الأربعاء، 24 أبريل 2013

@ الأخلاق المحاضرة رقم 5



لسماحة الأستاذ الشيخ محمد كاظم الخاقاني

تقدّم على أنّ من أهمّ ما حذّر اللَّه سبحانه وتعالى منه هو الكبر، وجعل الصلاة التي هي عمود الدين وسيلة لإذهاب الكبر، وكلّ هذا ينبى‏ء عن أنّ مسألة الكبر ليست من الأمور التي يتمكّن الإنسان أن يتخلّص منها بسهولة.
لكن قبل التكلّم عن مسألة الكبر لابد من الإجابة على سؤال أحد الإخوة، وهو: أنه كيف يمكن أن نجمع بين العروج إلى اللَّه بعروج متواصل لا يقف عند حدّ، لا يحدّد بعالم الدنيا وأعمالها، ولا يحدّد بعالم البرزخ، ولا يتوقّف عند الجنان، بل سيكون متواصلاً بلا نهاية الحق تعالى؛ لأنّ الغاية والمطلوب هو اللَّه، وإذا كان المطلوب هو الحق، وكان الفيض منه لا يتوقف عند حدّ، والفقر لا يمكن التخلّص منه في عالم الإمكان؛ لأن عالم الإمكان عين الفقر والحاجة، والحق عين التمام والكمال، فلا العطاء يتوقّف على حدٍّ، ولا السؤال والطلب ولا الفقر يصل إلى مرحلة فينتهي؛ لأنه ذاتي لا يمكن أن يتغيّر ويتبدّل، فإذا كانت هذه المقاييس كما تقدّم في البحوث السابقة فيسأل السائل: ما هي الأعمال التي يمكن أن تفترض في عالم البرزخ حتى تكون وسيلة للعروج إلى اللَّه تعالى؟ وما هي الأعمال التي يمكن أن تفترض في الجنان حتى يقوم بها الإنسان، والحال أنّ الأدلة الموجودة في الكتاب المجيد وفي السنّة كثيرة، ولعلّها تدلّ على أنّ العمل مختصّ بعالم الدنيا، ولا عمل بعد هذه الدار، وكل ما يحصل عليه الإنسان في دار الدنيا يحصده في الآخرة، والأدلة كافية في مثل هذه الأمور، من الآيات والروايات، فكيف يفترض العروج اللامتناهي إلى الحق سبحانه؟
نقول في مقام الجواب:
تارة نستدل على العروج المتواصل بالعقل، وأخرى نستدل على العروج المتواصل بالعرفان، وثالثة نستدل عليه من طريق السنّة، وإن كان العقل الحقيقي هو الكتاب والسنّة، ومن ادّعى عقلاً أو عرفاناً لا يكون في سبيل المنهج الإسلامي فهو وهمٌ وخيال.
فنقول أولاً من طريق العرفان: العرفاء في منازلهم وسلوكهم إلى اللَّه اختاروا طريقة التزكية، وبعد التزكية قالوا: تصل النفس بطهارتها أن تشاهد الحقائق، وفرق واسع وعظيم بين المشاهد الذي يرى الحقيقة بلا واسطة، وبين المستدل عليها بالعقل.
فالذي يتوصّل إلى الحقائق من خلال الدليل والبرهان، فقد يكون الدليل والبرهان حجاباً بينه وبين مشاهدة الحقائق، كمستدل يستدل على وجود زيد في البلد، ومشاهد يشاهد زيداً ويجلس إلى جنبه، ففرق بين المعرفتين.
فمن بعد ما يصبح الإنسان مشاهداً للحقائق يرى الحقائق في مواطنها، ويشاهد ملكوت السماوات والأرض، فترتفع كلّ المظاهر ليشاهد الملك الإلهي، وليشاهد القيومية الإلهية، فهؤلاء هم الأولياء، وهم المقرّبون الذين ليس لهم في يوم القيامة فزع، ولا يشملهم ما يشمل باقي الناس من الخوف والفزع؛ لأنهم وجدوا اللَّه بكلّ أسمائه وصفاته، فعاشوا اعتدالاً، ولما عاشوا الاعتدال في مشاهدة الصفات الإلهية شاهدوا الملكوت، شاهدوا الملك، فلمّا شاهدوا الملك وجدوا القيّومية، ومن وجد القيّومية لمس ربط عالم الإمكان وفنائه وارتباطه بالحق، فهؤلاء وصلوا إلى مرحلة استقلالية الحق تعالى، وإلى لمس كون عالم الإمكان معنىً حرفياً مرتبطاً بالحق، لا استقلالية لـه، فشاهدوا الأسماء والصفات، فوجدوا الملك، والأحد، ووجدوا كلّ الحقائق في هذه الدار، فلا يشملهم ما يشمل الآخرين يوم القيامة، فمن رأى اللَّه تعالى بهذه الحقيقة ولمس الفقر لمساً ذاتياً فرّ فراراً من الظلمات، وجاء إلى التلبّس والكون بأخلاق اللَّه لكي يكون قرآناً بقدر، وأسماء اللَّه لمّا كانت عين ذاته فلا تحدّ بحدّ، ولا تقيّد بقيد، فلابدّ وأن يكون التخلّق بأخلاق اللَّه مستمراً طبقاً لمنهج العرفان، فكلّ واحدٍ يطلب الحقيقة على قدر سعته النفسانية، ويقيناً من طلبها بقدر أوسع من الآخرين كان عروجه إلى اللَّه أسرع؛ للبُعد عن الحجب، وللحركة بغير أثقال وحجب ظلمانية، فيكون السير للتلبّس بالأسماء والصفات الإلهية التي هي كلّ يوم في شأن، فلابدّ وأن يكون مستمرّاً لا وقفة فيه.
فبناءً على مسلك العرفان لا نواجه مشكلة في دعوى العروج الأبدي المتواصل الذي لا وقفة فيه إلى الحق تعالى.
أمّا البحث الحكمي: فالطريق الحكمي في العروج ليس بمشاهدة الأسماء والصفات والمحاولة للتخلّق والتلبّس بهذه الحقيقة، بل إنّما هو للاستدلال على كون واجب الوجود بالذات واجب الوجود من جميع الجهات، وإذا كان واجباً من جميع الجهات، ولا متناهياً من جميع الجهات، فلا يعقل أن يكون عطاؤه وفيضه يتوقّف على ما حدّ، أو يعقل أن يكون في دار الدنيا فقط؛ لأنّ دار الدنيا دار امتحان واختبار، لكي تحلّ النفوس في مواطنها، فإذا حلّت النفوس في مواطنها سارت إلى اللَّه تعالى من مرحلة إلى مرحلة، في مقابل لا نهاية الوجود، ففقر في مقابله دوامٌ للفيض، ودوام الفيض بحكم العقل لا يتوقّف على مرحلة من المراحل؛ لأنه شأن ربوبي، شأن الجواد المطلق، فليست هناك من جنان متكرّرة وباقية، بل هي متغيّرة تابعة للفيض الإلهي، تتبدّل بالناس من مرحلة إلى مرحلة؛ لأنّ اللَّه ليس متناهياً، وإذا كان مستمرّاً فلا معنى لتحديد قاعدة عقلية في مرتبة دنيوية، في مقابل مرتبة برزخية، أو في يوم القيامة، أضف إلى ذلك ما يمكن أن نستدلّ به من الكتاب والسنّة على العروج المتواصل.
فمن أبده البديهيّات: أنّ الرسول حينما عرج وكشف اللَّه لـه سبعين ألف حجاب من النور، ما كانت هذه الحجب التي كشفت لسيد الكائنات محمّد (ص) بإزاء عمل قام به في تلك المراحل، وإنّما هي فيوضات وعطاء إلهي بما يناسب شأن سعة الوجود النبوي، وقد دلّت الأدلّة على أنّ العروج والمعراج ما كان واحداً، بل تكرّر مرّات كثيرة، فما كان كشف هذه الحجب والعروج في مقابل عملٍ خاصٍ قام به الرسول (ص) ، كما وأنّ التكلّم في المهد والعلوم اللامتناهية الكثيرة ــ طبقاً للمدد الإلهي على
أوليائه ــ ما كان بإزاء أعمال قاموا بها، بل هذه النفوس العظيمة تستمر عليها الفيوضات الإلهية، وتكشف لها الحجب النورية؛ لعظمها مرحلة بعد مرحلة، فلم يكن المعراج بإزاء صبرٍ أو ثبات قام به الرسول (ص) ، بل قد ادّعى الفلاسفة والعرفاء ــ ولعلّ الآيات والروايات ــ كونهم ‏
أنواراً بعرش
اللَّه محدقين، وأنه تعالى خلقهم قبل أن يخلق آدم (ع) ، كما يقول
الرسول (ص) : ( كنتُ نبياً وآدم بين الماء والطين) ([1]
[1]).
فهذه الحقائق لعظماء الخلق مرتبطة بالقضاء والقدر الإلهي، ومسألة القضاء والقدر لا نتمكّن أن ندخل فيها؛ لأنها بحرٌ عميق فلا تلجوه، كما قال الإمام علي (ع)‏ ([2][2]) .
فالعروج كان للأنبياء، ولسيد الكائنات، ولعظماء الخلق، ولأهل
البيت‏
، بناءً على الوساطة التكوينية قبل عالمنا هذا، فما كان مقيّداً بخصائص عملية، ولهذا السبب استشهد الحسين (ع) في كربلاء.
لكن لا يتمكّن القائل أن يقول: إنّ الشهداء في ساحة كربلاء في مرتبة واحدة، وسوف يثاب الحسين كما يثاب باقي الشهداء.
لأننا نقول في مقام الجواب: إنّ العمل لعلّه كان واحداً، لكن خلوص النية تمحّض العمل للَّه، وفي اللَّه، وفي جنب اللَّه، وبصيرة علمٍ تخرق الحجب إلى مراحل الملكوت، وإلى مراحل لقاء اللَّه، فتجعل الإنسان مشتاقاً إلى لقاء ربّه.
فإنسانٌ يحاول أن يقرأ سيرة الأبرار والمتقين حتى يثبت في موقف معين، وقد تزلّ قدماه ويتردد ويتقدّم ويتأخّر، وإنسان آخر يأتي مشتاقاً إلى لقاء ربّه، فلا نستطيع أن نجعل المقاييس هي الأعمال، وإن كانت الأعمال من جملة المقاييس، لكنّ العظماء ببعد بصيرتهم وعرفانهم ــ الذي لا نتمكّن أن نشير إليه إلاّ إشارة، ولا نتمكّن من معرفته بتمام معنى الكلمة ــ يعيشون شوقاً وخلوصاً وقرباً حقيقياً إلى اللَّه تعالى في جميع أعمالهم وأفعالهم.
فهذه ضربة علي يوم الخندق تعادل عمل الثقلين([3][3]) ، فكم من ضارب ضرب، وكم من متقدّم تقدّم، وكم من شهيد على طول التاريخ عمل ما عمل، فلم لا تكون ضرباتهم تعادل عمل الثقلين؟
وثانياً نقول: إنّ الحق تعالى في كتابه المجيد يشير إلى أنّ آدم (ع) علّم الملائكة الأسماء جميعاً، فلمّا سجدوا بيّن لهم أنّ من خضع وأطاع ولم يتكبّر ولم يتجبّر ولم يكن محجوباً تمكّن من الوصول إلى اللَّه بواسطة
آدم (ع) ، وإلاّ فلا سبيل إلى اللَّه بلا توسّط الإنسان الكامل، فعرج الملائكة ليعرفوا الأسماء والصفات الإلهية، ليعرفوا حقائق الأمور، فقال تعالى:
وعلّم آدم الأسماء كلّها ([4][4])، والاسم هو مرتبة الحقائق، وهو حدّ الشي‏ء، ليتمكّنوا من الوصول إلى حدود الفيوضات الإلهية بأسبابها وعللها، حتى يستطيعوا أن يعرفوا حقائق الأمور فوق مرتبة عالم الأسباب بمشاهدة اللقاء والفناء في ذات اللَّه؛ ليأخذوا ما هو من شأن العلم اللّدنّي، فأخذوه بواسطة آدم (ع)، فهذا عروج إلى اللَّه تعالى.
ولعلّنا نستدل على العروج المتواصل ــ مع قصور عقولنا، ومحجوبية نفوسنا، وظلماتنا التي أثقلتنا وجعلتنا نخلد إلى الأرض غير قادرين على التخلّص منها ــ بما ورد من الروايات على أنّ الجنان على نحوين: جنان تابعة، وجنان متبوعة، فإذا كنّا أهلاً للجنان سندخل الجنان، ثم يبدّلها اللَّه مرحلة بعد مرحلة على قدر أنفسنا بواقع العلم بعد صيرورة البصر حديداً، وهذا شأن أغلبية الناس.
وهناك أولياء مقرّبون على اختلاف مراتبهم، تكون الجنان تابعة لمدركاتهم، تابعة لارتباطهم بالحق، فالجنان تتبدّل على طبق مدركاتهم، وعلى طبق ما عليهم من بُعد البصيرة، فهذه الجنان خاضعة لإرادتهم، فهي تابعة لعظيم إدراكهم، فالجنان محلّ لعروجهم المتواصل، فهي تابعة لهم لكي تكون أداة ووسيلة تنتقل بهم من معراج إلى معراج.
فالجنان على نحوين: جنان يدخلها الإنسان فيكون تابعاً لها، واللَّه بعطائه وجوده قد ينقله من مرحلة إلى مرحلة؛ لأنّ كلّ مرحلة ستكون مؤهّلة لمرحلة أخرى، وهذه جنان العامة.
لكن جنان المقرّبين، وجنان أولياء اللَّه، هي جنان وأداة تابعة لمدركاتهم، تابعة لسعة وجودهم ومسايرتهم للأيام الربوبية، فتتبدّل وتتغيّر طبقاً لإدراكاتهم، وللَّه تعالى مزيدٌ في كلّ شي‏ء.
فهذه الأجوبة التي كانت تختصّ بالعروج إلى اللَّه تعالى.
والحمد للَّه ربّ العالمين.


[1][1] ــ مناقب آل أبي طالب، ابن شهرآشوب 1 : 183 .
[2][2]ــ أنظر: نهج البلاغة، شرح محمد عبده 4 : 69 ، الكلمات القصار رقم 287 .
[3][3]ــ كما ورد في الحديث عن النبي ، قولـه: ( لضربة علي لعمرو يوم الخندق تعدل عبادة الثقلين) . (عوالي اللآلي، ابن أبي جمهور الأحسائي 4 : 86 ، ح 102).
[4][4] ــ سورة البقرة، الآية 31 .

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق