لسماحة الأستاذ الشيخ محمد كاظم الخاقاني
تقدّم الكلام في المحاضرة
السابقة على أنّ هناك سلبيات يجب أن تلحظ، لكن ليس معناه أنّه على الإنسان أن يجلس
وينظر إلى السلبيات بجوانبها السلبية، فتزداد عنده الهموم، ويزداد اليأس يوماً بعد
يوم، وتتراكم عليه الظلمات؛ لأنه إذا توقّف انتهى، فقد أصرّ الكثير من الناس في
عصر الإمام أمير المؤمنين (ع) على تحكيم شريح القاضي، وعلى جعل أبي موسى الأشعري
على الكوفة، فأراد الإمام ــ تقييماً لحرية الرأي، ومجاراة لتنمية حركة القابليات
والاستعدادات للمسلمين ــ جعلهما؛ حتى انكشف الخطأ: بأن الحق مع الإمام في إبعاد
هذين الشخصين عن ساحة ودفّة أمور المسلمين، فربما تكون مسألة فيها سلبيات لكن
المؤمن يجعل من السلبيات حذراً، ويخرج بواسطة بعض السلبيات عن غفلة؛ ليعيش الحذر،
فلا يكون الخطأ لدى أصحاب البصيرة وسيلة لنهاية الإنسان واستسلامه إلى السلبيات
والأخطاء.
فعلينا ــ إذن ــ أن نلحظ
الجوانب السلبية، بما لها من الجانب الإيجابي، لا بما لها من جانب يصب في متاهات
اليأس، فكل الأمم مرّت بأدوار انتصار وتمكّن، وأصيبت بجوانب سلبية؛ لغرور أو كبر،
فجاءت الأمم الأخرى فغزتها، فانتهت أدوارها، لكن لما كان البناء من قبل الأنبياء
بناء باطنياً نافذاً في أعماق الضمير، ولم يأت الأنبياء بثورة تحدث ليلاً لتعلن
صباحاً للمجتمع، بل جاؤوا ليسايروا الفطرة البشرية، وليأخذوا بأيدي الناس من مرحلة
إلى مرحلة.
فمثلاً ما حرمت الخمرة إلاّ
من بعد فترة من الزمن؛ تمشياً مع البشر، كآباء يتماشون مع الأطفال، ليستعدّوا إلى
الحركة، ولما كانت دعوة الأنبياء دعوة نافذة في أعماق الضمير ما انهزمت على طول
التاريخ، فكم من أمة جاءت وحكمت بأشدّ مما حكمت الأنبياء، لكنه كان حكماً بسيف على
ظواهر الأجساد، فانتهى بمجرد ضعف ذلك السيف، لكن لما كانت الشرائع نافذة في
الأعماق، متدرّجة مع الفطرة قدماً بعد قدم، فلا يمكن أن تهزم.
فعلينا ــ إذن ــ أن نراجع
أنفسنا، فنقول: ما هي الأسباب التي سبّبت ما وصلنا إليه اليوم، وليس بعيداً ما
سمعناه عن العزّ ــ ولو ظاهرياً ــ لحكومات إسلامية إلى عهد العثمانيين، فما كان
العزّ الإسلامي حديثاً يتكلّم عنه المتكلّم عما قبل التاريخ، فإذن ليس العزّ
الإسلامي ــ ولو بصوره الظاهرية ــ قديماً على مسامعنا حتى نصاب باليأس
والاستسلام، فيجب أن تكون الجوانب السلبية مدعاة للحركة، مدعاة للأخوّة، ومدعاة
لتوحيد الكلمة بواقع الحق لا التوحيد والجماعة على منهج باطل، فاللَّه سبحانه
وتعالى دعا إلى توحيد الكلمة، لكن تحت ظلّ الحق ومسيرة الحق، لا تحت الباطل، فلا
نفخر بسيوف فتحت البلاد على أجساد المجتمع، ولا نفخر بدعوة خرجت عن منهجها لتعلن
للعالم انتصاراً بعد وفاة رسول اللَّه (ص) ؛ حيث إنّه ما كان انتصاراً، بل كان
عزّاً صورياً ظاهرياً إسلامياً، يخدم المصالح الشخصية لا قيم الشريعة.
فالشريعة الإسلامية ــ كما
تعلمون ــ سلسلة مترابطة، لا تكون حسنة ولا جميلة إلاّ بكل أبعادها، فإن طبّقت
بأبعادها كانت خلقاً رسالياً، وكانت منهجية حقّ تسوق المجتمع إلى الكمال، لكن إذا
عملنا بجانب دون جانب، فهذا ينظر إلى الشريعة من خلال تصوّراته، ومن خلال ميوله
الخاصّة، وذاك أخذ جانباً آخر، فخرج أيضاً من الاعتدال إلى جانب آخر، فظنّ الدين
رهبانية وتزكية بمعنى الزكاة النفسانية وطهارة النفس المجردة عن واقع الرسالة،
وكأنه ما نظر إلى واقع أمر، وهو: أن الإنسان خلقه اللَّه تعالى بأبعاده المختلفة؛
ليكون مادّياً معنوياً، ليكون من أبناء الدنيا ومن أبناء الآخرة.
فالمؤمن عزيز، وما أراده
اللَّه ذليلاً على وجه الأرض، تلعب به الأيادي والأغراض.
المؤمن كيّس فطن، سلامة
بكياسة ودراية، فلا دعوة إفراط ولا تفريط تكون منهجاً رسالياً، فبعد معرفتنا بأن
اللَّه خلق الإنسان بأبعاده المختلفة وجعله جامعاً لشتات عالم الإمكان، جعله
وجوداً مادياً ببعدٍ، ووجوداً مثالياً ببعدٍ، ووجوداً عقلياً ببعدٍ، فتجاوز العقول
والملائكة، وراح يسير في عالم اللقاء الإلهي حتى أصبح خليفة للَّه في عالم
الإمكان، فكل دعوة تدعو المسلمين إلى جانب دون جانب ــ ولو تلبست بلباس الحق،
كالدعوة إلى الزهد والتزكية النفسانية البعيدة عن ميادين الواقع الخارجي ــ فهي
خارجة عن منهج الحق، ولا تكون إلاّ ضلالة باسم الهدى.
ونحن قلنا ــ فيما تقدّم ــ :
يجب أن نكون واقعيين، ولا نلقي باللوم دائماً على عواتق الآخرين، فلو بذلنا كل
جهدنا في واقع حركتنا العلمية بإخلاص حقيقي حتى يصير العالِم دوّاراً بعلمه، كرسول
اللَّه (ص) ، يجاري الناس بمستوى عقولها، حتى يأخذ بأيديها إلى العلم والكمال
الإسلامي، ما بقي الناس عواماً بعد ألف وأربعمائة سنة، حتى نسمع في مثل هذه
العصور: أن بعض الناس في يومنا هذا لم يعرفوا العقد الزوجي، فأين نحن من هؤلاء
الناس الذين ما بلغت مسامعهم حتى مثل هذه البدايات الإسلامية؟ هل هذا كلّه من
السلبيات التي هي على عواتق المجتمع، أو يرجع الكثير منها على عواتقنا نحن كدعاة
شرع؟ وعليه، فيجب أن لا نكون كما كانوا، نلقي اللوم على الآخرين، فإن كنّا أهلاً،
فعلينا أن نبني بناءا,بلا أن نتكلّم: لِمَ كان؟ وما
يكون؟ ولا أريد أن أجعل بعض الدول أمثلة، لكن أريد ــ من باب التقريب الذهني ــ أن
أقول: إنّ الحرب العالمية الثانية لمّا جاءت كسحت بعض الدول والشعوب كسحاً من
قيمها وأسسها، وجعلتها أذلّة إلى آخر ما يمكن، كاليابان وألمانيا، فما جلس هؤلاء
ليلقوا باللوم على قاداتهم، أو على شعوبهم، وإن كانت الفكرة مادية، بل تركوا
ماضياً بما فيه من السلبيات، وإذا بهم الآن ــ بعد خمسين أو ستين سنة ــ أصبحوا
يواكبون العالم مرة ثانية، فساروا وجعلوا السلبيات وسيلة للحركة، فهذه الدول جاءت
بعد انهزامها التام بلا أن تدّعي ارتباطاً بالحق، أو ارتباطاً بشريعة متكاملة من
كل الجوانب، وبلا أن تدّعي أنها تابعة لسيّد الكائنات محمد (ص) ، جاءت بإرادة
وتصميم فتركت الماضي، وجاءت لتبني مستقبلاً.
فلمَ نحن إذا جلسنا نتكلّم عن
الماضي، وعن السلبيات، وكل واحد منّا يظن أنه لا مدخلية لـه بتلك السلبيات، فنقول:
أين نحن من بقاء الجهل في هذه الأمم؟ ألسنا مسؤولين بكل طبقاتنا عن هذه الأمة، كل
واحد على قدر استطاعته وعلمه؟ لمَ ابتعدنا ولم ندخل في القرى والأرياف؟ ولمَ في
بعض الأحيان أبَينا ذلك؟ ولعل البعض أبى ذلك كبراً وغروراً، فيجب أن يقوم كل واحد
بدوره، فالعالِم يقوم بعمله حتى يؤدي الأمانة؛ لأن الشرع سلسلة مترابطة، إن عمل
بكل جوانبه كان عظمة وعزّاً، وإن عملنا بجانب دون جانب كان تشويهاً للشريعة، ورب
ترك لقانون خير من العمل بالقانون المشوّه، فلعلنا نسأل يوم القيامة: لو أنكم
تركتم بعض الأمور وما أبديتموها للمجتمع العالمي باسم رسول اللَّه (ص) ، وباسم
الشريعة، وباسم اللَّه، لكان خيراً من أن تعملوا بقانون مشوّه، وتظهروه إلى
المجتمع البشري.
نحن نتسابق في كل تاريخنا؛
لإقامة حدّ القصاص مثلاً، ولا نتساءل ما هي الأسباب التي دعت المجرم إلى أن يرتكب
جريمته؟ هل لنا مدخلية فيه أم لا؟ أو كنّا بُراء بكل معنى الكلمة، نعيش النزاهة
بكل معنى الكلمة، حتى سيق المجتمع إلى مثل هذه الجرائم، فلعله سرق عن حاجة، أو
جهل، فلا العالِم سأل نفسه: لماذا سرق هذا السارق؟ ولا الحاكم سأل نفسه، وهذا
مسؤول عنه بجانب العلم، والحاكم مسؤول عنه بجانب العدل الذي تخطاه وسحقه، وجعله
قصوراً لنفسه، وهكذا في كثير من الموارد لم نطبق الشريعة، ونتعجّب من توالي
الفساد، فنحن نتعجّب من شاب قد يتجاوز الحدود والمقاييس، ويتعدّى على أعراض
المجتمع، وما سألنا أنفسنا لعلنا كنّا مسؤولين في مثل هذه المتاهة: هل لاحظنا
الشاب بجوانبه التربوية والمادية، فجئنا في بعض القرون لنطبّق على شاب تجاوز
العفّة حدّاً، وعلى آخر تجاوز الأمن الاقتصادي حدّاً، وما سألنا أنفسنا: هل لنا
دخل في مثل هذه السلبيات، أو ليس لنا دخل؟ لمَ لَمْ نسأل النفس؟ لأنّ كل واحد منا
يرى نفسه مصيباً، وليس مقصّراً، وهذه هي الطامّة الكبرى التي حذّر اللَّه سبحانه
وتعالى منها، وهي الكبر.
فالكبر ليس فقط عنواناً
اجتماعياً، بأن لا أقوم للقادم، بل الكبر بميادينه المختلفة كِبر، فالذي يظن من
نفسه أنه قائم بكل شؤون الرسالة فهو في الحقيقة يعيش كبراً وعجباً، والمعصوم من
عصمه اللَّه سبحانه وتعالى، ولا نريد أن نقول، ولا ندّعي: على أنّ الإنسان لو
اعتدل كان مثالاً للعصمة، لكنه إذا اعتدل كان وسيلة للحركة نحو الكمال لنفسه
وللآخرين.
فمن جملة الأمور التي يحذّر
منها الكتاب المجيد، والتي تدخل تحت راية إبليس بكبره وأنانيته، هي الوسوسة، فقد
جاء إبليس وبدأ البشرية بالوسوسة، فأخذ يوسوس إلى آدم (ع) بمسألة الشجرة، وما دخل
من مدخل الباطل، بل دخل من مدخل حق بحسب الظاهر؛ لأنّه جاء بحنان ورقّة على آدم
(ع) ؛ داعياً إياه أن يأكل من شجرة الخلد، محرّكاً غريزة فطرية في كل إنسان، وهي
حبّ البقاء والخلود، وحب السلطان والهيمنة والعزّة، وكل ما كان غريزة لا يكون
انحرافاً، إلاّ إذا تجاوز الحد: إفراطاً، أو تفريطاً.
فإذن: هو جاء بصراط مستقيم،
أطلاه بمقاصد خاطئة، فجاء ليدعو آدم إلى الخلد، وأي دعوة أجمل من هذه الدعوة؟!
فكلّ الكلمات كانت كلمات حق، لكن الاستدلال كان شيطانياً. فالدعوة كانت حقّاً،
ولذا لبّاها آدم (ع) بفطرته، وهذه فطريات، وأيّ إنسان لا يحبّ العزّة والخلود
والبقاء؟ ومن لا يحبّ الخلود والبقاء والعزّ عليه أن يعالج نفسه؛ لأنه مريض، فما
كانت دعوة إبليس باطلة، لكنها كانت ظواهر حق يراد بها باطل، وكم من كلمة حق أريد
منها الباطل؟! فجعل الأكل من الشجرة ملاكاً ووسيلة للعزّة والخلود، في حين أن
الخلود لا يكون بأكلٍ، وليس من ملاكات الخلود الأكل والشرب؛ لأنّ اللَّه تعالى ما
جعل يوماً من الأيام الأكل والشرب من ملاكات الخلود، بل جعل ملاك الخلود علماً
وخلوصاً، جعل ملاكات الخلود وسائل ترتبط بمن لـه الخلود، واللَّه تعالى بيّن أنّه
بالعلم والعمل الصالح والخلوص، وبُعد البصيرة والتقوى، يكون الخلود، ولكنّ إبليس
حرّف هذا الجانب، فما تكلّم في أصل الدعوة كلاماً باطلاً، وإنما حرّف هذا الجانب.
فعلينا أن ننظر إلى زماننا
هذا الذي نعيشه: هل أن بعض الكلمات وبعض النغمات الجميلة اللطيفة من منطلق حق
وصلاح في ظاهرها، وفي باطنها طلاح، فكم من دعوة عالمية ظاهرها خير وصلاح، وعدل
وإخاء، تشير إلى الإنسانية والدفاع عن الحقوق البشرية، لكنها تحمل في باطنها الشر
والدمار، والانحراف والاضطهاد؟
فيجب علينا أن ننظر إلى هولاء
الدعاة الذين هم مظاهر الشياطين، هل أن هذه الدعوة هي من منطلق واقع، أو هي لشيء
آخر جعلت مقدّمة للتوصّل إليه؟ حتى لا نقع مرّة ثانية في سلبيات تسوقنا إلى اليأس،
فعلينا أن ننظر ببصيرة إلى ما يجري في زماننا هذا، إلى كثير من الدعوات التي أطليت
بعبائر ذهبية، فعلينا أن نجلس جلسة واقعية لكي لا نقع مرة ثانية وثالثة في مثل هذه
المطبّات، وعلينا ــ كما قلنا ــ أن ننظر إلى الشريعة، ولا نكون سبباً لتشويهها
وإظهارها إلى العالم بدون واقعها، فإن تأمّلنا بواقع بعيد عن تلقين النفس وتبريرها
سنجد الكثير من الذين كانوا قريبين ابتعدوا، والكثير من الذين جاؤوا ومدّوا الأيدي
ــ لكي نكون لهم سبل نجاة ــ تركونا وراحوا في أحضان غيرنا؛ لأنهم ما وجدوا حقّاً
كنا نتظاهر به، فإن سرنا بهذه المسيرة، فسنكون مسؤولين عن الأجيال، وسنكون مسؤولين
عن كل ما هو واقع؛ لأن ترك منهج أولى من تسليمه مشوّهاً للآخرين.
فإذا سرق شاب قطعنا يده، وهو
يعيش الفقر والجهل؛ لقصور العلماء والخطباء، قطعنا يده وهو يعيش الفقر لنهبٍ من
قبل الحكام، فقطعنا يده وألقينا اللوم على ذلك الشاب، وهاجمناه وكأنّ كل واحد منا
يعيش نزاهة الأبرار والمقربين.
فعلينا أن نصنع أمة جديدة،
وأن نبدأ بأنفسنا، وأن نصلح أنفسنا إصلاحاً حقيقياً، بعيداً عن كل وساوس الشياطين،
ثم بعد ذلك فمن اهتدى فليهتدي، ومن لم يهتد فعمله عليه.
فإذن: هذه مقدّمات، لندخل
أوّلاً في الجوانب السلبية، وهي الرذائل، ثم بعد ذلك ندخل في الفضائل حتى نسير
مسيرة متناسبة مع الشريعة بقدر ما، ولا ندّعي أكثر من ذلك، لكن إن كانت بطهارة
نفسانية قد تجمعنا جوامع الأخوّة والوداد، وإن كانت من منطلق مصالحنا الشخصية
ستسوقنا مرّة ثانية إلى كثير من السلبيات.
والحمد للَّه رب العالمين .
www.alkhaghani.org
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق