاهد على المواقف الشيعية ضد الطغاة و الظالمين، فأخذ الشيعة يضحّون ويقفون ويثبتون أمام كلّ التيارات، حتى
وصل الأمر إلى يومنا هذا، فشاهدنا وشاهدتم التلاعب بالقيم والموازين باسم الدين،
فقضاءٌ بلا اجتهاد، وشاهدتم وشاهدنا تبدّل العفو بالمجازر والقتل، فكأن الرسول (ص)
ما فتح مكّة المكرّمة بعد قوله (ص) : ( ما أوذي نبي مثل ما أوذيت) ([2][2]) وإذا به يدخل مكّة المكرّمة وتبقى كلمته الخالدة:
( أنتم الطلقاء) ([3][3])، فعفى عن كلّ مجرم، حتى وصلت المثالية في العفو إلى مرحلة بأن جعل بيت أبي سفيان مأمناً للناس.
( أنتم الطلقاء) ([3][3])، فعفى عن كلّ مجرم، حتى وصلت المثالية في العفو إلى مرحلة بأن جعل بيت أبي سفيان مأمناً للناس.
وجدد الإمام علي (ع) سيرة رسول اللَّه (ص) في حرب الجمل
وغيرها من حروبه؛ لأنه قد يقول قائل: إنّ الرسول (ص) عفى ولم يقتص من أحد من
المشركين، وهذا لا يعم الباغين من المسلمين.
فإنا نقول له: لو كان السماح والعفو في مقابل المشركين فقط
لما جدّده علي (ع) في البصرة من بعدما انتصر على أهلها، فعفى عنهم جميعاً حتى
مروان بن الحكم وعبد اللَّه بن الزبير، قادة الجريمة والبغي والطغيان؛ ليرسم
مثالية القيم والعفو الإسلامي للأجيال، فما قسّم مالاً، ولا تجاوز على عرض، ولا
أجهز على جريح.
وها نحن نقسّم الأموال بلا رادع، ولا مانع.
أين علماؤنا؟ وأين الذين أمرهم اللَّه سبحانه وتعالى أن يقفوا
أمام الباطل، وأن يقفوا أمام كلّ بدعة باسم الدين؟
وقد قال علي عليه السلام :(أخذ الله على العلماء أن لا
يقارّوا على كظة ظالم ولا سغب مظلوم)
وقد ورد عن الحجة عجل الله فرجه الشريف في مقام إرجاع الناس
الى العلماء في ليالي الدهور وسلطة الظالمين ليكونوا سبيل هداية يشق بواسطتهم عامة
الناس الطريق الى الحق :(وأما الحوادث الواقعة فإرجعوا فيها الى رواة
حديثنا........)
و من المعلوم أن الحوادث ليست حكما شرعيا يؤخذ من رسالة عملية
تبين حكم الصلاة والصوم و موارد الطهارة والنجاسة بل هي ما يبتلى به المجتمع في
كافة شؤون حياتهم لأجل تمييز الحق في مقابل الباطل حتى يعرفوا موازين شرع الله في
كل مجالات الحياة لأن الشرع رسالة الحياة و لكي يعرفوا كيف سبيل الدفاع عن
المظلومين في مقابل الظالمين و ما ابتليت به الأمة من الحكام الجائرين طيلة القرون
تارة بإسم الإسلام و تارة بأسماء مختلفة أخرى.
ولا أدري كيف أصبح سياسة مستنكرة ما هو من وظيفة العلماء كما
أشار الإمام علي عليه السلام و أشار الحجة عجل الله فرجه الشريف وما ورد عن الرسول
(ص) : (من أصبح و لم يهتم بأمور المسلمين فليس بمسلم) وأمور المسلمين ما يعم شؤون
حياتهم في كافة المجالات.
لقد كنّا نتعجب من الماضين، فأصبحنا نطبّق الأمر بحذافيره،
فتجري هذه الأمور بمشهد ومنظر من حوزاتنا، ومن كلّ الطوائف والشعوب، فلا متكلّم،
ولا رادع، حتى بلغ بنا الأمر أن نتصالح على حقوق الفقراء والمساكين باسم الدين،
فوصل بنا الأمر إلى أن بعض الوكلاء ــ في كثير من المناطق ــ يقسّمون الأموال
ويلعبون فيها، فلا رادع، ولا مانع، فهل جُعل التقليد فقط لكي نعطي الأخماس
والزكوات؟ وهل جُعل التقليد فقط لكي نصلّي ونُقبّل الأيدي، أم أنّ التقليد لمعرفة
المنهج والقيادة السليمة والدفاع عن المظلومين؟ فهل التقليد اليوم كما كان في الأزمنة المتقدّمة؟
حينما كان هناك رجال اللَّه الحقيقيّون، كانوا يأمرون
بالمعروف وينهون عن المنكر، وكانوا يقفون أمام كلّ التيارات، وما نجد اليوم من هذا
النمط إلاّ القلائل من رجالات الحق، وهذه التقية التي جعلناها غطاءاً لكلّ نفاق
ومكر ورياء و إن كانت حقا في نفسها فأصبحت من كلمة حق يراد بها باطل.
إلى متى يتترّس الواحد منّا بسلاح التقية؟ لقد جعلنا التقية
وسيلة لكل تلاعب، وفراراً من أعباء المسؤولية، فإلى متى استخدام التقية بهذا
النحو؟ هلاّ كان أبو ذر يعرف التقية في مقابل عثمان! وهلاّ كان المقداد يعرف
التقية في مقابل الأول والثاني! وهلاّ كان هشام بن الحكم وهو من أهم أصحاب الإمام
الصادق يعرف التقية في مقابل الطواغيت! أم نحن فقط من عرف التقيّة ودرسها! وهلاّ
كان أصحاب الرسول (ص) ــ الذين ثبتوا مع علي (ع) ــ قرأوا سطرين من التقيّة
ليعلموا ما علمنا نحن اليوم؟
فنحن ننظر إلى كلّ تلاعب ولا يتكلّم منّا أحد إلاّ دفاعاً عن
خصوصياته وشؤونه وعناوينه، أهكذا أمرنا اللَّه تعالى؟! أين ذهب العفو الإسلامي؟
وأين ذهب القضاء الإسلامي؟ فمن أين جئنا بما جئنا به من الأمور؟ كلّ ذلك باسم
اللَّه وأنبيائه وأوصيائه، واللَّه يعلم بأنّا نعرف موازين الحق لكنّ الدنيا حليت
في أعيننا.
والآن نبدأ في الخطبة المعروفة بخطبة الشقشقية، وما مرّ على
إمام الموحدين وسيّد الأوصياء، حيث قال علي (ع): ( أما واللَّه لقد تقمّصها ابن
أبي قحافة، وإنّه ليعلم أنّ محلّي منها محلّ القطب من الرحى، ينحدر عنّي السيل،
ولا يرقى إليَّ الطير، فسدَلتُ دونها ثوباً، وطويت عنها كشحاً، وطفقت أرتئي بين أن
أصول بيد جذّاء، أو أصبر على طخيةٍ عمياء، يهرم فيها الكبير، ويشيب فيها الصغير،
ويكدح فيها مؤمن حتى يلقى ربه، فرأيت أنّ الصبر على هاتا أحجى، فصبرت وفي العين
قذى، وفي الحلق شجا، أرى تراثي نهباً، حتى مضى الأوّل لسبيله...) ([4][4]) .
فيجب أوّلاً أن ننظر إلى فقرات هذه الخطبة:
( أما واللَّه) كلمة أما مثل كلمة ألا من حروف التنبيه
والتوجيه، أما واللَّه قسمٌ صادر من علي (ع).
( لقد تقمّصها ابن أبي قحافة) التقمّص: لبس الشيء كالقميص، فيقول
علي (ع): إنّ ابن أبي قحافة لبس الخلافة لباساً، وتقمّصها تقمّصاً في حال كونه
يعلم بذلك علم اليقين، فكلمة ( إنّ) من حروف التوكيد، وإنّه ليعلم: تأكيد بعد
تأكيد.
( أنّ محلّي منها محلّ القطب من الرحى) .
أقول: خُدعنا وننخدع على طول التاريخ بمجرد ثبوت العلم،
والعلم بلا تقوى لا يفيد، فليس هناك من عالم بشهادة أمير المؤمنين علي (ع) بلغ
مرتبة من العلم والمعارف حتى كان بهذه المرحلة، بأنّه يعلم ويعرف بكلّ معنى الكلمة: أنّ قطب رحى الإسلام هو علي (ع) ، وأنّ
تحرّك الإسلام بكلّ قيمه وشؤونه بخلافته وعلمه، وبكلّ مقاييس الرسالة، لا يكون
متحقّقاً إلاّ بوجود علي (ع)، فالقطب هو الذي تدور عليه الرحى، وبدون قطب الرحى لا
تحرّك للرحى، فعليٌ (ع) يشهد في حق أبي بكر على أنه يعلم ويعرف بكلّ معنى الكلمة:
أنّ قطب رحى الإسلام ــ بكلّ أبعاده ــ هو
علي (ع) ، فلا تحرّك، ولا بيان، ولا تطبيق، إلاّ بعلي (ع) ، ولذا قال: ( أما واللَّه) قسم ( لقد تقمّصها ابن أبي قحافة) يعني لبس الخلافة كالقميص
( وإنّه) أي ابن أبي قحافة ( ليعلم) . وإنّه حرف توكيد. وليعلم تأكيد بعد تأكيد ( أنّ محلّي منها) أي من الخلافة ( محلّ القطب من الرحى) ، فهكذا كان يعلم ابن أبي قحافة منزلة علي (ع) ، فإن شئت سَمِّه فقيهاً، أو عارفاً، أو ما تشاء أن تسمّيه من الأسماء، فكان عارفاً لكنّ الدنيا حليت في عينه، فتقمّص الخلافة على الرغم من كلّ العرفان والدراية.
علي (ع) ، فلا تحرّك، ولا بيان، ولا تطبيق، إلاّ بعلي (ع) ، ولذا قال: ( أما واللَّه) قسم ( لقد تقمّصها ابن أبي قحافة) يعني لبس الخلافة كالقميص
( وإنّه) أي ابن أبي قحافة ( ليعلم) . وإنّه حرف توكيد. وليعلم تأكيد بعد تأكيد ( أنّ محلّي منها) أي من الخلافة ( محلّ القطب من الرحى) ، فهكذا كان يعلم ابن أبي قحافة منزلة علي (ع) ، فإن شئت سَمِّه فقيهاً، أو عارفاً، أو ما تشاء أن تسمّيه من الأسماء، فكان عارفاً لكنّ الدنيا حليت في عينه، فتقمّص الخلافة على الرغم من كلّ العرفان والدراية.
أرجو التوجّه إلى نكتة قد لا تُعجب ولا ترضي المجتمع، وهي:
أنّ مدرسة كان المعلّم فيها رسول اللَّه (ص) في ضمن ثلاث وعشرين سنة، فمنهم من حضر
جميع هذه الصفوف من بداية الدعوة إلى زمن رحيل الرسول (ص) ، ومنهم من تتلمذ في هذه
المدرسة العشرين والخمسة عشر والعشر سنوات والأقل من ذلك، فمدرسة يدرّس فيها سيّد
الكائنات
محمد (ص) ، بعد رحيله ينقلب الناس على الأعقاب، فحصيلة هذه المدرسة أفراد نوادر قلائل ثبتوا مع علي (ع) ، فكيف الحال في مدارسنا وحوزاتنا! فهل تنتج أكثر ممّا أنتجت مدرسة معلّمها سيّد الكائنات؟!
محمد (ص) ، بعد رحيله ينقلب الناس على الأعقاب، فحصيلة هذه المدرسة أفراد نوادر قلائل ثبتوا مع علي (ع) ، فكيف الحال في مدارسنا وحوزاتنا! فهل تنتج أكثر ممّا أنتجت مدرسة معلّمها سيّد الكائنات؟!
فكلامه (ص) كلام نافذ في القلوب مع صدق وحقيقة لا سابقة لها
ولا لاحقة، وإذا بنفوس الأمة الإسلامية تصل إلى مرحلة بأن تكون منقلبة على
الأعقاب، فعندما جاء الزلزال والبلاء الإلهي إذ بتلك المدرسة يخرج فائزاً منها
أمثال أبي ذر والمقداد بن الأسود وعمّار بن ياسر وسلمان الفارسي و... فإن عددناهم
فهم عشرة، وإن أكثرنا فهم مائة، وإن وجد من هو دون أولئك العظماء في مراتب
الإيمان، تلك هي مدرسة الرسول (ص) ، فما هو توقعنا من مدارسنا وحوزاتنا، هل يمكن
أن تنتج رجالاً كعمار أو أبي ذر والمقداد؟ وإن وجدوا فما يكونون إلاّ نوادر في كل
قرن يحتج اللَّه تعالى بهم على البشرية يوم الدين، أمّا التكلّم على المنابر فهو
كثير، وأما صياغة الألفاظ فهي حسنة، فكلّ واحدٍ منّا خطيب بارع، أو عالم وفقيه حصل
على أعلى الشهادات في مواطن إعمال الموازنات، فإذا تكلّم تظنّ أنّه يمثّل الأنبياء
والأوصياء، لكن إذا جاء الاختبار وجاء المحك والزلزال فهل من مجتمعنا يثبت اثنان؟
لا أقول إنّ أرض اللَّه خالية، ولا أدّعي هذه الادّعاءات، لكن أقول: إنّ الثابت
على الدين هو الذي يعامل اللَّه معاملة حقيقية واقعية، لا من أجل رئاسات، ولا
زعامات، وهؤلاء قلائل على مرّ الدهور.
قال الإمام الحسين :(الناس عبيد الدنيا والدين لعق على
ألسنتهم يدورونه ما دارت معايشهم فإذا محّصوا بالبلاء قل الديانون).
فبأيّ عنوان قبلنا لأنفسنا سمات وعناوين وألقاب، كحجة
الإسلام، وثقة الإسلام، وحجة الإسلام والمسلمين، وآية اللَّه، وآية اللَّه العظمى
والكبرى، لنتنازع في الألقاب؟ وها هي مواقفنا وأعمالنا في مقابل ما
نشاهد ونرى من الانحراف والتحريف، أما الألقاب فالحمد للَّه ربّ العالمين تزداد كل
يوم، وتتطوّر بتطور الزمن، وهذه كلمات قد لا تعجب الكثير من الناس، لكن اللَّه
يشهد إن كان لي من الدين بالمائة واحد فلا أريد من المائة واحد أن أكون منافقاً،
بل أريد أن أقدم على ربّي بواحد من الألف من القيم، أو بواحدٍ من عشرات الآلاف من
القيم صادقاً محتسباً، أرجو عفو ربّي، وأرجو أن يكون ذلك العمل ــ وإن قلّ ــ
مقبولاً عنده.
فأقول: علينا أن نكون واقعيين، أن نكون حقيقيين، أين القيم
التي جاء بها الرسول (ص) ؟ أين الحوزات العلمية مع كثرة عددها وعشرات آلافها،
باختلاف مراتبهم؟ أين هم من الثبات والقيم وهم يشاهدون نسف الموازين بإسم دين الله
؟ لا أقول: إنّ الأرض خالية، بل هناك من ثبت ووقف وتكلّم وعانى، وهناك من كان قدوة
وأسوة وحجّة يحتج به اللَّه يوم القيامة، لكنّهم أقلّون.
إنّ الكثير من الوكلاء الذين يبعثون إلى الخارج لا يعرفون
حتّى المقدّمات، فكيف نبعثهم إلى الغرب والشرق إلى الأمم المختلفة، يقابلون أبناء
العامّة واليهود والنصارى والعلمانيين بقيمٍ علمية لا تكون بمقدار الصفوف
البدائية؟ فكيف بعثناهم؟ ولماذا نتسابق على بعث الوكلاء إعطاء الوكالات ونحن نعلم
أن الكثير منهم لا علم عنده؟ فإلى متى نسير بهذه المسيرة: نتسابق
في إعطاء الوكالات؟ رضي الناس منّي أو لم يرضَ منهم أحد، فإنّي من أوّل الأمر
صمّمت أن لا أصلّي جماعة، ولا أعرّض نفسي إلى مسألة اجتماعية حتى لا أفقدها عندما
أتعرض لهجمة اجتماعية شعبية، فلا أخاف من إمامة صلاة تفقد، ولا أخاف من حقٍّ شرعي
يسلب، ولا أخاف من وكالة تسترد، ولا من أيّ شيء آخر، فأقول: إلى متى نسكت عن
المتلاعبين باسم الدين؟ نشاهد ما نشاهد وكأنه لا حساب ولا كتاب، وإذا جلسنا ليالي
الجمعة ندعو بالفرج، أو في صباحها بدعاء الندبة، فإنّ الظهور لا يكون لأناس سكتوا
عن الحق، فهل مثل هذه الدعوات تكون مستجابة؟
قال (ع): ( أما واللَّه لقد تقمّصها ابن أبي قحافة، وإنّه
ليعلم أنّ محلّي منها محلّ القطب من الرحى) فالعلم ليس هو انكشاف الواقع فقط، لأنّ
انكشاف الواقع كان حاصلاً لأبي بكر، لكنه هل استفاد منه؟ هل كان هذا العلم سبيلاً
للنجاة؟ فلا يقول القائل: أنا حكيم، أو عارف، أو متكلّم، أو فقيه وأصولي.
إنّ الإمام علي (ع) يتأوّه ويتحسّر على الأقلّين من الرجال
الذين يثبتون على طول التاريخ، ويقول: إنّهم الأقلّون عدداً، والعمائم كثيرة،
والادّعاءات أكثر وأكبر، وكلّ واحدٍ منّا قد تصل به الحالة النفسانية في العجب
والغرور أن لا يردّ السلام على الآخرين، ويظن نفسه يسير في مسلك رسول اللَّه (ص)
خلقاً وتربية، فالرجل الذي وصل في المعرفة والعلم بأن عرف: أنّ رحى الإسلام لا
تتحرّك، ولا وجود لها إلاّ بعلي الذي هو قطبها، فإن هكذا علم لم يكن رادعاً ولا
مانعاً لهوى اغتصاب الخلافة وتقمّصها، هل تظن أنّ طلحة والزبير كانا جاهلين؟! لقد
ثبتا مع الرسول (ص) ، وحاربا وقاتلا، لكن لمّا حليت الدنيا في الأعين من بعد وفاة
الرسول (ص) رأينا: هذا ينازع على حكم، وذاك يتقمّص خلافة، وذاك يسكت عن الباطل
كاتماً للحق، فتبدّلت الأمور، وضاعت المقاييس، فجاء علي (ع) بعد خمسٍ وعشرين سنة
من تبديل القيم والموازين والحقائق، يريد إرجاعها مرة ثانية إلى مصبّها السليم،
إلى ما كانت عليه في عهد رسول اللَّه (ص) ، فثقل على الناس أن يتقبلوا محض الحق من
علي (ع) ، مع أنّ الأيام كانت قريبة من عهد الرسول (ص) ، والناس قد شاهدوا الرسول
(ص) ، وسمعوا منه الكلام، فكيف بنا لو حصل الظهور لصاحب الزمان (عج) وقد ابتعدنا
الآلاف من السنين! فهل تظنون أنّنا لو دعينا إلى الإسلام سنلبّي؟ فهناك روايات
تقول: إنّ أوّل مخالف عند ظهوره وأوّل قائل لـه: ارجع يا ابن رسول اللَّه، هم
العلماء، فلعل قائلاً يقول: هؤلاء لا يقصد بهم نحن، نقول: يقيناً المقصود بهم نحن؛
لأنّ علماء السنّة يشكّكون في نفس الأمر، فالروايات تقول: إذا جاء (عج) يسأله
الناس، ويقول القائل: هل هذه يا ابن رسول اللَّه هي شريعة رسول اللَّه (ص) ، أم هي
شريعة أخرى؟
لماذا نقول بهذه المقالات؛ لأننا ابتعدنا ثم ابتعدنا وسكت
الكثير من العلماء عن الحق.
يتأثّر المتأثّر منّا، وينزعج إذا قيل لـه كلمة: شيخ، أو حجة
الإسلام والمسلمين؛ لأنه يأمل أن يقال له: آية اللَّه العظمى، وتسحق الشريعة بكلّ
أبعادها، لا متأثّر، ولا متكلّم، ولا قائل، ولا ناظر، إلاّ النوادر من العلماء،
لقد كانت هذه الكلمات كـ ( ثقة الإسلام) لا تطلق إلاّ على الأوتاد، فيقال: إنّ
فلاناً ثقتي، فما كانت تقال لأمثالي وأشباهي من الرجال. كانت كلمة
( ثقتي) تطلق على زكريا بن آدم، الذي يقول في حقّه الإمام الصادق (ع) :
( إنّ بمثل زكريا بن آدم يمسك اللَّه السماء أن تقع على الأرض) ([5][5]) . لقد كانت كلمة ( ثقة) و ( حجّة) وما شاكل هذه الكلمات تطلق على عظماء الرجال، كانت تطلق على زرارة ومالك الأشتر، كانت تطلق على رجال اللَّه الحقيقيين، لا على الذين يتنازعون فيما بينهم على مسجد، أو حسينية، ونتنازع على ألقاب لا نستحق منها بدايات الكلمات، فما نحن وحجج الإسلام؟ وما نحن وثقات الإسلام؟ وما نحن وآيات اللَّه الكبرى؟ فإنّ آيته الكبرى علي (ع).
( ثقتي) تطلق على زكريا بن آدم، الذي يقول في حقّه الإمام الصادق (ع) :
( إنّ بمثل زكريا بن آدم يمسك اللَّه السماء أن تقع على الأرض) ([5][5]) . لقد كانت كلمة ( ثقة) و ( حجّة) وما شاكل هذه الكلمات تطلق على عظماء الرجال، كانت تطلق على زرارة ومالك الأشتر، كانت تطلق على رجال اللَّه الحقيقيين، لا على الذين يتنازعون فيما بينهم على مسجد، أو حسينية، ونتنازع على ألقاب لا نستحق منها بدايات الكلمات، فما نحن وحجج الإسلام؟ وما نحن وثقات الإسلام؟ وما نحن وآيات اللَّه الكبرى؟ فإنّ آيته الكبرى علي (ع).
وبالجملة: فالعلم لا يكون سدّاً منيعاً يحصّن الإنسان أمام
الباطل، فأبو بكر كان عالماً، ووصل به العرفان والمعارف إلى مرحلة من العلم بأن
عرف أن قطب رحى الإسلام ــ الذي لا حراك للإسلام علماً وعملاً بدونه هو
علي (ع) ، وأنا وأنت من أبناء الشيعة لعل الكثير منا لا نعرف هذه المعاني بأبعادها، فعلينا أن نتثبت في الأمر، وعلينا إذا أردنا أن نقلّد لا نتسارع في التقليد، لأنّ التقليد ليس فقط من شرطه العلم، بل التقليد علمٌ وتقوى، فيجب أن يكون الإنسان آمراً بالمعروف ناهياً عن المنكر، لا يكتم المجتمع حقائق الأمور.
علي (ع) ، وأنا وأنت من أبناء الشيعة لعل الكثير منا لا نعرف هذه المعاني بأبعادها، فعلينا أن نتثبت في الأمر، وعلينا إذا أردنا أن نقلّد لا نتسارع في التقليد، لأنّ التقليد ليس فقط من شرطه العلم، بل التقليد علمٌ وتقوى، فيجب أن يكون الإنسان آمراً بالمعروف ناهياً عن المنكر، لا يكتم المجتمع حقائق الأمور.
كيف يكون الإنسان قدوة، مرجعاً، ملاذاً، وهو لا يبالي بما جرى
أو يجري على الكيان الإسلامي والمجتمع بما يعيشونه من ظلم واضطهاد؟ فهو يريد فقط
وفقط محاسبة الناس على أخماس وزكوات، وإنما قلّده الناس رقابهم وحياتهم الأبدية من
أجل أن يبيّن لهم حقائق الأمور في مواطن الحق والباطل، ويكون أداة صدق للدفاع عن
المظلوم في مقابل الظالم.
فالتقليد هو بيان الشريعة بكلّ أبعادها، والتقليد هو أن يكون
متقدّماً أمام كلّ شيء، حتى يكون أسوة لكلّ شيء، فنحن نأمر الناس بالأمر
بالمعروف والنهي عن المنكر، وننسى أنفسنا، ونأمر الناس بالجهاد ونختفي في البيوت،
ونقدّم أبناء الناس إلى محارق الموت ونجلس في البيوت، أهكذا كان قادة الإسلام
والمسلمين؟ فهذا عليٌّ (ع) يقول: ( كنّا إذا اشتدّ البأس وحمي الوطيس لذنا برسول
اللَّه (ص) ) ([6][6]) ، وقال علي (ع): إذا اشتدت الحرب قام رسول اللَّه (ص) فقال:
تقدّم يا علي، تقدّم يا حمزة، تقدّم يا عبيدة، فيجعل أهل بيته سدّاً ودرعاً يقي
بهم المسلمين، وإذا اشتدّ جعل نفسه وقاية لأهل بيته، فهو درعٌ لأهل بيته، وأهل
بيته درع للمسلمين، ونحن ندعو الناس لمحارق الموت ونختفي في البيوت!
وهذا الحسين (ع) أوّل قتيل قدّمه هو علي الأكبر قبل الأنصار،
وقبل بني هاشم، وهذا علي (ع) دخل حروبه جميعاً هو في القلب، أو في الميمنة، أو
الميسرة، وقسّم بني هاشم قلباً وميمنة وميسرة، ما خرج إلى حرب إلاّ وهو في أوساط
القوم، والحسن والحسين كذلك وبقية بني هاشم.
هكذا عرفنا الإسلام في سيرة المعصومين، لا أنّ ميادين الوغى
لغيرنا ولأولاد غيرنا، ونختفي في البيوت! هذه حجة من اللَّه عليّ وعليكم ليوم لا
ينفع فيه مال ولا بنون إلاّ من أتى اللَّه بقلب سليم، حيث يقول تعالى:
{ وقفوهم إنّهم مسؤولون} ([7][7]) .
{ وقفوهم إنّهم مسؤولون} ([7][7]) .
والحمد للَّه ربّ العالمين.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق