الخميس، 25 أبريل 2013

@ الأخلاق المحاضرة رقم 14



لسماحة الأستاذ الشيخ محمد كاظم الخاقاني

ربّما يكون الإنسان سلبياً في الإيجابيات، وربّما يكون إيجابياً في السلبيات.
وأنا أقدّم شكري لأحد الإخوة الذي نبّهني على كلمةٍ تقدّمت، فلعلّها تكون موجّهة بتوجيهٍ غير سليم، وغير مراد.
فقد تقدّمت منّي كلمة: على أنّه علينا أن نترك الماضي بما فيه، ونجلس لنبني بناءً بأصوله وقواعده الإسلامية، بغضّ النظر عما مضى؛ لأنّ الكلام عمّا مضى قد يسوق المجتمع إلى إلقاء اللوم على عواتق الآخرين.
نعم، هذه الكلمة التي تقدّمت ما أردت منها أن نترك الماضي بما فيه، وحياتنا مبنية على الماضي، وأساس منهجنا بتاريخه تقدّم، وقد مرت عليه قرون، ونحن نفخر بتلك الأمور الماضية، بما كان فيها من الرقي والعظمة، وإنّما نلوم أنفسنا: لمَ ابتعدنا عن المنهج؟ حتى أصبحنا متمزّقين لا أثر لنا، بعيدين عن واقع الرسالة، وإلاّ فنحن الذين بنينا معتقدنا على الإمامة والعدل، وبنينا أمورنا الفرعية على التولّي والتبرّي، فلا يمكن أن نترك الماضي بما فيه، بل نترك الماضي بجوانبه السلبية، لا بجوانبه الإيجابية، وأيّ إنسان يتمكّن أن يتخلّص من ماضيه وهو يعيش حضارة الماضي والحال، ويرتبط ارتباطاً بكل هذا الواقع؟!
لكن علينا أن نلاحظ الأمور بإيجابياتها، لا بسلبيّاتها، فبيت واحد لا يخلو من اختلاف في الرأي، ولا يخلو من سلبيات، فكيف يمكن أن نتوقع إيجابيات بكلّ معنى الإيجابية للمسلمين، أو للشيعة، بلا وجود سلبيات؟ فالسلبيات لابدّ وأن تكون في كلّ مجتمع، لكنّ الذي ينظر إلى السلبيات ــ بما هي سلبيات ــ يقيناً لا يتمكن أن يتحرك حركة سليمة نحو التكامل والرقي، فلو نظر الإنسان إلى حيّة بنظرة إيجابية لتمكّن أن يستفيد من الحية استفادة إيجابية، بما لها من السمّ، وبما يمكن أن يستفاد منه، فالسمّ يمكن أن يلحظ لحاظاً إيجابياً، فكيف بأخيك المسلم الموحّد؟!
لكن ربّ إنسان عاش السلبيات في كلّ حقيقة وجوده، فيقول: لِمَ لمْ يعطني اللَّه مالاً، أو جاهاً مثلاً، أو غيرهما؟ فيضخّم على نفسه السلبيات، ويغضّ الطرف عن الإيجابيات.
فإذن: إخواني، ما أردت أن نترك الماضي بما فيه، لكن علينا أن ننظر إلى إيجابيات الماضي بواقعٍ من الأمر، حتى لا نصاب بجهلٍ مركّب في الإيجابيات، فنترك الإيجابيات الحقيقية، ونصوغ لأنفسنا إيجابيات وهمية بجهل مركب، ونظنّه إسلاماً، ونبقى بعد ذلك نحاول الدفاع عن إسلامٍ موهوم صغناه بأوهامنا، فكم جالس منّا ربما راح ليدافع عن الإسلام وعن الحقوق الإسلامية ولم ينظر نظرة تأمّلية؛ وذلك لأنه ربما كان ما يدافع عنه لا صلة لـه بالإسلام وواقعه الرفيع، وإنما هي سلبيات اجتهاد وتقليد ومتابعة للآخرين، لكن حاولنا أن ندافع عمّا هو موجود باسم الإسلام، ولعلّ الكثير ممّا هو موجود كان أمراً تابعاً لاجتهاد، أو لحضارة خاصةٍ إسلامية عربية، أو فارسية أو تركية و... .
فلو جلسنا جلسة تأمّل باجتماع أهل الخبرة في ميادين العلم والشرع لوجدنا الكثير مما سميناه إسلاماً ما كان يرتبط بالإسلام، وبالأخص في المسلك الشيعي الذي فتح الأبواب للاجتهاد.
فالتقليد توقيف للعقل، ولمنهجية الكمال، ففتح المذهب الشيعي باب الاجتهاد على طول القرون؛ لأنّ أي إنسان عادي ــ مهما كان من العلم والتقوى ــ لا يكون معصوماً، ولا يكون نبيّاً، فمجتمعه ومكانه وزمانه وكيفية فهمه للاستنباط، وكيفية معاشرته مع الآخرين، قد تكون مؤثرة في استنباطه، وقد أراد اللَّه منهجية متكاملة إسلامية، لها أبعادها اللامتناهية، متدرّجة مع واقع الزمن، متحوّلة مع الاجتهاد الذي قد يختلف من زمان إلى آخر، ولا أريد أن أقول بهذه المقالة على أنّه ليست هناك من ثوابت لا تمسسها أيدي الحدثان، فيقيناً هناك ثوابت لا نتردد فيها بنصوص في الكتاب والسنّة، وهناك ثوابت بقيمها الوجدانية والفطرية، فلا مخرج عن الثوابت الفطرية الوجدانية، ولا مخرج عن الثوابت في باب التحسين والتقبيح، ولا بالنسبة إلى الثوابت المنصوص عليها في الكتاب والسنّة التي لا تقبل التأويل والتفسير.
لكن هناك ميادين واسعة هي ميادين الفهم والاستنباط الشخصي، فربّما تدخّلت وكانت مصيبة؛ حيث إنها ساقت الشرع ليكون تابعاً لفهم شخص، فلا يجوز أن تتوقف العقول؛ تقليداً لشهرة، أو دعوى إجماع، أو غير ذلك؛ تقليداً لفهم عظيم من عظماء الفقه أو الأصول.
وهناك أمرٌ ملموس وواضح، وهو أن التلاميذ في الغالب الذين يدرسون على يد فقيه من الفقهاء فإن فهمهم واستنباطهم يتناسب مع ذلك الفقيه، وهذا أمرٌ ملموس لا ندّعيه لوهم أو خيال، فإن كانت هذه ملموسات عصرنا، وشاهدناها في حوزاتنا، فلعلّها كانت في العصور المتقدمة، وهذا الذي أردت أن أشير إليه في المقام أيضاً، حتى لا نأخذ الإيجابيات بعد معرفتها أخذ أمر مسلّم لا يقبل النقاش؛ ظناً بأنّه كان من الشرع بلا ريب ولا شك، وعلينا أن ننظر إلى السلبيات بمنظارٍ إيجابي، فنستفيد من عبرها، ونستفيد من الأخطاء للسير السليم الصحيح حتى نسير سيراً يمكن أن نرجع إلى عزّنا الذي فقدناه من واقع الكيان الشامخ الإسلامي، ولا أريد الفتح الدموي الذي استرقت بواسطته الكثير من الأمم باسم الجهاد.
والمسألة الأخرى التي هي مدعاة للتوجّه أيضاً: هي هذه الصحوة الإسلامية التي عمّت العالم الإسلامي، فأخذت تتدرج وتنتقل من مرحلة إلى مرحلة، لكنّا نخاف من أمر في المقام، وهو: أنه كم من صحوة حرّفت، وكم من طريقة ومنهجية استفاد منها المنحرفون لأغراضهم الشخصيّة! ولعلّنا لمسناه في كثير من الميادين، والاستعمار دائماً إذا وجد حركة يحاول أن لا يقابلها وجهاً لوجه.
فمن باب المثال: أنّا حينما نأتي من باب الفرض والتقدير لننظر إلى من خالفوا علياً، فإنهم ما جاؤوا ليقولوا: أين علي من الحروب الإسلامية؟ أومن الثبات والعدل؟ فلو تكلّموا بهذه الكلمات لخالفهم وشكّ فيهم كل قريب وبعيد، لكنهم جاؤوا لينالوا من علي (ع) بكلماتٍ ظاهرها الإخاء والمودة، ثم ضربوا المنهج، ونالوا من الحق، وضربوا كل القيم الرسالية، من طريق ظاهره السلام، وبكلمات حق أريد منها باطل، فنحن نخاف من أن تمدّ الأيدي غير السليمة، وأن تأخذ صحوةً إسلامية لكي تسيّر هذه الصحوة بمنافعها وأغراضها الشخصية، أو تكون هي الصانعة لبعض هذه الخيوط لتواكب الموجة للنيل من مبادى‏ء السلام، فإنه أعمق طعناً من المواجهة حين انحدار السيول.
لقد جاء الإسلام فانهارت أمام ضرباته رايات الشرك والطواغيت، ولكنه وقع شهيداً عند أعتاب المنافقين، والمنافق الذي نعرفه أنا وأنت في لحظة، فإنّ مثل هذا يعيش في بدايات النفاق، فمثلاً معاوية الذي يعرفه كلّ إنسان بأنه متلوّن ومنافق، فإنّ هذا وإن كان خطراً على الإسلام والمسلمين، لكنّه لا يرسم شرعاً للمسلمين، وإنما ضرب عمق الكيان الإسلامي ضربة قاضية كادت أن تؤدي بحياته بواسطة الذين نافقوا، وتمكّنوا ليومنا هذا أن يلبّسوا النفاق لباس الزهد والتقوى، والعز والكرامة، فهم منافقون حقيقيون وصلوا إلى عمق في النفاق والسقوط والحضيض بازدواجية بين خُطى الخير والشر، حتى راحت لتمرّ القرون والناس مخدوعة بزهدهم وتقواهم، ونحن اليوم أيضاً نخاف نفاقاً يأخذ بصحوتنا ممن تردّى رداء القديسين، كما وأنّا نخاف استعماراً يمدّ يده ليأخذ بأيدي ضمائر خاوية وكوادر نفاق مسخت إنسانيتها؛ ليدّسها في صحوتنا الإسلامية؛ وليستفيد من حركتنا الإسلامية ويسيّر الحركة تسييراً انحرافياً، وإلاّ فإن شاء اللَّه نعيش البشرى والسعادة؛ لما نحن فيه من الصحوة الإسلامية؛ حيث إنها حصيلة ردة فعل بإزاء طغيان الشيوعية، لكن وجدنا وشاهدنا أنّ المستعمرين لا يضربون منهجاً أخذ ينمو، وأخذت القلوب تؤيده وجهاً لوجه، فما ضُرب علي (ع) بواسطة معاوية، وإنما ضربته السقيفة، ففتحت الباب لأمثال معاوية.
أنظروا إلى الكلمات التي صدرت كلّها كلمات إجلالٍ وتكريم، صدرت من هؤلاء لعلي (ع) ، وبهذه الكلمات تجاوزوا على الموازين، وحرّفوا الشريعة إلى يومنا هذا، فأصبحنا نعيش تردداً في تمييز الحق عن الباطل، والاستعمار اليوم كذلك لا يأتي ليقف وجهاً لوجه في مقابل الصحوة الإسلامية، بل خوفنا من النفاق العالمي من تلبيس الباطل باسم الحق، ولكنّ اللَّه تعالى أولى بأن يمدّ يد المسلمين، وأن يجعلهم متوجهين إلى الأخطار التي تحفّ بهم.
وهذه كانت مقدّمة قبل الدخول في البحث، وهو: الوسوسة، ومن المناسب أن نتكلّم عن مثل هذه الأمور؛ لأنّ الوسوسة تلبيس الحق لباس الباطل.
فالوسوسة كما عُرّفت في اللغة: هي صوت الحُلي، وما أحسنه من صوت، وما أجمله، فصوت الحُلي جميل لكنه يحمل في بواطنه خطراً، وسميت الوسوسة بذلك الصوت الجميل فصارت وسوسة وتضليلاً وتحريفاً للباطل باسم الحق.
وقلنا: إنّ الشياطين لا يدخلون لأحدٍ إلاّ من طريقة هو يستذوقها ويحبّها، كطريق الخلد والبقاء، فالإنسان بفطرته يحبّ اللذّة والراحة والسعادة، فالشيطان لا يأتي إليه بما هو مخالف لطبيعته وفطرته، وإنما يأتي إليه بما هي متعلقات السعادة والرقي والكمال واللذّة، فإنّ الشيطان يحرّف المتعلق، فيظهر لـه: أنّ السعادة في الخمر مثلاً، وأن السعادة في العاجلة دون الآجلة، وإلاّ فلا يأتي إبليس بما هو يخالف فطرة، أو عقلاً، فإبليس إن تمكّن أن يرقى إلى ميادين العقل لما كان رجيماً، فهو يعيش في ميادين الوهم والخيال، ويتمكّن أن يصوغ من هذه الميادين ألبسة باسم العقل والحق.
فقال الأعلام: هناك منهجية للتخلّص من وساوس الشيطان، وهي: تطهير النفس.
ونحن في هذه المحاضرات سوف نتكلّم أوّلاً عن تطهير النفس من الرذائل، والوسوسة من الرذائل، ويقابل الوسوسة ــ وهي الخواطر الشيطانية ــ الإلهامُ وهي خواطر رحمانية، وكلّ واحدةٍ منها تدعو إلى الفطرة بحسب مظاهرها، لكنّ التحريف في المتعلّقات، فإبليس ــ بوساوسه ــ يدعو إلى فطرة، لكنّه يحرّف الأدوات، والرحمن ــ بالإلهامات الرحمانية ــ يدعو إلى الفطرة أيضاً.
والآن نقول: متى تكون الإلهامات الرحمانية نافذة في القلب؟
والجواب هو: إذا صار القلب طاهراً، ولا يمكن أن يكون محلاًّ للإلهامات الإلهية الرحمانية، وهو يعيش التلوّث بالظلمات والحُجُب، كالرّين والزيغ والغشاوة والطبع، وما شاكل هذه الأمور، على مراتبها وحجبها.
فإذن: علاج الوسوسة هو تطهير النفس أوّلاً، وتقوية اليقين ثانياً، واليقين لـه مراتب كما قالوا: علم اليقين، وعين اليقين، وحقّ اليقين، فعرّفوا علم اليقين: بأنه الوصول إلى الحقائق بالدليل والبرهان السليم، وعرّفوا عين اليقين: بأنه بالطهارة والاستدلال السليم تستعد النفس لكي تكون محلاًّ لمشاهدة الحقائق، بفطرة ووجدان وقلبٍ سليم، حتى يصبح الإنسان مصداقاً لليقين خارجاً، وهو مرتبة حقّ اليقين، التي هي مرتبة الأولياء، كالأنبياء، على اختلاف مراتب الولاية، من أمثال أبي ذرّ وعمّار والمقداد، والكثير من الأعلام والعظماء.
فإذن: بمراتب اليقين يتمكّن الإنسان أن يتخلّص من الوساوس الشيطانية.
ولكن لعل قائلاً يقول: إن كان اليقين فضيلة، فكم من متيقّن سيحاسب يوم القيامة؛ لأنه تيقّن وجزم، وقلتم ــ وعلّمتمونا سابقاً ــ : أن اليقين وحجية القطع ذاتية لا تعلّل؟
نعم، اليقين حجّة، والقطع حجة، والحجية لـه ذاتية لا تعلّل، لكنّ المناشى‏ء ما هي؟ قد أحصل على اليقين لتقليد، أو لمتابعة سلف، أو لمتابعة نساء الأنبياء، أو لحضارة شخصية، أو اجتماعية، فما هي المناشى‏ء التي حصل بواسطتها هذا اليقين؟
فيجب أن نلحظ هذا أوّلاً حتى لا يكون يقيناً ناشئاً عن جهلٍ مركّب، فهل هذا اليقين الحاصل هو يقين على أسسه العلمية أم لا؟ فهذه الأمور أصبحت في الحوزات من الأمور البديهية الواضحة التي لا نتردد فيها.
فهناك ربما تتحقّق تلبيسات شيطانية، فمثلاً نقرأ في الحوزات: أنّ كلّ ممكن لابدّ لـه من علّة، ثمّ قد يقع الإنسان في خطأ، فيقول: إذن ما هي علّة ربّكم؟ وما هي علّة اللَّه تعالى؟ فإذا كان كلّ شي‏ء لابدّ لـه من علّة، وكلّ موجودٍ لابدّ لـه من سبب، فما هي علّة اللَّه سبحانه وتعالى؟ فيقع الإنسان البدائي في تردّد وشبهة: بأنّه إذا كانت هذه القواعد التي قرأناها حقاً فهي إذن سارية بالنسبة إلى الحق تعالى، فيصاب الإنسان هنا بوسوسة وترديد، وهاهنا الموضوع يقع فيه وساوس من قبل إبليس، وتقع مغالطات في المقام؛ لأنّه ما قال فقيه، ولا حكيم: كلّ شي‏ء محتاج إلى علّة، وإنّما الكلام كان في ميادين عالم الإمكان: كلّ ممكن حاجته إلى العلّة ضرورية بديهية، فعمّمها إبليس وأعطاها إطاراً وجودياً، وصاغها بصياغة علمية، فقال: كلّ موجود محتاج إلى علّة، فإذن اللَّه تعالى موجود من الموجودات يحتاج إلى علّة، فبطلت ادّعاءاتكم في مصداق من المصاديق، والقواعد العقلية لا تقبل التخصيص، فهكذا قد يتدخّل إبليس لصياغة مغالطةٍ من المغالطات.
ويأتي إبليس ــ مثلاً ــ فينظر إلى الإنسان المؤمن بفطرته التي تدعوه إلى العبادة والخضوع والطاعة، فيقول لـه: لابد إذن من عبادة، وأيّ عبادة أحسن من عبادة أمرٍ تشاهده وتراه، كصنم مثلاً، فأيّد العبادة وصاغها إلى محسوس، فأيّد العبادة وصاغها إلى ما لا ينفع ولا يضرّ، إذا لم يكن مضراً، فإن وجد هذا الإنسان أكثر استعداداً ساقه بعدها ليعبد هواه أيضاً.
يُسئل بعض الأصحاب الذين لهم حضارة عصرية: أنت مع حضارتك وعلمك كيف تعبد بقرة؟ فأجاب ذلك الرجل بكلّ اطمئنان وسكينة: نحن لا نعبد بقرة، لكنّ البقرة حيوان لطيف كلّه منافع لا أضرار فيه، فوجدناه مظهراً من مظاهر الخير والحق سبحانه وتعالى فعبدناه؛ لأنه الآية والمظهر الذي اجتمعت فيه الخيرات حتى في روثه، فضلاً عن حليبه.
أو يأتي إبليس لمشركي قريش أو غيرهم من المشركين ويقول لهم عن الأصنام: إنّها تقرّبكم إلى اللَّه زلفى، أو يأتي إبليس مثلاً فيقول لإنسان: إنّ كل أمرٍ يُصدّق به الشخص ويجزم به لابدّ من تصوره؛ لأنّ التصديق فرع التصور، والإنسان بطبيعة الحال يقرّ بمثل هذه المقدمات، فيقول: نعم، فيتدرج معه بعد ذلك قائلاً: فهل يمكن أن نتصوّر اللَّه سبحانه بعد دعوى أنه صرف وجود لا ماهية لـه؟ فيقول: لا، أنا لست بقادر أن أتصوّر اللَّه سبحانه وتعالى؛ لبداهة أن اللَّه تعالى لا يأتي في المدارك الإدراكية، فإذن ألزمك الشيطان بهاتين المقدّمتين، وأنت صدّقت وجزمت بأنّ التصديق فرع التصوّر، وسلّمت تسليماً آخر: أنّ اللَّه لا يتصوّر، فكيف عبدت ربّاً لم تتصوّره ولم تتمكّن من التوصّل إليه، فيبقى الإنسان في هواجس الشك والوسوسة متردّداً.
ويأتي إبليس أيضاً بقواعد ظاهرها منطقية، فيقول: بأنّ المعرّف إنّما يكون بالحدود، أو الرسوم، أو التعريف إنما يكون للشي‏ء بالجنس والفصل القريبين، أو يحدّد برسم الجنس القريب، أو الخاصة القريبة، ويقيناً أنّ ربّك لا يعرّف بتعريف؛ لأن التعاريف في ميادين الأمور المركّبة من جنس وفصل وخاصّة، فباب المعرّفات في المنطق سلّطت من أجل أن توصلك إلى ميادين المعرفة.
ثم يأتي إليك ويتكلّم معك بلسانٍ شيطاني آخر، ويقول: إذا كان اللَّه لا يعرّف، وهو الحجة والبرهان، والذي لا علّة له، فكيف تريد أن تقيم الحجّة من أجل أن تتوصّل إلى معبودك، وأنت تقول: إنّ المعرّف والحجة والعلل والمعلولات ميادينها لا تصل إلى ساحة قدس الحق تعالى، فإنّ اللَّه لا حجّة عليه، أي لا علّية لـه؟ فإذن أي ربّ تتكلّم عنه، حيث توقفت عنده كلّ السبل الاستدلالية المنطقية بتعاريفها وحججها، فإذن ما ندري ما تقصد من مثل هذه الكلمات حينما جئت لتدّعي ربوبية وخالقية، ولم تكن اعتقاداتك إلاّ تبعاً لموروث!
ويقول لك أيضاً: إنك تقرّ على أنّه بسيط الحقيقة، والبسيط أيضاً لا يعرّف بتعريف؛ لأنّ التعاريف في ميادين المركّبات.
نعم، إبليس يدخل من مثل هذه المتاهات، ويصوغ الباطل صياغة جميلة.
فنقول: لا تقام على الحق تعالى العلّية، ولا الحجّية، لكن يعرف بدليلين ــ كما قالوا ــ :
الدليل الأوّل: دليل الحضور، أي: أنّ كلّ إنسان بفطرته وسعة وجوده يكون الحق تعالى حاضراً لديه بأبعاده الوجودية، وسمّي بالعلم الحضوري، لا الحضور بمعنى إحاطة الإنسان بالحق سبحانه وتعالى؛ لأنّ العلم الحضوري الإحاطي مختصّ بالحق تعالى، وإنما هو علمٌ حضوري بمعنى: أنّ كلّ وجودٍ ــ على قدر سعته الوجودية ــ يكون مشاهداً للحق، وسمّي بدليل الصدّيقين، وهو مشاهدة الحق، لا المشاهدة بمعنى الإحاطة؛ لأنّها لا يدّعيها أحدٌ، وهذا ما يشار إليه بقولهم ــ وهم يتضرّعون إلى الباري تعالى ــ : متى غبت حتى تحتاج إلى دليل يدلّ عليك؟!([1][1]) بك عرفتك([2][2]) ، يا من دلّ على ذاته بذاته([3][3]) ، وقولـه تعالى: شهد اللَّه أنّه لا إله إلاّ هو ([4][4]) .
والدليل الثاني على معرفة اللامتناهي: هي الآثار، فالمعلول يدلّ على علّة، والمخلوق على خالِق، والمحكَم على حكيم.

نقول: لو أنّ إنساناً ابتلي بالوساوس، فأخذت الوساوس تهجم عليه من كلّ جانب، أو من بعض الجوانب، فأخذ مثلاً يتردد في صلاته وصحّتها، وفي وضوئه، وفي طهارته ونجاسته، فهل هذه الوساوس تترتب عليها أحكام ليعاقب عليها الإنسان، أو لا تترتّب عليها الأحكام الشرعية؟
هناك كلمات كثيرة: على أنّ اللَّه تعالى لا يعاقب على النيّة ــ بما هي نيّة ــ ما لم يكن لها مبرز خارجي، فمن نوى قتلاً لا يحاسب على قتل إذا لم يقدم على القتل، وهناك أدلّة تقول: إنّما الأعمال بالنيّات، وهناك أدلة وآيات تقول: إنّ اللَّه يحاسبكم على ما في قلوبكم، فما هو الجامع بين الأدلّة الدالّة على حساب الإنسان على ضميره ونـيّته، وبين الأدلة الدالة على أنّه لا حساب على ما لا يصل إلى مرحلة العمل الخارجي؟
فلابدّ وأن ننظر إلى هذه الجوامع، ولعلّ قاعدة حكميّة عقلية أيضاً تتدخّل هاهنا، وتقول: إنّ الوساوس خطورات قلبية، وما كان خاطراً قلبياً حصل بلا اختيار، وما كان بلا اختيار كيف يكون موطناً للتكليف؟ فإنّ التكاليف محلّها ما كان أمراً إرادياً اختيارياً، أمّا الأمور الخارجة عن الاختيار ــ التي تكون من خواطر النفس ــ فكيف تترتّب عليها الأحكام، واللَّه تعالى لا يكلّف بما لا يطاق، والتكليف على أمرٍ غير إرادي بحكم العقل غير صحيح؟
وربّ قائل في مقابله يقول: إنّ ما كان بالاختيار لا ينافي الاختيار، فيجب على الإنسان أن يكون بمرحلةٍ من الواقع ويسأل نفسه: أنه لمَ صارت نفسه محلاًّ للوساوس؟ وما هو المنشأ لأنْ تصبح بعض النفوس محلاًّ للخواطر الشيطانية، وهي الوسوسة؟ كما وأنّ هناك من النفوس ما تصبح محلاًّ للخواطر الرحمانية، وهي الإلهامات.
وسوف نفصّل هذه الأمور في المحاضرة القادمة، إن شاء الله تعالى.
والحمد للَّه ربّ العالمين.


www.alkhaghani.org

[1][1]ــ بحار الأنوار، العلاّمة المجلسي 64 : 142 ، من دعاء الإمام الحسين (ع) يوم عرفة.
[2][2]ــ الصحيفة السجادية، من كلمات الإمام زين العابدين (ع) : 214 / 116 دعاؤه في سحر كلّ ليلة من شهر رمضان.
[3][3]ــ بحار الأنوار، العلاّمة المجلسي 84 : 339 من دعاء أمير المؤمنين (ع) بعد ركعتي الفجر.
[4][4]ــ سورة آل عمران، الآية 18 .

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق