الأربعاء، 24 أبريل 2013

@ الأخلاق المحاضرة رقم 11



لسماحة الأستاذ الشيخ محمد كاظم الخاقاني

كيف يمكن أن نكون دعاة الخير والصلاح ونحن نعايش أمة تمزقت، وأخذها الذلّ من كل جوانبها، فأصبحت لا تفكر إلاّ في معيشتها وحياتها، تطلب اللجوء من أعدائها، وكيف يمكن أن ندّعي ما ندّعي ونحن قد وصلت بنا الحالة إلى هذه المراحل من التمزّق والذل؟ فممدنا اليد لأعدائنا؛ لنكون لاجئين عندهم، فأين من يدّعون ولاة المسلمين؟ فلماذا لم يحتضنوا هذه الأمة؟ وأين دعاة القومية؟ هلاّ بان زيفهما لكل عاقل رشيد! هل هذه الأمور بواسطة هجمة المستعمرين، أم الأمر ليس كذلك؟ لولا وجود أرضية خصبة لكل معتد لما كنّا محلاًّ لعدوان المعتدين، فلابد وأن يكون المحلّ مناسباً حتى يفكر العدو كيف ينهب كل شي‏ء، ينهب التراث والمال والقيم، ويغزونا غزواً بكل جوانب حياتنا.
فعلينا أن نفكّر ــ أوّلاً وبالذات ــ أن نكون واقعيين، فإنه ما تدافع علينا الأعداء واشتركوا في نهب كل تراثنا لولا وجود أرضية مناسبة، عمّت العامة والخاصّة، عمّت كل موازيننا وشؤوننا، حتى نفذت في مثل حوزاتنا، وهذه كلها حقائق قلناها، أو لم نقلها، حتى أصبحت دويلة لا قيمة لها، تمزق كل كياننا، وتضحك وتسخر من كل واقعنا.
إنّ الإنسان المؤمن شاكّ من نفسه، ليس معناه شاكّاً في نفسه فقط في تصرّفه وسلوكه ومعنويّته، بل هو شاكّ من نفسه في تحقيقه للمنهج في كل جوانب الحياة، فهو قد اُمر أن يطهّر النفس بزكاة ومعنوية، وأمر أن يشكّل نظاماً اقتصادياً قوياً يبعد المعتدين، وأمر أن يعيش إخاءً ومودّة، فما الدين إلاّ المحبة، فما الدين إلاّ المحبة بينك وبين اللَّه، وبينك وبين الناس، هل نحن نعيش المحبة والإخاء فيما بيننا فضلاً عن بقية المذاهب؟ هل نحمل قلباً يعيش المودّة للإنسانية فضلاً عن أبناء نحلتنا ومذهبنا ومسلكنا، أو أننا مزّقتنا العناوين؟ فهذا عراقي وهذا إيراني، بل تجاوزنا في التمزّق حتى صار هذا من المنطقة الفلانية لوطن واحد يفتخر على أبناء وطنه؛ لأنهم من منطقة أخرى، بل تجاوزنا هذا حتى صارت الشوارع سبباً لتمزيق صفوفنا فضلاً عن كون فلان من القبيلة الفلانية، فهذا يفتخر على أخيه المسلم؛ لأنه يعيش في نفس البلد في منطقة خاصة، يرى نفسه مثقّفاً، ويرى الذين يعيشون في الشارع الثاني جهّالاً وعوّاماً.
فيجب علينا أن نلحظ أنفسنا، ولا نحمّل الأجنبي كل أبعاد المأساة واللائمة، فنحن الذين لا يرحم بعضنا بعضاً، كيف نأمل رحمة ولطفاً من عدوٍّ شرس لا يفكّر إلاّ في سحق موازيننا؟ كيف نعتب وكيف نتكلّم على غرب وشرق؟ وكيف نعتب على باقي الفرق الإسلامية؟ فإنّ العتاب يأتي من بعد ما نكون يداً واحدة، نسير واقع الحياة على منهج الصراط المستقيم، طبقاً لما أمر اللَّه سبحانه وتعالى، لنعيش أخوّة حقيقية لا صورية، فلو كنّا على عددنا الموجود نعيش هذه الواقعية لتوقّفت كل يدٍ أثيمة عن التجاوز علينا.
فإذن: إن كنّا واقعيين فعلينا أن نصلح القاعدة أوّلاً، ثم نفكر في نشر الدعوة خارجاً، فهذا رسول اللَّه (ص) جاء يركّز الدعوة في مكة والمدينة، ثم بعد وفاته (ص) أخذوا يغزون الديار والبلاد وهم يدّعون ردّة بعد وفاة رسول اللَّه (ص) ، ردّة وتمزّقاً في صفوف المسلمين أنفسهم، فكيف قوي المسلمون وادّعوا ما ادّعوا، وفتحوا فارس والكثير من المناطق العربية، وأخذوا الكثير من المناطق العالمية، هل كان رسول اللَّه (ص) أداة منع للسيطرة والهيمنة للإسلام والمسلمين، وهو القائد الأعظم وسيد الكائنات؟
إنّ رسول اللَّه (ص) أرادها حقيقة إسلامية بكل أبعادها، تتحقّق في مكّة والمدينة، فإذا تحقّقت المدينة الفاضلة الحقيقية بأبعاد الرسالة في مكّة والمدينة أصبح المسلم أسوة لكل المجتمعات البشرية، تتدفّق إليه الناس، وتشاهد ما تشاهد عند المسلم من الحقائق، فتصبح قاعدة تهزّ كيان العالم هزّاً علمياً، فما كان بعد وفاة الرسول انتصاراً وعزّاً، بل كان انتصاراً للسيف، وسحقاً لرقاب المجتمع.
وهذا علي (ع) جاء ليركّز القاعدة الإسلامية في البلاد الإسلامية، فما سمعناه يوماً دعى إلى فتح بلاد من البلدان العالمية.
فعلينا أن نكون واقعيين، فإذا عشنا واقع التقوى؛ باتّهامنا لأنفسنا، وجدنا نقاط الضعف والتمزّق، وشاهدنا سبل الكمال، فالشريعة ليست تهذيباً نفسانياً فقط حتى نقول: لا نعتني بما جرى وما يجري من تمزيق صفوف المسلمين، والحال أنّه ( من أصبح لا يهتم بأمور المسلمين فليس بمسلم) ([1][1]) .
فإذن: علينا أن نكون واقعيين، وأن نبدأ بأنفسنا، فبعد تطهير النفس من صفتين رذيلتين هما الكبر الإبليسي؛ لأن الكبر تتلوه الكثير من الرذائل؛ فبالكِبر يتحقّق الحسد أيضاً، وبالكبر يحصل الاستبداد، فالمتكبّر يكون مستبدّاً، لا يرى قيمة لأحد، وبالكبر يكون الإغراء بالجهل للآخرين، وبالكبر يكون اللجاج، فإذا تمكنّا أن نطهّر النفس من اللجاج والحقد الإسرائيلي، ومن الكبر الإبليسي، لعلنا نتمكّن بعد هذه المرحلة أن نأتي ونحاسب أنفسنا: هل أن هجمة المستعمرين هي التي أدّت بنا إلى ما نحن فيه؟ لأن طبيعة الإنسان غير واقعي دائماً، حيث إنّه يوجّه النقد إلى الآخرين.
لنبدأ من البيت، كمثال لإلقاء اللائمة على الآخرين، فلو فرضنا أن سارقاً دخل وسرق شيئاً من البيت، فأول ما يبدأ الرجل هو أن يوجّه اللوم إلى زوجته، فيقول: لعلّكِ لعدم الاحتياط في سد الأبواب جرى هذا، وتبدأ المرأة بإلقاء اللوم على زوجها، وكل واحد يحاول أن يبرّىء نفسه من كل خطأ يقع في البيت، فلا الزوج يعطي من نفسه الإنصاف، ولا الزوجة كذلك، وقد يلقيان باللائمة على الأبناء.
وهكذا نتوسّع في كل أمورنا، فالمجتمع يلقي اللوم على الحكومة، والحكومة تلقي باللائمة على عاتق المجتمع، وهكذا كل واحد منّا في قرارة نفسه يقول: إن ما يحصل لا ربط لـه به، وإنه ليس جزء علة من هذه المأساة في واقع حياة المسلمين، وإنما هي جهات أخرى سبّبت كل هذا، وهذا هو الكبر، فقد نعيش الكبر ولا نظنّ أنّ أنفسنا من أتباع الشياطين.
والكبر ما كان قصّة تنقل في كتاب اللَّه المجيد، بل الكبر تحذير وإنذار لنا، لكي نعيش واقع البعد عن روح الكبر، فعلينا أن نجرّب أنفسنا: هل نتسارع لإلقاء اللوم على الآخرين؟ فعلينا بعد ألف وأربعمائة سنة أن نرجع مرّة ثانية لننظر ما هي الأسباب التي دعت وسبّبت الانحطاط؟ ويقيناً أنّ مِن جملة الأسباب التي لا يتردّد فيها متردّد هي الطامّة الكبرى التي أدّت إلى كل الانحراف؛ حيث سحقت قيم النصوص والشورى فيها أيضاً، ودعي فيها إلى روح الاستبداد وقيم القبلية، لكن ليس معناه أن نقف مكتوفي الأيدي، ننظر إلى ما جرى بعد وفاة الرسول (ص) ونقول: لولا السقيفة، ولولا ما جرى في ذلك اليوم لكنّا اليوم شيعة ومسلمين حقّاً، فيجب علينا أن لا نسير بمسيرتهم، فهم ساروا بمتاهة جَنَوا ثمار أعمالهم، ونحن جئنا اليوم لنوجّه الأخطاء، تارة بجبر أشعري: بأنّ كل شي‏ء إنما يكون بمشيئة إلهية { وما تشاؤون إلاّ أن يشاء اللَّه ربّ العالمين} ([2][2])، فهذا قد ركّز ركيزة، ومهّد مقدّمة للانحراف من طريق فلسفي، وفتح الأبواب أمام الطواغيت والمجرمين والحكّام ليوجّهوا أعمالهم، وهذا فسّر الصبر بالذل والهوان؛ ليكون أداة لتنفيذ مآرب الطغاة والمجرمين، فذاك راح ليوجّه جريمة قام بها جماعة؛ بإبعاد أهل الحق من حقّهم، وهم الأئمة المعصومون الهادون المهديون.
أجل، لقد جاء ذاك ليقول بجبر أشعري، وآخر لعله فهم أو ما فهم المراد من الفلسفة فراح ليقول بجبر ماهوي، وثالث ألقى باللوم على عاتق المستعمرين، وقد وصلت بنا الحالة أحياناً عند نزاع عادي أن نقول: لولا وجود المستعمرين لما حصل هذا النزاع، فأيّ يد دخلت فيما بيننا في كثير من مسائلنا العلمية، وأيّ يد تفهم الكثير من أعماق شريعتنا لتتدخّل لتمزيقنا.
فربما رأيت رأياً ظننته وحياً منزلاً من اللَّه على رسوله، وعليَّ من بعد ذلك، فجزمت في ما هو محلّ للاجتهاد بأنّ ما توصّلت إليه هو شرع اللَّه الذي لا شكّ ولا ريب فيه، وسددت الأبواب أمام كل متفكّر ومتصوّر وعاقل، فإن تبعني كان من أهل الهدى، وإن ابتعد عني كان مخطئاً يجب عليَّ أن أتكلّم عليه وأهاجمه، فلمَ لا نكون متآخين في ما بين أنفسنا؟ فإن كانت هناك أمور فيجب أن تلحظ برشاد وسلامة قلب، وبمنهجية علمية، فإن سدّت الأبواب بكل موازينها فعلينا أن نحمل قلباً سليماً حتى يخرج الإنسان من منهج الرشاد تماماً، ويكون لا ربط لـه بشرع وشريعة، فنكون أيضاً يداً واحدة ضدّ كل من يريد النيل من الشريعة، أو قيم الإنسانية.
إخواني، لو اجتمعت الأمم طرّاً على الباطل، وكنّا متّقين، لنشرنا الدعوة إلى أقصى بقاع الأرض.
لقد جاءت الدعوة برجل، أو برجلين وامرأة، وإذا بها أخذت تهزّ أركان الطواغيت على وجه الأرض طرّاً، لقد كانت دعوة يحملها رجال ونساء عرفوا الشريعة، وعرفوا الارتباط الحقيقي باللَّه تعالى، فهزّوا العالم، فانتشرت الدعوة من بيت لتكون في بلاد، ثم في قطر، ثم لتكون في العالم، فلمَ نحن اليوم لا نتمكّن أن نهدي جاراً في جوارنا؟ ولمَ نحن اليوم: الشيعي شيعي، والسني سني، والنصراني نصراني، واليهودي يهودي، وهكذا، سالكين سبلاً وجدنا آباءنا عليها؟ فعلينا أن نكون شيعة بموازين التشيع، ثم نأمل من الآخرين أن يهتدوا بهدانا.
ربّ إنسان دخل في أمر اقتصادي بلا مشورة فأضرّ نفسه، وأضر الآخرين، وربّ إنسان دخل في مسألة علمية من دون أن يعرفها من أهلها فأضر نفسه، وأضرّ الآخرين.
إنّ الشيطان لا سلطان لـه علينا، كما وأنّ الاستعمار والمستعمرين والجناة لا سلطان لهم علينا لولا الأرضية الخصبة لتشجيعهم بالتدخّل والعدوان علينا، فالشيطان كذلك، لولا أنه وجد أرضية خصبة فبمجرّد أن يشير إلينا نلبي الدعوة، بلا أن يأتي بحباله المختلفة، فندخل في كل متاهة.
نحن لا ننكر حقيقة قال بها الكتاب المجيد، لكنه قال أيضاً: لا سلطان لـه علينا، فنعيش هذا الدمار مع أنا لو جئنا واتبعنا رسالة، وسرنا على مسلكيتها وطريقها لوصلنا إلى كل كمال، دنيا وآخرة، فالإنسان وجود ذو أبعاد متعددة ومختلفة لا يكون متكاملاً إلاّ بتكامل كل أبعاده المادية والمعنوية، فلو كنّا مسلمين حقّاً لكنا سادة في الدنيا وفي الآخرة.
والحمد للَّه ربّ العالمين.


[1][1] ــ الكافي، الشيخ الكليني 2 : 163 ، ح 1 .
[2][2] ــ سورة التكوير، الآية 29 .

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق