الخميس، 25 أبريل 2013

@ الأخلاق المحاضرة رقم 15



لسماحة الأستاذ الشيخ محمد كاظم الخاقاني

كان الكلام في بحثٍ عقلي بلحاظ، أو شرعيٍ بلحاظٍ آخر، وهو: أنّه هل من الممكن أن يعاقب اللَّه تعالى الإنسان على نيّته، أو لا يعقل أن تترتّب العقوبات والأحكام الشرعية على النيّات والخواطر النفسانية؟
وقبل الدخول في البحث لابدّ من الالتفات إلى أنّه هل هناك من فارقٍ بين النية والخواطر النفسانية، أو هما بمصداقيةٍ واحدة؟
فنقول: إنّه بحسب المفهوم: الخواطر النفسانية هي ما خطرت على النفس، بلا إرادة واختيار، والنية: ما عقد الإنسان الضمير عليها عازماً على تنفيذها، سواءً تمكّن من تنفيذها في الخارج، أو لم يتمكّن، فالبشر يحشرون يوم القيامة على طبق نيّاتهم، وأنّ الشارع المقدّس يعاقب على النية بمعنى: العزم والتصميم والجزم على إرادة الفعل، أو النية بمعنى المعتقد، فكم من إنسان عازم على أمر لكنّه ينتظر الفرصة لترتيب آثار ما عقد النية عليه، ونيّة الإنسان ربّما تكون خيراً من عمله، وربّما تكون نيّته شرّاً من عمله؛ لأنّ الكفر والإلحاد والإيمان ومراتب التقوى تدور مدار ما وصلت إليه النفس، من أمور صدّقتها، وجزمت بها، وعقدت الضمير على ترتيب الأثر عليها، فربّ إنسانٍ مؤمنٍ ــ بكلّ معنى الإيمان والتقوى ــ يأتي إلى دور الحياة فقيراً، فلا يتمكّن من تنفيذ ما هو من مستوجبات البذل المالي، لكنّه بكلّ إرادة وتصميم قد عقد النية على القيام بكل خير، والاشتراك بكلّ الأمور والمسائل الاجتماعية والاقتصادية، وعلى كل خير وسلام، فلو كان متمكّناً لبذل الكثير في سبل الخير، لكنّه فقير، فهاهنا تترتب الأمور على نيّته وجزمه الذي عزم عليه، وتصميمه الذي حصل بإقرار النفس، فاللَّه سبحانه وتعالى لا يترك اختبار أحدٍ ولو بمقدار درهمٍ واحد، فالغني على مقدرته المالية، والفقير على حسب مقدرته المالية أيضاً، فربّ درهم نزلت به آية، وخاتم نزلت من أجل بذله آية ولاية، كما كان في حقّ علي (ع) ، فإنّ ما تصدّق به ما كان خاتماً كخواتيم الملوك والمتمكّنين، بل تصدّق بخاتم بقيمة متعارفة عاديّة، لكن لما كان عن خلوص بكلّ معنى الكلمة، وعن معرفة ببعدها التام، نزلت آية تحكي بُعد هذه النفس وارتباطها بالحق سبحانه وتعالى([1][1]) .
فإذن: تحشر النفوس على نياتها يوم القيامة، والعمل الخارجي شي‏ء مبرز لتلك النيّات التي عُقدت النفوس على طبقها، فليس هناك من وجه مشترك بين الخواطر وبين النيّة التي هي عزم وتصميم ووصول إلى مرحلةٍ تامّة في التصديق، فربّ متيقّن أو عالم لم تصل نفسه إلى مرحلة الجزم وانعقاد النفس والتصميم، فالنيّات مراحل بعد مراحل العلم؛ لأنّه ربّ عالمٍ لا يرتّب الأثر على ما علم به.
فالنية ــ التي هي محلّ الكلام، وأنّها مدار للجنان والنيران ــ هي النية التي وصلت إلى عقد الضمير والجزم والتصميم، وبقي الإنسان ينتظر الفرصة لتحقيق كل من الخير، أو الشر، فهذا عقد الضمير على الشر، أو على كلّ شرّ، بمقدار ما تمكّن من الإبراز في تحريف عقيدة، أو في ظلمٍ، أو جور، أو كلام على اللَّه بلا علم، وذاك أيضاً عقد الضمير ونوى الخير لكنّه ما تمكّن أن يقوم في الخارج بكلّ ما هو من شأن الخير، فما قام به كان مبرزاً لتلك النية التي وصلت إلى قرارة نفسانية.
فإذن: مسألة النية ــ التي يدور مدارها التكليف، ويأخذ اللَّه تعالى الإنسان بها ــ قد تجاوزت الخواطر النفسية التي هي خارجة عن الإرادة والاختيار، بل وتجاوزت التصوّرات، وكلّ مراحل العلم، وما صار عقداً نفسانياً تبرزه الأمور خيراً أو شراً في الخارج والعمل يتبع العقيدة والمعارف، فربّ عاملٍ بنى المساجد، وعمل الكثير من الخيرات الظاهرية؛ لنفاقٍ، أو رياء، أو جهل، أو تقليد للآخرين، لو تغيّر المحيط والمجتمع لتغيّر مع المحيط أو المجتمع، وربّ إنسان آخر ما مكّنه الزمن إلاّ من القيام بقليلٍ من الأمور، لكنه سيكون في علّيين عند ربّه؛ لأنّه عقد النفس والضمير على كلّ خير، بمعرفةٍ وخلوصٍ واقعي.
وكلامنا ليس في النيات التي وردت الأخبار والروايات والآيات فيها، بل كلامنا في الخواطر النفسانية التي تخطر على النفس، بلا أن تكون النفس ملتفتة إلى ذلك الشي‏ء، بلا إرادة واختيار، وإن أمكن أن تكون لبعضها أسبابها وعللها غير الملتفت إليها.
فهل للخواطر آثار: من عقابٍ، أو عطاءٍ، أو جنان؟
نقول: إنّ التكاليف تدور مدار الاختيار، فمن أجبر على شي‏ء لا يُمدح ولا يذم، ولا تترتب عليه الآثار، بل تترتب الآثار على عملٍ صدر عن علمٍ وإرادة وتوجّه.
فالآن نقول: هل الخواطر النفسانية تترتب عليها الآثار، أو لا تترتب؟
فإن نظرنا بمنظار فلسفي حكمي، وجدنا المقام من الموارد التي لا يعقل أن تترتب عليه الآثار؛ لأنّا عرفنا أن الآثار والأحكام مترتبة على ما كان عن إرادة، والخواطر تخطر على النفس بلا إرادة، واللَّه تعالى لا يعاقب على أمرٍ خارج عن الإرادة، فيكون عملاً قبيحاً، والحق حاشاه من القبيح، وكيف يكون مورداً للتكليف، ولا يكلّف اللَّه تعالى بما لا يطاق؟ فإن نظرنا بهذا المنظار، وجدنا التكليف هاهنا من المحالات؛ لأنّه ينافي العدل الإلهي.
وإن نظرنا إلى هذا الموضوع بمنظار آخر، أي: جئنا لننظر نظرة شرعية إلى مثل الوسوسة، وجدنا أنّ الشارع عبّر عنها بأمورٍ مرفوعة، ولا يعقل أن يكون الشي‏ء مرفوعاً إلاّ إذا كانت المعدّات، المقتضيات، القابليات للتكليف فيه موجودة، حتى بعد ثبوتها يأتي دور رفع ما هو ثابت، وإلاّ فلا يعقل رفع أمرٍ لا أرضية ولا تحقق لـه، فإذن الجاهل القاصر لا معنى للقول بأنّ اللَّه تعالى ــ منّةً بحاله ــ رفع عنه تكليفاً، بل لو أنّ اللَّه عفى عن المقصّر يكون منّة، أمّا القاصر فهو عدم قابلية وأهلية لهذا الموضوع، فلا تكليف إلاّ فيما يطيقه الإنسان، ولا عقاب إلاّ في موارد يكون الإنسان ظالماً فيها ومتعدياً بعد معرفته للتكاليف، واللَّه تعالى ما كان ليعاقب أحداً بلا أن يبلغه التكليف، أو بلا أن يكون قادراً على التكليف؛ لأنّه يكون ظلماً، والظلم قبيح، والقبيح على اللَّه مستحيل باعتقادنا؛ خلافاً للأشاعرة، فهذه كبريات لا نتردد فيها، لكن هل لو عاقب في مورد الوسوسة لكان منها، ولو عاقب في مورد الطيرة والتشائمات كان منها، فهل لو عاقب في مثل هذه الموارد كالاضطرار وما شاكله كان منها، أو ليس منها؟
فبعض الأمور التي يمكن أن نتخلّص منها بمقدّماتها ربّما تكون محلاًّ للتكليف، يعني لها قابلية وأرضية لأنْ تكون محلاًّ للتكليف، كما أنّ الصبيّ المميّز لـه قابلية وأرضية لأنْ يكون محلاًّ للتكليف، لكن منّة من اللَّه تعالى رفع عنه التكليف الإلزامي، وكذلك في موارد الخطأ والنسيان، فإنها من هذا القبيل، فيقيناً النفس بما هي نفس خالية من كلّ خيرٍ فعلي، ومن كلّ شرٍّ فعلي، والوساوس الشيطانية لها أسباب؛ لأنها أمور حادثة، وكلّ ما كان حادثاً طارئاً على النفس لابدّ وأن يرجع إلى أسبابه، فلو أراد اللَّه تعالى أن يعاقب عليها لعاقب؛ لأنّ المقتضي موجود، حيث إنّ الأمور التي تطهّر النفس من العلم والتقوى وطهارة النفس وزكاتها قد بيّنها الشارع، والأمور التي تسبّب الخبائث بيّنها الشارع أيضاً، ونهى عنها، والنفس لا تكون محلاًّ للوساوس الشيطانية إلاّ بمعدّات ومؤهّلات ساقت الإنسان إلى هذه المتاهات، فلا يبقى من الوساوس إلاّ النوادر التي ربّما لم يكن للإنسان دخالة فيها.
أجل، لا ننكر على أن بالمائة عشرة من الوساوس الشيطانية ربّما لا تكون بهذا المنهاج، لكنّ الغالب من الوساوس الشيطانية ترجع إلى معدّاتها وأسبابها التي حدثت بواسطتها هذه الوساوس، كما وأنّ الإلهامات الرحمانية ترجع أيضاً إلى معدّاتها وأسبابها، كالنفس الطاهرة التي نراها دائماً محلاًّ للإلهامات الإلهية، وأخرى هي نفس عاشت الشهوات والرغبات وما شاكل هذه الظلمات والحجب المختلفة والغشاوات، فصارت محلاًّ للوساوس الشيطانية، فلعلّ حديث الرفع يُرشدنا إلى أنّ الرفع في مواطن الوساوس كان منّة، والمنّة لا تكون في مواطن لا أهلية ولا أرضية لها في النفس، فإذن لو عاقب تعالى لما كان ظلماً، ولو كلّف لما كان تكليفاً بالابتعاد عن أمر لا يطاق.
وبعد هذه المقدّمة ــ وهي الوساوس الشيطانية ــ يجب الالتفات إلى أمرٍ، وهو: أنّ قمم الأمور خيراً وشراً لا يتمكّن إبليس أن يصل إليها؛ لأنّه حينما يرقى الإنسان في كماله يتجاوز الملائكة، وحينما يهبط وينزل أسفل سافلين يتعدّى ــ في تسافله وحضيضه ــ الحيوانات والشياطين أيضاً، فالشيطان يعيش في عالم الإمكان، لكنّه ليس بقادر أن ينزل إلى الحضيض تماماً، وليس بقادر أن يرقى إلى القمم تماماً، فيكون قاب قوسين أو أدنى، والذي يتمكن أن يسبح ما بين دفّتي عالم الإمكان هو الإنسان، فالإنسان بمسيره يتجاوز الملائكة، وبسقوطٍ وانحطاط يتجاوز في سقوطه عن الفطرة، وعن الحيوانات والشياطين، وعند رفع الحجب يتمنّى أنه كان تراباً، فإبليس معلمٌ في الصفوف الأولى للإنسان، ثمّ يصبح الإنسان معلماً لإبليس.
فإذن: ليست الوساوس مختصة بإبليس، بل هناك وساوس شيطانية، ووساوس إنسانية، والوساوس الشيطانية لها حدود، والوساوس الإنسانية لا حدود لها في السقوط.
فإذن: من جملة الأمور التي يجب الالتفات إليها في المقام الوسوسة، فرّبما تكون مرضاً نفسانياً، فإنّ الكثير من الناس يصاب بمرض في طهارة، أو نجاسة، فيدخل الحمام الساعة والساعتين، وهو يعتقد أنه لم يطهر بعد، ويصلّي ويتردّد في صلاة نفسه: أكانت صحيحة، أم لا ؟ وهكذا الكثير من الوساوس تصل إلى مرحلة مرضٍ نفساني، فعلى الإنسان أن يعالج كلّ مرضٍ قبل أن يستولي عليه بتمام معنى الكلمة، لكن إذا توغّل المرض إلى مرحلة ربّما لا يكون لـه علاج، لكن في بعض المواطن تكون الوسوسة بطهارة، أو نجاسة، شيطنة ورياء وفخّاً؛ لاصطياد البسطاء من الناس، فهل هذا الإنسان المتظاهر بالاحتياط في طهارة، ونجاسة، هو وسواسي؟ وأيضاً من الناحية المالية إذا قبض الدراهم والحق الشرعي، فهل لـه وسوسة فيها، أم يحلّلها بسبعين ألف محلّل؟ وإذا جاء مورد الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر هل الواحد منّا يحتاط: بأنه قام بتكليفه، أو لم يقم؟ ويصاب بالوسوسة ويحتاط، ويكرّر الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر في كلّ مكانٍ، وفي كلّ زمان؛ خوفاً من اللَّه؛ لأنّه مصاب بوسوسة، فهل إذا زكّى أمواله أو خمّسها يُصاب بوسوسة، فيزكّيها مرة ثانية وثالثة؛ ليتخلّص من خوف ومن عقاب يوم القيامة؟ فهل الوساوس تدور في مثل هذه المحاور وأمثالها، كالقيام بالتكليف وأبعاد المعارف، أو تدور ــ في الغالب منّا ــ في طهارة ونجاسة؟
فيجب أن نكون وسواسيين في قيامنا بالشريعة، متّهمين لأنفسنا، وهذا هو المؤمن الحقيقي.
ولقد سمعت من بعض الأفاضل، وهو يقول: إن وجدتم الوسوسة في العوام، ففي الغالب هي مرضٌ نفساني وجهل وابتعاد عن معرفة الشريعة، وإن وجدتموها في بعض الحوزات ــ ولا أقول الجميع ــ فلعلّ الكثير منها كان رياءً تلبّس باسم الاحتياط والوسوسة، فعلينا أن لا نخرج من متاهة وندخل في متاهةٍ أخرى.
والشارع المقدس كما تعلمون في مثل الطهارة والنجاسة ــ التي هي من الملاكات الخفيفة ــ بناها على البراءة، أي بناها على أنّك تستطيع أن تتخلّص منها بالأصول العملية وما شاكلها، والحال أنّ الكثير منّا هاهنا نجده محتاطاً ووسواسياً، لكنّه إذا جاء إلى المواطن التي يجب فيها الاحتياط، كالدماء والأعراض، وهي المواضيع التي جعلها الشارع محلاًّ للاحتياط، وجعل الحدود فيها تُدرَأُ بالشبهات، فهل نحن في هذه المواطن نعيش الحيطة إذا كنّا قضاةً، أو نتسرّع في إجراء الأحكام؟ فإن وجدنا الشخص في مثل هذه الأمور محتاطاً علمنا إن شاء اللَّه بأنّه يعيش طهارة ونزاهة نفسانية، والروايات الكثيرة تتكلّم عن الوسوسة، وتقول: إنّ الوسواسي يعبد الشيطان، فهل نحن في غير الطهارة والنجاسة نحتاط: بأن لا نغتاب الناس؟ وهل نحتاط أن لا نظلم أحداً؟
فقد ترى إنساناً لا احتياط عنده في دماءٍ وأعراض، فيجزر الناس جزراً، بلا احتياط، ولا تأمّل، وإذا هو بعد لحظة يقوم إلى وضوئه فيحتاج إلى نصف ساعة، فهذه ازدواجية، فاللَّه تعالى أعطى الإنسان المؤمن ملاكات يميّز به الصادق من الكاذب، فعلينا أن لا نخدع بالزهد الظاهري وبالتقوى الظاهرية.
والحمد للَّه ربّ العالمين.
www.alkhaghani.org

[1][1]ــ أنظر: مجمع البيان في تفسير القرآن، الشيخ الطبرسي 3 : 361 ، في أسباب نزول آية إنّما وليّكم الله ورسوله والذين آمنوا الذين يقيمون الصلاة ويؤتون الزكاة وهم راكعون سورة المائدة، الآية 55 .

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق