المحاضرة 12
ألقيت
هذه المحاضرة في الكويت قبل سنوات
قال علماء التربية
للسير والسلوك نحو الله تعالى: على الإنسان في المرتبة الثانية ــ بعد اليقظة التي
تكلمنا عنها في المحاضرات السابقة ــ أن ينظر إلى أسمائه تعالى التي تسمّى بها،
كالمنتقم والمهيمن والرحمن والرحيم، ويجب أن تقرّ نفسه تصديقاً إقرارياً بالوعيد
الإلهي، أي: تذعن النفس، وتقرّ إقراراً تامّاً: بأنّ هناك يوماً يقف فيه الإنسان
يحاسب على كلّ صغيرة وكبيرة، أما بعد الحساب وما يستحقه الإنسان بحسب عمله، فإذا
كان هناك من عفوٍ فهو شأن الله تعالى، ولذا علينا دائماً أن ندعو من الله تعالى أن
يعاملنا بعفوه ولطفه لا بعدلـه.
ثم يقول أهل التربية:
فعليك أن تجالس الصالحين _لأنّ مجالسة غير
الصالحين قد تأخذ به شيئاً بعد شيء إلى أمور غير صحيحة_، حتى يتردّى
رداء الصالحين، ويتعرّف على الهدى والصراط المستقيم بواسطتهم، فكم من إنسانٍ
فطري صالح في ذاته يخرج من زيّ المتيقن إلى الانحرافات نتيجة الصداقات المنحرفة
التي سهّلت لـه الأمور.
( وبالتوبة يتخلّص
الإنسان من النفس الأمّارة بالسوء) : فالنفوس ــ كما تعلمون، والقرآن المجيد يشير إلى
ذلك ــ تارة تكون أمّارة بالسوء، وأخرى لوّامة، وثالثة تصل النفس إلى مرحلة
الاطمئنان، كما ورد في الكتاب المجيد مخاطبة النفس بذلك، بقولـه: { يا أيتها النفس
المطمئنة} ([1][1]) ، والاطمئنان لـه
مراتب، وأعلاه النفس القدسية.
ويمكن أن تكون النفس
لوّامة، لكن في بعض الأحيان تأمر بالسوء، فلا يتصوّر متصوّر أنّ هذه النفوس لا
يطرو بعضها على بعض، فإذا قيل: إنّ النفس أمّارة بالسوء، يعني: في غالب الموارد
تأمر بالسوء، وقد تكون نادمة لوّامة، وإذا قيل: إنّ النفس لوّامة، أي: تندم على
فعلها للخطأ، وتحاسب الإنسان.
نعم، قد ترتكب الذنوب
لكن القضاء الداخلي يجعلك تعيش الصراع الداخلي، فما دام الإنسان يعيش صراعاً
داخلياً يرجى خيره، لكن إذا انتهى الصراع الداخلي صارت النفس لا تندفع إلاّ إلى
الجرائم، فتصبح النفس في ظلمة تامة، وقد ينتهي صراع الحق والباطل فينتهي الصراع
الداخلي لمجرّد الخير، يعني: لا تأمره نفسه بسوء أبداً، فتصبح النفس نوراً كاملاً،
ولا تقوى النفس إلاّ بالعمل، ولذا فإنّ القرآن المجيد دائماً يأمر بالإيمان والعمل
الصالح؛ لأنّ العمل الصالح يكون مدرّباً عملياً للنفس حتى تصبح النفس معتادة،
وصاحبة ملكة للأمور الطيبة، وبعد فترة من الزمن يصبح الخير كأنّه عمل لـه، ولذا
يقول العلماء: أوّلاً يكون الخير حالة، ثم تترقّى النفس شيئاً بعد شيء حتى يصبح
العمل الطيب ملكةً للنفس.
فإذن: بالعمل يصبح
الإيمان ملكة.
وأما النفس الأمّارة
بالسوء فقد تصل حالة الإنسان إلى مرحلة إذا سهّل على نفسه الأخطاء فإنّ النفس لا
تأمره إلاّ بالسوء، ويصبح الإنسان لا يلتذّ إلاّ بالجريمة، فالنفس اللوامة تفعل
الأخطاء لكنها تندم وتحاول الرجوع عن أخطائها، لكنّ النفس الأمّارة بالسوء إذا قوت
في آمريتها بالسوء تصل إلى مرحلة يصبح السوء لذّة لها.
وأما النفس المطمئنة
فهي نفوس المتقين والمقرّبين والصالحين، وهي على
مراتب.
وبالتوبة يتخلّص
الإنسان من النفس الأمّارة بالسوء حتى تصل نفسه إلى مرتبة أقوى، وهي النفس
اللوّامة، ثم يقع الصراع والنزاع بين الخير والشر في النفس حتى تقوى النفس شيئاً
بعد شيء، وتقطع مراتب النفس اللوامة فتصل إلى مراتب النفس المطمئنة.
فنحن نقرأ الكتاب
المجيد كلّ يوم في صلاتنا، ونقرأ قوله تعالى:
{ غير المغضوب عليهم ولا الضالين} ([2][2]) ، فالمغضوب عليهم هم الذين لسوء بواطنهم عرفوا الحق فانحرفوا عنه بعمدٍ ولجاجة وخبثٍ باطني، كما ورد عن أبي جهل حينما سأله السائل: ما تقول في محمّد؟ قال: واللات والعزّى إنّه لنبي حق، لكن كيف تخضع صناديد قريش إلى يتيم أبي طالب؟ هذه هي الخباثة التامة، فالخبث الباطني وصل به إلى مرحلة صارت النفس أمّارة بالسوء، يعني: ظلمانية مطلقة.
{ غير المغضوب عليهم ولا الضالين} ([2][2]) ، فالمغضوب عليهم هم الذين لسوء بواطنهم عرفوا الحق فانحرفوا عنه بعمدٍ ولجاجة وخبثٍ باطني، كما ورد عن أبي جهل حينما سأله السائل: ما تقول في محمّد؟ قال: واللات والعزّى إنّه لنبي حق، لكن كيف تخضع صناديد قريش إلى يتيم أبي طالب؟ هذه هي الخباثة التامة، فالخبث الباطني وصل به إلى مرحلة صارت النفس أمّارة بالسوء، يعني: ظلمانية مطلقة.
فالمغضوب عليهم هم
الذين يعرفون الحق لكن لخبث باطني ولجاج وغرور وكبرياء لا يتنزّلون إلى الحق، فيقابل الحق
ويعاند الحق مع عرفانه، ويظن نفسه من الشعب المختار، كما تقول اليهود في أنفسها،
وهذه ليست صفة مختصّة باليهود، بل كلّ من أُصيب بالكبر والغرور والعناد واللجاج
فهو من أبناء اليهود وشعبها، فاليهود مثال للخبث واللجاجة، والمثال لا يكون قيداً
يقيّد المجتمع البشري، بل هم أبرز مثال لهذه الصفات
ولا يراد من أي مثال إلا الاغلبية وإلا فرب إنسان من اليهود لا يكون متصفا بهذه
الاوصاف بل قد يكون ميّالا للخير.
{ ولا الضالين} يعني:
الذين أخطأوا الحق، وهم الأغلبية من النصارى، فهم لم
يقصدوا الحقد والعداء للحق وللإسلام والمسلمين، لكنّهم سلكوا طرقاً أدّت بهم إلى
الجهل.
وكأنّ قائلاً يقول:
الضلالة إبتعاد عن مسيرة الهدى، وإبتعاد عن النور الإلهي،
فالإنسان المؤمن لا يوصف بالضلالة فضلاً عن سيّد الكائنات
محمّد (ص) ، فكيف القرآن يقول: { ووجدك ضالاًّ فهدى} ([3][3]) ، فكيف تكون ضلالة بالنسبة إلى سيّد الكائنات؟
محمّد (ص) ، فكيف القرآن يقول: { ووجدك ضالاًّ فهدى} ([3][3]) ، فكيف تكون ضلالة بالنسبة إلى سيّد الكائنات؟
والجواب: هناك تفاسير
عديدة في هذا الشأن، فمنهم من قال: إنّه أخطأ الطريق في طفولته، وهداه الله ولو
بسبب وبواسطة رجع إلى أهله.
وهناك كلمات كثيرة أخرى
تقال بالنسبة إلى الضلالة المنسوبة إلى الرسول الكريم (ص) ، لكن لم تكن النفس
مطمئنة بها.
والذي أتصوّره في تفسير
هذه الآية: أنّ ضلالة كلّ إنسان تختلف بما يناسبه، فلو وجدت عالماً مهمّاً عظيماً
يرتكب أمراً عادياً قد تلومه عليه وتقول: إنّ هذا الأمر لا يناسب تلك الشخصية
العظيمة، وقد تصدر مئات الأخطاء من زيد أنت لا تتعجب منها؛ لجهله، وعدم عرفانه،
ولمستواه العقلي.
فمثلاً : الطفل الصغير
في السنة الأولى إذا تكلّم بكلمة واحدة سليمة فإنّ الكلّ يشجّعه عليها، لكن هذه
الكلمة لو تكلّمها الطفل وهو في الرابعة من عمره لا يشجّعه أحد عليها، ولو تكلّمها
وهو ابن الخامسة عشرة لا يمدحه أحد، بل لكانت منقصة في حقّه، وهذا الشاب ابن
الخامسة عشرة لو صلّى بصلاةٍ جيدة، وشارك في مآتم الحسين (ع) لمدحه الناس، لكنّ
هذه الأفعال لو صدرت منه وهو ابن الأربعين أو الخمسين كانت أمراً عادياً لا يمتدح عليه، بل الناس
تتوقّع منه الأكثر والأكثر.
فإذن: المدح والذم يكون
بالنسبة إلى كلّ شخصية بما يناسبها، ولذا قالوا: إنّ الأنبياء لو تركوا الأوْلى
لتوجّه اللوم عليهم، ولكان ذنباً في حقّهم، كما ورد في تفسير الآيات بالنسبة إلى
آدم (ع) : أنّه ما عصى الله تعالى بذلك المعنى الذي نتصوّره، وإنّما ترك الأوْلى،
لكن لمقامه الرفيع كان ملاماً، ونزل من الجنة إلى الأرض، واعتبر عصياناً منه (ع) ؛
لجلالة مقامه، فكيف لو جئنا إلى الرسول الأعظم (ص) ، إلى إنسان توقّفت عند مقامه
الملائكة، وكان دونه كل نبي وكل وصي وكل ملك مقرّب، بل كان دونه عالم الإمكان
طرّا كما تشير الى ذلك الآية في ليلة المعراج. فإذن: ضلالته بما تناسبه،
والمراد من ضلالته ليست تخلّياً عن القيام بتكليف، ولا ضعفاً في جانب من الجوانب، كتطبيق
القانون مثلاً، بل ولا كان ضعفاً في قبول الوحي الإلهي وبثّه على المجتمعات
البشرية بما يناسب كل فرد من أفراد المجتمع.
كلاّ، الرسول (ص) فوق
هذه المستويات، بل تلك المرتبة التي وصل إليها الرسول (ص) في ليلة المعراج ــ التي
أوحى الله إليه ما أوحى ــ وإن دونها بالنسبة إليه (ص)
تكون ضلالة.
فالرسول عين القيم
والفطرة والعقل، وهو الذي عكس الأنوار الإلهية.
فأنا أرتكب الأخطاء تلو
الأخطاء، ولا تعتبر ضلالة بالنسبة إليّ؛ لقصور ذاتي، لكن الرسول (ص) دون مرتبة
المعراج بالنسبة إليه كان ضلالة، فتلك المرتبة التي كان فيها { فكان قاب قوسين أو
أدنى} ([4][4]) أي: وصل إلى مرحلة
محض التعلّق والفناء بذات الله تعالى،وهو
المعبر عنه بلمس الفقر والكينونة الحرفية بأزاء واقع الإسمية بلسان العرفاء, وهو المراد من {
فتدلّى} أي: قطع مسافات العبودية والربوبية، فكان عين الفناء في ذات الله تعالى،
في تلك المرتبة { فأوحى إلى عبده ما أوحى} ([5][5]) ، وهذه مرتبة الوصول
إليها بالنسبةالى كل كائن سوى معجزة عالم
الإمكان محمد (ص) كفرض ما بين السماء والأرض، ولا ندري ماذا أوحى الله تعالى إليه، ولو
أراد أن يبيّن لنا ما أوحى إليه الله تعالى لازددنا خطأ فوق أخطائنا؛ لأنّ صبّ
الفيض على عقول قاصرة لا يكون إلاّ إضراراً.
فلو جئت بكتب ابن سينا
وأردت أن تدرّس ابنك الصغير لكنت مضرّاً بحاله، لا نافعاً له.
فإذن { فأوحى إلى عبده
ما أوحى} ([6][6]) ذلك الفيض العظيم كان
بياناً على البشرية على كلٍّ بقدره، وكان بياناً لعلي (ع) وهو عين الرسول (ص)
ونفسه، وأما بقية الأمة فلا تتمكن ولا تكون ظرفاً لتلك المعاني.
فضلالة الرسول (ص)
ضلالة تناسب مستواه، وتناسب من كان عين الكمال في عالم الإمكان، فهي تناسب مَن
كشفت لـه الحجب النورانية، وتناسب مكانته الرفيعة، وهي كونه معجزة عالم الإمكان،
فضلالته كونه دون ليلة المعراج.
والحمد لله ربّ العالمين.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق