أسباب تمزق الأمة الإسلامية المحاضرة رقم 1
كتبت من محاضرة صوتية ألقاها الشيخ في
سورية قبل سنوات
تقدّم الكلام عن المخلصين الأخيار السابقين، وأنّ هناك بعض النوادر
من البشر جعلهم الله حجّة على خلقه يحتجّ بهم يوم القيامة، فجعلهم مظاهر الحق،
وأمر الناس باتّباعهم، وقد ورد في الروايات والخطب أنهم الأقلّون، فأولئك طهّرهم
الله تعالى من كل دنس ورجس، ليكونوا مثالاً لكلّ حق وحقيقة، ويرسموا بأقوالهم
وأفعالهم شريعة السّلام التي بدأها الله تعالى بآدم (ع) ، وختمها بسيد الكائنات
محمّد (ص) ، فتنافسهم هو تنافسهم في ميادين الحق والنور، يتسابقون في سبل النور،
وينتقلون من مرحلة إلى مرحلة.
وهكذا ــ كما تقدّم ــ
تكون مسالك الأبرار، ومسالك من جعلهم الله تعالى حججاً على خلقه، ولابد في مثل هذه
المحاضرات ــ إضافة على ما ينبغي التكلّم عنه من معالم الحضارة الإسلامية ــ لابدّ
من الالتفات أيضاً إلى أمرٍ وهو ما يشتكي منه ويتخوّف منه المجتمع الإسلامي قاطبة.
فهناك أمران لابدّ من
الالتفات إليهما، وهما: صحوة إسلامية، وهجمة غربية.
فنحن نعيش في زمن
تكالبت الأمم على أمة محمّد (ص) ، لا لقلّة في العدد، بل لتمزّق الأمة الإسلامية
نفسها، فبدلاً من أن نتكلّم ليلاً ونهاراً عن هجمة غربية صليبية علينا أن نكون
أكثر واقعية قبل التفكّر بهجمة الأعداء، وعلينا أن نتساءل: لِمَ صرنا مطمعاً لكل
طامع ومعتد؟ ولماذا فكّر فينا كلّ متجاوز وراح ليعتدي على تراثنا وحضارتنا
وإسلامنا؟
فهذه مسألة هامة يجب
الالتفات إليها حتى لا نخدع النفس بإلقاء اللائمة على الآخرين، فإنّ النفس دائماً
تحاول بشتى الطرق والمبررات أن تلقي اللائمة على الغير، فلو دخل سارق إلى دار
لحاول الرجل أن يلقي باللائمة على زوجته، ولحاولت الزوجة أن تلقي باللائمة على
الأبناء. هكذا نريد دائماً أن نتخلّص من المسؤولية لنعطي النفس سكينة وهمية لا
واقعية لها، وهكذا يعيش مجتمعنا اليوم.
فكلّ واحد يريد أن يلقي
باللائمة على غيره، فالعالم يلقي باللائمة على المجتمع، والمجتمع على العلماء،
وهذا يلقي باللائمة على الخطباء، وذاك يلقي باللائمة على النظام الحاكم، فكلّ واحد
منّا بشتّى الطرق يريد سكينة للنفس حتى لا يعيش الألم الباطني والتأنيب الوجداني
من أنه مسؤول بإزاء هذه الأمّة المتمزّقة المتشتتة.
فإن كنّا واقعيين ونريد
أن ننظر إلى أسباب الهجمة ودوافع الطامعين في هذه الأمة علينا أوّلاً ــ بدلاً من
النظر إلى هجمة الطامعين والمعتدين ــ أن ننظر إلى الأسباب التي دفعت المعتدين إلى
أن يروا الأمة الإسلامية فريسة، فراح ليشترك في هذه الفريسة جميع المتسلّطون على
هذا العالم، فهذه الأمة فريسة؛ لأنهم وجدوها أرضاً خصبة مستعدة لكل عدوان، فلولا
أنّ الأرض خصبة للعدوان لما فكّر المعتدون في تعدّيهم، ولو كانت الأسوار والأبواب
قوية لما دخل المعتدون من كل أطراف البلاد الإسلامية غير مبالين وغير مكترثين
بملايين العدد من المسلمين، وكانوا يهابون أمة قديمة حينما كانت متماسكة قوية هزّت
أركان الروم وفارس، واليوم على كثرة العدد نسمع في كل يوم وساعة عدواناً على
الإسلام والمسلمين، وكلّ واحد منّا يقول ويتكلّم على أنّ الهجمة الاستعمارية
الصهيونية كيف يمكن أن تُردّ؟ وماذا نصنع بمثل هذه الهجمة؟ وما سأل البعض: لماذا
أصبحنا موطناً لكل هجمة وعدوان؟
فأولاً وقبل كل شيء على
الغيارى من هذه الأمة أن يقبلوا واقع الأمر، ويقرّوا بنفوس قبلت الحقيقة، والواقع
أنّ السبب الرئيسي في المسألة كامنٌ في حضارة وعقلية المسلم.
فالمسلم الذي ورث
الكثير من تاريخ طويل استبدادي سحقت فيه القيم، فتجاوز الحكام مواطن الشورى، وراح
الاستبداد ليُميت العقلية للمسلم، وليصنع من المسلم إنساناً لا يحسّ بأي مسؤولية
تجاه حياته ومصيره، وراح الفرد مستبدّاً على طيلة التاريخ ليعيّن مصير أمّة، ولا
يجوز لأحد أن يتكلّم عن أي أمر، فبداية الانحراف كان بسحق الشورى وجعل الاستبداد
قائماً بين هذه الأمة، حتى راح الفرد منّا ليستبدّ بحضارة موروثة نشأ عليها في
بيته، فالأب مستبدّ بالبيت، فلا رأي لزوجة، ولا ولدٍ، ولا بنت، فإذا ربّى بيته
بهذه التربية فبمجرد أن يخرج من البيت تكون الأم مستبدّة في البيت، وإذا خرجوا
معاً صار الولد الأكبر مستبدّاً يفرض رأيه بلا مشورة ولا اعتناء بإخوته الصغار.
فهذه الحضارة أوقفت
العقول والتحرك من بعدما كان الدين الإسلامي حركة، ومشورة وتفاهماً، فأصبح
استبداداً في الرأي، فبدلاً من أن نفكّر كيف ندفع هجمة المعتدين علينا أن نفكّر
كيف نخلق أمة متميزة، وأي قدم يجب أن يرفعه المسلم الغيور على دينه ليوحّد بين
صفوف هذه الأمة التي أصبحت فريسة لا يعتني بها أيّ أحد على وجه الأرض.
فإن شاء الله تعالى
سنتكلّم بقدرٍ ما عن أسباب الانحراف، وعلينا أن نجد الأسباب في أنفسنا، فإذا قويت
القاعدة الإسلامية بمعارف المسلمين، وأصبح المسلمون يداً واحدة، يد حقٍ لا يد
جماعة باطلة تجتمع على كل خطأ ومنكر، فإذا صارت اليد يداً واحدة على الحق سوف تعيش
سؤدداً، وإلاّ لا يمكن بخطابة على المنابر أن تصلح أمر الأمة، وبالخطابات الحماسية
لا يمكن أن ندفع شباباً وأمة وجدت أمراً فاندفعت إليه بحضارة غربية ما لم نأت
بالبديل، ولابدّ من بديل، فحينما تدعو الشاب حتى لا يصرف حياته ووقته في أمور وردت
علينا من الغزاة لغزو الحضارة الإسلامية بكاملها، لا يمكن أن نتكلّم شعاراً، فلابد
من بديل في المقام، وبدون البديل لا يمكن أن نتوقّع رجوعاً إلى سنّة وكتاب الله
المجيد.
ومن جملة ما هدّ قوى
هذه الأمة إضافة إلى الاستبداد الذي أمات الأمة ومزّقها، وقد ورد في كثير من كتب
القدماء في القرن الثاني والثالث الهجري: أنّ الأمة في القرن الثاني أصبحت كقطيع
غنم.
فإذا كانت الأمة في القرن
الثاني أو الثالث الهجري التي كانت تغزو العالم وتفتحه، فما هي اليوم بعد تمزّقها
وضعفها وشتاتها؟
إنّ الإسلام دينٌ
متكامل مترابط، لا يمكن أن نؤمن ببعض الكتاب ونكفر ببعضه، فلا يمكن أن نجزّىء
الشريعة الإسلامية طبقاً للأذواق والآراء، فجئنا لنحجّم دائرة الشرع في أمور خاصة،
وتعمّقنا وتوغّلنا وكررنا وكررنا أموراً لا أقول إنها هيّنة، لكنها جزأت الشريعة،
فكتبنا في الطهارة والنجاسة، وكتبنا في الحيض والاستحاضة، وكتبنا في كثير من
العبادات، وتركنا الإسلام بخُلقه الرفيع، وتركنا الإسلام باقتصاده وعلم نفسه،
وتركنا الإسلام في ميادينه المختلفة، ثم صعدنا المنابر لنتكلّم حماساً قائلين: إنّ
الدين الإسلامي هو الدين المتكامل الذي تمّ من جميع جوانبه، وجاء بالسعادة للأمة
قاطبة، فنحن نتكلّم شعاراً، فإذا نزلنا من المنبر وسألنا سائل: ما هو الاقتصاد
الإسلامي في مقابل ما طرح في هذا العصر؟ لوجدت الطالب والفاضل منّا فارغاً لا يدري
بماذا يجيب!
فنحن نتكلم عن الأخلاق
والقيم الإنسانية والمثل العليا، ونتكلّم عن علم النفس، ولو سألنا السائل: ما هو
علم النفس؟ وما هو علم الاجتماع؟ وما هي التربية الإسلامية؟ وما هي العلوم
السياسية؟ وما هي المنهجيات الأخرى لكم لتكون بديلاً لعالمنا اليوم؟ لوجدنا أنفسنا
فارغين.
فالدين لا يُجزّأ، فكما
أنّنا نحتاج إلى أهل الاختصاص في الفقه والأصول ليكونوا مرجعاً للأمّة في أحكامها:
حلالاً، وحراماً، ومستحباً، ومكروهاً، ومباحاً، نحتاج إلى أهل خبرة في الاقتصاد
والسياسة وعلم النفس والعقائد كي يقابلوا الأمم بكل وعي وسعة صدر، وفهم لمباني
الدين الإسلامي، فنحتاج إلى أهل الاختصاص في كل المجالات، فلا يتناسب ما نقوله
وندّعيه ــ من كون الدين الإسلامي ديناً متكاملاً يعالج جميع ما يحتاجه البشر ــ
مع ما نقولـه: إنه محدّد في فقه وأصول، فنحن نحتاج إلى أهل خبرة في كلّ المجالات
حتى نكون صادقين في دعوانا.
لقد كانت الحوزات
سابقاً تدرّس الكثير من العلوم، فجاءت القرون لتحجّم المسألة يوماً بعد يوم حتى
أصبحت فقهاً وأصولاً، أي: استنباط حكم شرعي لا يتجاوز الأمر معرفة الأحكام الخمسة،
فإذا أصبح لدينا جميع الاختصاصات أصبحنا نواكب العالم، فلا يمكن أن يحارب العلم
بحكمٍ وتكفير وتفسيق، ولا يمكن أن نوقف المدّ العلمي، فنأتي يوماً لنحرّم التلفاز،
ثم نأتي في يوم آخر لنحرّم أمراً آخر، ثم ننسحب وراء القافلة البشرية مصحّحين ما
جرى، متّخذين ما كنّا محرّمين، أبهذه المنهجية يمكن أن نقابل العالم بعلمه؟ كلاّ.
فيجب أن نكون واقعيين
حتى لا نخدع النفس، ونلقي باللائمة على المعتدي والغازي والمتجاوز، فكل قوي إذا
وجد ضعيفاً تجاوز على حقوقه، وهذا هو نظام العالم إن خرج من الدين والقيم، ولا
يمكن أن نتوقع من معتدٍ رحمة، ولا نتوقع من أنفسنا الرحمة فيما بيننا.
فلندخل في أيّ مدينة من
مدننا الإسلامية ولننظر إليها بطبقاتها المختلفة، هل تعيش سلاماً وودّاً وإخاءاً
وتراصّاً ومحبة، أو يمزّق بعضها بعضاً؟
هذه هي حياتنا التي
نعيشها، فإن كانت هناك أمور فاللائمة علينا، وعلينا أن نبحث عن الأسباب أولاً حتى
لا ندخل خادعين النفس بإلقاء اللائمة على الآخرين.
يسأل سائل عن النفس
والعقل والروح: هل هذه أمور واحدة عبّر عنها بتعابير متعددة، أم هي أمور مختلفة؟
وهل النفس تختلف عن الروح، والروح تختلف عن القلب أو العقل؟
فإن قلنا: إن الله
تعالى حثّ الإنسان في كثير من آيات الكتاب المجيد على التفكّر والتدبّر، ومَدح
العقلاء، وجعل محطّ التكليف على العاقلين، ورفع القلم عن غير العاقل، ووردت
الروايات قائلة: ( لما خلق الله العقل استنطقه، ثم قال لـه: أقبل فأقبل، ثم قال
لـه: أدبر فأدبر، ثم قال: وعزتي وجلالي ما خلقت خلقاً هو أحب إليّ منك، ولا أكملتك
إلاّ فيمن أحب، أما إني إياك آمر، وإياك أنهى، وإياك أعاقب، وإياك أثيب ) ([1][1]) .
وورد في الروايات : (
أنّ لله على الناس حجّتين: حجة ظاهرة، وحجة باطنة، فأما الظاهرة فالرسل والأنبياء
والأئمة ، وأما الباطنة
فالعقول) ([2][2]) .
فإذن: العقل لو لم يكن
مميزاً بين الحق والباطل، ومشخّصاً الفضائل والرذائل، ومميّزاً للخيرات عن الشرور،
لما جعله الله حجّة، ولما أمر باتباعه، فكما أمرنا باتباع الأنبياء والعظماء
والأوصياء للأنبياء، أمرنا أيضاً باتباع العقل.
فلعل قائلاً يقول: أين
العقل والبشر مختلفون، فكلّ واحد من عبدة الأوثان إلى الشيوعيين والزنادقة
والمرتدّين، إلى المنتسبين إلى الرسالات السماوية: يهودية أو نصرانية أو مسلمة،
والمسلمون على اختلاف مذاهبهم كلّ واحد يدّعي المعرفة والحق والصواب، فأين العقل
الذي يدعو إليه الشرع القويم، وها هي الأمم مختلفة لم تتوحّد على منهجية واحدة،
فلو كان هناك عقل لجمع العقلاء، ولكان ملجأ للأمم قاطبة؟
إنّ المشكلة ليست في
العقل، بل المشكلة في الحجب التي تحجب العقل من مشاهدة الحق.
فلنضرب أمثلة على ذلك،
فنقول: كم من حق صنعه الحب المفرط؛ فلأنّك تحب ابنك حباً شديداً ربما حجب حبك
العقل عن أخطاء ولدك المحبوب، ورب زوج وصل أمره بالنسبة إلى زوجته أن ضيّع
المقاييس لشدة حبه إياها وراح مندفعاً ليضيّع حقوق الآخرين من بقية زوجاته، ويحرم
أبناءه لا بحكم العقل، بل بحكم حبّ وشهوة تجاوزت الحدود.
فنحن في مقابل مَن نحب
قد نتطرق ونتجاوز الحدود، كما وأنّا في مقابل مَن نبغض أيضاً قد نتطرف ونتجاوز
الحدود، فالشهوات والرغبات وحب الدنيا ــ الذي هو رأس كلّ خطيئة ــ وطول الأمل،
وما شاكل هذه الأمور، تحجب العقل من مشاهدة الحق والحقيقة.
فالعقل إذن لا يخطىء،
ولا يمكن أن يدعو إلى ظلمة وإلى أمرٍ غير مصيب، فالعاقل هو من وضع الشيء في موضعه،
كما ورد عن الإمام أمير المؤمنين (ع) عندما سئل عن صفة العاقل، ثم قيل لـه بعد
ذلك: يا أمير المؤمنين، صف لنا الجهل، قال: قد فعلت([3][3]) ، فالعاقل من وضع كلّ
شيء في مواضعه.
وأمّا الروح فقد ورد في
حقها قولـه تعالى: { ويسألونك عن الروح قل الروح من أمر ربّي} ([4][4]) . فإنّ العقل ربما كان
وجهاً مشتركاً بين الإنسان والملائكة حيث خلقهم الله عقلاء يعرفون الأمور،
ويمتثلون أوامر ربهم، ولا يخالفون، لكن الإنسان بمرتبة الروح التي هي من أمر الله،
وكل شيء هو من أمر الله، وكل شيء هو من فعل وخلق الله بلا شكّ ولا ريب، لكن تشريفاً
وتكريماً لمقام الروح، قال: إنها من أمر الله، ومن بعد ما نفخ الروح في آدم (ع)
أمر الملائكة والجن أن يقعوا لـه ساجدين، فالروح من عالم النور.
فرب إنسان عرف الحقيقة
بالدليل والبرهان، فعرف الحقيقة ووجدها في مواطنها، فنحن عرفنا الله بالعقل
والدليل والبرهان، ورب إنسان قال: ( بك عرفتك، وأنت دللتني عليك) ([5][5]) ، ورب إنسان قال: ( ما
رأيت شيئاً إلاّ ورأيت الله قبله، وبعده، ومعه، وفيه) ([6][6]) ، ورب إنسان قال: (
إلهي متى غبت حتى يكون غيرك دليلاً عليك) ([7][7]) .
هذه هي الروح بأنوارها
حينما تشرق عليها أنوار الحق سبحانه وتعالى.
والمرتبة الأخرى وهي
النفس { ونفس وما سوّاها * فألهمها فجورها وتقواها} ([8][8]) ، فالنفس هي في أنزل
مرتبة من مراتب الخلق الإنساني، وهي محطّ صراع وامتزاج في عالم العناصر والمادة
يقع في مرتبتها الصراع بين الحق والباطل، وربما شبّهت الأمور على الإنسان بواسطة
حجبه فراح يخلط بين الحق والباطل، فمرتبة الفجور والتقوى، ومرتبة دسّ الحقائق،
إنما يكون في مرتبة النفس.
وكأنّ قائلاً يقول: هذا
الإنسان إذن أصبح بعقله شيئاً، وبروحه شيئاً آخر، وبنفسه شيئاً، وبقلبه شيئاً!
إنّ القلب عليه مدار
وقوام الجسد، كما وأن للجسد قلباً للروح قلباً وهو عمقها وباطنها التي تعرف به
حقائق الأمور، ولذا الخُلّص من عباد الله بقلوبهم عرفوا الحق تعالى قبل مرتبة
الدليل والآثار، كما قال قائلهم: ( إلهي ترددي في الآثار يوجب بعد المزار) ([9][9]) ، فالخلّص من عباد
الله عرفوا الله بالله، وما عرفوه بآياته وبالمخلوقات.
فمعرفة الله بآياته
وبمخلوقاته مرتبة نازلة، وأولياء الله عرفوا الله بالله.
فإذن نقول: الإنسان
جامع شتات هذا العالم، فخلق الله في هذا الإنسان جميع مراتب العالم، من عالم النور
وهو عالم اللدن الإلهي، وعالم العقل وهو عالم الملائكة وعالم البرزخ وهي الأمور
المعنوية الجزئية وإدراكها، كما أشار إلى ذلك إمام الموحّدين علي (ع) ، قائلاً :
صور عارية عن المواد، عالية عن القوة والاستعداد([10][10]) .
وعالم الشهادة حيث
المادة مضار الإنسان مزيجاً مركباً من كل هذه العوالم، فعالم الطبيعة بصراعها،
بفجورها وتقواها لكي يكون الإنسان بنفسه متزناً جاعلاً النفس تحت قبضة العقل
بدليله، والروح بإشراف نورها الذي تشرق عليها الأنوار من الله تعالى إذا كانت زكية
طاهرة فزكاة نفوسنا تجعل الإنسانية بمرتبة روحها محلاًّ لكلّ إشراق إلهي من الكنز
الربوبي والعلم اللدنّي الإلهي، وهو مرتبة النور التي أشار إليها الإمام الصادق
(ع) : )كشف الله سبحانه وتعالى لنبيه (ص) ليلة المعراج سبعين ألف حجاب من
النور) ([11][11]) فهناك من يستحقون
بعلوّ أرواحهم، إشراق نور، وهي مرتبة أرواحهم، ولذا قالوا: الحقيقة المحمدية (ص)
هي التي تكون فوق كل شيء، ثم تأتي المراتب الأخرى، فمرتبة نور إلهي يشرق على
الروح، ومرتبة عقل يجعلنا كيف نضع الأمور في مواضعها، فيكون نور مرتبة النفس
بطهارة النفس وزكاتها وعلوّها مرتبطاً بالحق بلا اكتساب، ولذا فإنّ الأنبياء ما
اكتسبوا الأمور اكتساباً، وما ذهبوا إلى المدارس ليتعلّموا حقائق الأمور، فإنّ
متكلّمهم يتكلّم في المهد، ويؤتى الحكمة صبياً، وجعل الله الكثير من القادة قبل سن
البلوغ والكمال.
فهناك نفوس عظيمة
ورفيعة بمرتبة روحها يشرق عليها الحق، فترى الحق بإشراق ربوبي، وهي مرتبة الروح،
وهناك نفوس سليمة تسير في ميادين العلم مرتبة بعد مرتبة، تستعين بالعلم لتستدلّ
ولتقيم البراهين في مواطن العقل، وهناك قلب يكون طاهراً، ولعل القلب والروح في
مرتبة واحدة عبّر عنهما بتعبيرين، وهناك مرتبة تصارع ونزاع، وهي مرتبة النفوس التي
تعيش عالم التنازع والصراع، وهو عالم الطبيعة والمادة، فالكلّ هي الحقيقة
الإنسانية، فالإنسان جامع شتات عالم الإمكان، جعل الله فيه من عالم النور، وجعل
فيه من عالم العقل، وجعل فيه من عالم النفس، وجعل فيه تركيب العناصر المختلفة؛ ليجده
أيتّزن ليكون مثالاً لوحدة شتات العالم، فيجعل اتزاناً بين الأمور المختلفة، أو
ليس قادراً على أن يجعل توازناً بين الأمور؟
فأولياء الله من
الأنبياء والأوصياء والمقرّبين هم الذين تمكنوا أن يجعلوا اتزاناً لكل هذه المراتب
العالمية في هذه ( الأنا) ، وهي الإنسانية، ليكون آية تامة للحق في كل عالم
الإمكان، فالإنسان آية الله الكبرى التي جمع الله فيها جميع العوالم ليكون آية
للعلم وللحكمة والعدل والخلق والكمال ولكل شيء ... ، ولهذا قال النبي (ص) : (
شيّبتني آية في سورة هود) ([12][12]) وذلك حينما خاطبه ربّه
عزوجل قائلاً: { فاستقم كما أمرتَ} ، فالمعرفة تحتاج إلى استقامة واعتدال فيما
يتوصّل إليه الإنسان من المعارف.
والحمد لله ربّ العالمين
[5][5]ــ الصحيفة السجادية
(الجامعة لأدعية الإمام زين العابدين ) : 214 ، من دعائه
في سحر كل ليلة من شهر رمضان.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق