الخميس، 25 أبريل 2013

@ في إستشهاد الإمام علي عليه السلام



كتبت من محاضرة صوتية ألقاها الشيخ قبل سنين في الكويت

في هذه المحاضرة نخصّص الكلام حول ليلة (21) من شهر رمضان، وهي ليلة تعجز الأقلام عن وصف مأساتها، ويقف الكتّاب جميعاً ساكتين لا يتكلّمون ولا يقدرون على بيان ما حدث في مثل تلك الليلة، فقد وقعت فيها حادثة يعجز اللسان عن بيانها، ولو عرفت البشرية ماذا فقدت في تلك الليلة لعاشت الأحزان، فإنّا للَّه وإنّا إليه راجعون، ولا حول ولا قوّة إلاّ باللَّه العلي العظيم.
لقد وصل أمر الأمة إلى مرحلة تفتخر بجناية كبرى، فهي تفتخر بقتل نفس رسول اللَّه (ص) وهو علي (ع) ؛ وذلك بنص كتاب اللَّه تعالى: { فقل تعالوا ندع أبناءنا وأبناءكم ونساءنا ونساءكم وأنفسنا وأنفسكم...} ([1][1])، حيث اتّفق جميع المسلمين على أن المراد من أنفسنا هو الإمام علي (ع)، فكم ضاع الإسلام، وكم ابتعد المسلمون عن سيرة رسول اللَّه (ص) ؟
نعم، خمس وعشرون سنة ابتعدت مسيرة المسلمين عن منهج رسول اللَّه (ص) ، فهان عليهم ضياع الحقيقة والقيم، فبقي المسلمون مع صور وأسماء سمّوها، ما أنزل اللَّه بها من سلطان، لا يعرفون ولا يميّزون بين النور والظلمة، لقد ابتعد المسلمون حتى وصل أمر المسلم بأن يعبّر عن الطليق ابن الطليق بـ ( أمير المؤمنين) ، ويعبّر عن المكرة الناكثين والمارقين وما شاكلهم بـ ( ولاة الأمر) وبـ ( أمراء المسلمين) .
لقد حذّر الكتاب المجيد من أول خطوة يرفعها المسلم ويسير بها نحو الظلمات فقال: الحذر كلّ الحذر في بدايات الظلمة؛ فإنّها إذا استولت أصبحت الظلمة بأعين الناس نوراً، وأصبح الماكر مؤمناً، وأصبح الناس لا يميّزون بين رسالة السماء ورسالة الفراعنة على وجه الأرض، كما قال تعالى: { ومن شرّ غاسق إذا وقب} ([2][2]).
فإنّ هذه الأمة ابتعدت عن مسيرة رسول اللَّه سيد الكائنات حتى وصل الأمر بها أن اختلط عليها الأمر في مثل الحسين (ع) ويزيد بن معاوية، فابتعدت هذه الأمة وتبتعد يوماً بعد يوم عن مسيرة رسول اللَّه (ص) حتى إذا ظهر قائم آل البيت كما تحدّثت بذلك الروايات، فيقول لـه القائل: أجئت بدين جديد يابن رسول اللَّه؟
نعم، إنّه يأتي بدينٍ جديدٍ بعيد عن أذواق وعقليات ومعارف المجتمع؛ لأنّ المجتمع سمّى الظلمة نوراً، وسمّى الضلالة هدى، وسمّى الماكرين أمراء المؤمنين، فكيف يدركون ما يقوله مهدي هذه الأمة إذا جاء بشريعة رسول اللَّه (ص) وأراد أن يطبّقها على المسلمين وعلى البشرية؟
وهذه الأمة بعد خمس وعشرين سنة حينما أراد علي (ع) إرجاعها إلى شرع اللَّه تعالى صعب عليها ذلك، فكيف بها إذا أريد إرجاعها إلى شرع اللَّه بعد آلاف السنين على يد مهدي آل محمّد (ص) ؟
فخمس سنوات يحاول علي (ع) أن يطبّق الرسالة تطبيقاً عملياً، فيحكّم العدالة الإسلامية من بعد ما أصبحت بأيدي اللاعبين من الطلقاء وغيرهم وذلك حينما نسيت سبل الهدى والنور.
لقد كنّا نتكلّم عن سيرة علي (ع) ، ولسنا هاهنا نتكلّم عن قصص تمر، بل على كلّ مسلم ــ على قدر الإمكان ــ أن يطبّق نفسه مع سيرة علي (ع) التي هي مسيرة رسول اللَّه (ص) تطبيقاً وبياناً، فأين حكّام المسلمين ودعاة الحق من مسيرة علي (ع) حينما دخل البصرة وفي ميمنته الحسن (ع) ، وفي ميسرته الحسين (ع)، والراية الكبرى بيد ولده محمّد بن الحنفية، وهو واقف في القلب مع خلّص أصحابه يقاتل الناكثين؟ أين الذين يدّعون أنهم يسيرون بسيرة رسول اللَّه (ص) ولم يطبّقوا ما سار عليه رسول اللَّه (ص) ، وعلي (ع) ؟
أين دعوى ولاة المسلمين من الحقيقة والواقع الذي سار به
الرسول (ص) وهو يقاتل في صفوف المسلمين متقدّماً عليهم حتى قال
علي (ع) : ( كنّا إذا اشتدّ البأس وحمي الوطيس اتقّينا برسول اللَّه (ص) ولذنا به) ([3]
[3]) ؟
أين نحن من دروس الإسلام وواقعه؟ وهذا علي (ع) يتوجّه نحو صفّين، وإذا به يقف ويقسّم الرايات، ويقسّم الجيش ميمنة وميسرة، فيجعل الحسن في الميمنة، والحسين في الميسرة، وهو يتنقّل ما بين الصفوف ميمنة وميسرة وقلباً ؟
هذه هي دروس إسلامية نمرّ عليها في كلّ يوم وكأننا لم نقرأ ولم نَرَ، أين الذين يدّعون ما يدّعون وقد تجاوزت ادّعاءاتهم مسيرة الأنبياء والأوصياء؟
أين هم عن مسيرة رسول اللَّه (ص) ؟ والعارف يعرف والبصير يفهم، ولا يحتاج الأمر إلى بيان أكثر ممّا قلت.
فعلى المسلم أن يلمس الحقيقة بالعمل لا بالقول من المدّعين نهج رسول اللَّه (ص) وأهل بيته الكرام، فكم من فرقٍ بين قائل يتكلّم وكأنه يتكلّم فوق مستوى الأنبياء والأوصياء، وبين عامل يعمل ويطبّق الرسالة!
فعلينا أن نميّز بين المطبّقين وبين الخطباء على المنبر، ولا يتصوّر متصوّر أنّ الحسن (ع) ليلة ضرب علي (ع) كان نائماً في بيته، حاشاه ثم حاشاه، وكلاّ ثمّ كلاّ ؛ فإنّ الحسن نفس علي (ع) ، ولا فرق بين حسن وحسين ومحمد وجعفر وباقر، وإنّما تختلف الظروف والأيام والأماكن.
كان علي (ع) قد جهّز جيشه إلى صفّين، وقد نزل الجيش في النخيلة، وكان المسؤول عن تدبير الجيش الحسن والحسين، وكان من المقرر بمجرّد أن يصلّي علي (ع) صلاة العيد يتوجّه مرة ثانية إلى طاغوت من طواغيت الأرض تلبّس بلباس الدين والشريعة، فكان الحسن والحسين وبقية أولاد علي (ع) في النخيلة مع الجيش، يباتون ويعيشون هناك يدبّرون أمر الجيش المهيّأ للحرب بعد أسبوعٍ أو أسبوعين، فما كان الحسن (ع) لينام عن أمّة أكلتها الذئاب وافترستها السباع، لقد كان مستيقضاً، جالساً، مدافعاً عن شرع اللَّه القويم، فلا يتصوّر متصوّر: أن هناك فرقاً بين الحسن
والحسين
، واللَّه يعلم أنّ صبر الرجل الشهم العظيم حفظاً للإسلام والمسلمين لـه أعظم ضربة من قتل إنسانٍ عظيم شجاع مضحٍّ في سبيل اللَّه كالحسين (ع) في ساحة كربلاء، وليس بسهل على الرجل الشهم الشجاع أن يدخل عليه الداخل من أهل الولاء ويقول له: السلام عليك يا مذلّ المؤمنين([4][4]) .
وهذه كلمة لها ثقلها على رجال اللَّه، فهذه أشدّ من ضربة شمر بن ذي الجوشن للحسين (ع) ، وهذا الخطاب ليس لي ولأمثالي من ضعفاء النفوس، بل هذا كلام موجّه لسيد شباب أهل الجنّة، هذا كلام لرجلٍ تفانى في حبّ اللَّه وفي ذات اللَّه.
وقد يصل الأمر بالإمام علي (ع) أن يجلس في البيت خمساً وعشرين سنة، فأين تلك البطولات ليوم بدرٍ وحنين؟ وهو علي (ع) الذي كان مع الرسول (ص) ، وهو علي الذي بنفسه ــ حفظاً للإسلام والمسلمين ــ يجلس في بيته خمساً وعشرين سنة.
تأتي امرأة إلى علي (ع) وهو جالس يصلّي في المحراب، فتقول لـه: يا أمير المؤمنين، إنّ من وليته علينا ظلمنا في البصرة، وأخذت تبين لـه الأمر، فجلس في محرابه يبكي، وهو يخاطب ربّه: اللهمّ اشهد أنّي ما ولّيتهم ليظلموا عبادك، يبكي من كلمة امرأة؛ خوفاً من اللَّه تعالى.
وفي زماننا هذا تمرّ الظلامة تلو الظلامة، والجريمة تلو الجريمة، ونشاهدها في كلّ يوم، سواء تلبّست باسم التقوى والدين أو بألبسة أخرى، فلا تهزّ لأحد ضميراً، ولا تحرّك لـه غيرة على دين!
فإذن: يجب أن نعرف أنّا لم نقرأ اليوم قصصاً تاريخية، بل على المسلم أن يتدرّع ويعرف مسيرة الأنبياء والأوصياء من بعدهم، ولا نقول: إنّا إذا عرفنا مسيرة الأنبياء والأوصياء سنكون مؤمنين ومتّقين، لكن من عرف الحقّ والواقع تمكّن أن يقف أمام الماكرين، وعرف الخُطى التي ترفع بأسماء مختلفة لا ترتبط بشرائع السماء.
قال ابن عباس: أتيت علياً (ع) بعد مقتل عثمان فوجدت المغيرة بن شعبة مستخلياً به، فخرج من عنده المغيرة، فقلت له: ما قال لك هذا، أي المغيرة بن شعبة؟ قال علي (ع) : قال لي قبل مرّة ــ يعني قبل هذه الجلسة ــ : إنّ لك حق الطاعة والنصيحة، وإنّ حق اليوم تحرز به ما في غد، وإنّ الضياع اليوم يضيع به ما في الغد، أقرر معاوية وابن عامر وآل عثمان على أعمالهم حتى تأتيك بيعتهم، ويسكن الناس، ثم اعزل من شئت، فأبيتُ عليه ذلك، وقلت: لا أداهن في ديني([5][5]) .
وفرق بين تحكيم القانون وبين تحكيم السلطة والنظام.
وفرقٌ عظيم بين من يريد أن يطبّق منهجاً إلهياً وشريعة سماوية، وبين من يريد أن يحكّم نظاماً على وجه الأرض، فتحكيم النظام لـه سبله وطرقه، فمن أراد أن يحكّم النظام عليه أن يضرب بيدٍ من حديد وبأخرى يفتح باب الترغيب، فمن دخل بالترغيب لمالٍ أو جاهٍ أو مقام جلبه إليه، وإلاّ فكل مخالف يكون جوابه بحدّ السيف، وهذا يعرفه كلّ إنسان، وهو أمرٌ سار عليه جميع الحكام والخلفاء وأبناء الدنيا لتحكيم النظام القائم، والعجب أن ابن عباس يقول لعلي (ع): إنّه نصحك يا أمير المؤمنين.
نعم، إنها نصيحة للدنيا، كما يقول علي (ع)، ولكنّها تشويهٌ للشرع المقدّس.
فقال علي (ع): فأبيت، وقلت: لا أداهن في ديني، ولا أعطي الدنية من أمري، ثم قال علي (ع): قال لي المغيرة: فإن أبيت ذلك فانزع من شئت وابق معاوية، فإنّ معاوية فيه جرأة، وهو في أهل الشام يستمع إليه ولك حجّة في إثباته؛ فإنّه كان قد ولاّه عُمر، وولاه من بعده عثمان.
أجل، هكذا تقام الحجج من أهل الدنيا، فقال علي (ع): واللَّه لا أستعمل معاوية يومين، فهل تقام الحجّة بفعل زيد أو عمرو أو تقام الحجّة بفعل رسول اللَّه (ص) ؟ فقال علي (ع): ثم انصرف من عندي المغيرة وأنا أعرف فيه أنّه يودّ أنّي مبطل.
نعم، ذلك بناء على عقلية المغيرة، عقلية من كان من أبناء الدنيا، فإنّ علياً (ع) مخطى‏ء؛ لأنّه ما طبّق النظام السياسي الذي تسير عليه الحكّام، ثمّ قال علي (ع) : وقد عاد إليَّ الآن المغيرة فقال: إنّي أشرت عليك أوّل مرة وخالفتني فيه، ثم رأيت بعد ذلك أن تصنع الذي رأيت وتستعين باللَّه.
أنظر إلى كلمات الرجل الماكر كيف يتلوّن! يريد أن يتقرّب إلى عليّ (ع) حينما عرف أن لا هوادة عند علي (ع) بالنسبة إلى الظالمين، فجاء يتكلّم بكلام الأبرار والصالحين. ثمّ في زمان إمارة معاوية نرى هذا المغيرة يذهب إلى معاوية فيولّيه الكوفة.
ثم قال المغيرة لعلي (ع) : فقد كفاك اللَّه يا أمير المؤمنين بهؤلاء القوم، وهو يظنّ أنّه خدع علياً (ع) في الكلام الأول، وخدعه في الكلام الثاني أيضاً، وإنّما خدع نفسه.
فقال ابن عباس: فقلت لعلي: أما المرّة الأولى فقد نصحك.
انظر إلى تطابق العقل بين ابن عباس حبر الأمة والمغيرة بن شعبة، حينما تكون النظرة لتحكيم سبل السلطان على حساب شرع اللَّه تعالى!
( وأمّا في الثانية فقد غشّك) فأبى علي (ع) إلاّ عزل ولاة عثمان جميعاً، وقال لابن عباس: تشير عليّ وأرى، أنا أرى منهج الحق، وأرى أنّ الدنيا لا قيمة لها، وأرى أن ما تقوله يعز الإنسان في الدنيا ويذله في الآخرة؛ حيث قال: أمّا ما ذكرت من إقرارهم فواللَّه ما أشكّ أنّ ذلك خير في عاجل الدنيا لإصلاحها، وأما الذي يلزمني من الحقّ والمعرفة بعمّال عثمان فواللَّه لا أولّي أحداً منهم أبداً.
فقال علي (ع) لتطبيق العدالة: ( وإنّما أنا رجلٌ منكم، لي ما لكم، وعليّ ما عليكم ... وإنّي حاملكم على منهج نبيّكم (ص) ، ومنفذ فيكم ما أمرت به) ([6][6]) ، وقال أيضاً: ( ألا إنّ كل قطيعة أقطعها عثمان، وكل ما أعطاه من مال اللَّه، فهو مردود في بيت المال) ، فهذه نكبة ثانية لحكومة
علي (ع) في منظار أهل الدنيا، ( فإنّ الحق القديم لا يبطله شي‏ء، ولو وجدته وقد تزوّج به النساء، وفرّق في البلدان لرددته إلى حاله) ، فعلمت الأمة أنّ عظماءها وأشرافها الذين عاشوا في ضمن خمسٍ وعشرين سنة لابدّ وأن يؤخذ بهم إلى دكّة الحساب، فبهذا فقد علي (ع) الكثير الكثير من المجتمع.
ثم عقّب (ع) بقولـه: ( فإنّ في العدل سعة، ومن ضاق عليه الحق فالجور عليه أضيق) ([7][7]) .
وقال (ع) أيضاً: ( ألا لا يقولنّ رجالٌ منكم غداً قد غمرتهم الدنيا فاتخذوا العقار، وفجّروا الأنهار، وركبوا الخيل الفارهة، واتخذوا الوصائف الروقة، فصار ذلك عليهم عاراً وشناراً، إذا ما منعتهم ما كانوا يخوضون فيه، وأصرتهم إلى حقوقهم التي يعلمون، فينقمون ذلك، ويستنكرون ويقولون: حَرَمنا ابن أبي طالب حقوقنا ! ألا وأيّما رجل من المهاجرين والأنصار من أصحاب رسول اللَّه (ص) يرى أنّ الفضل لـه على من سواه لصحبته) ([8][8]) يعني: لا يتصوّر متصوّر منكم أنّه صاحب الرسول (ص) ، وهذا يكون سبباً لـه أن يُعطى من بيت المال أكثر من غيره، ثم قال: ( فإنّ الفضل النير غداً عند اللَّه، وثوابه وأجره على اللَّه ــ إلى أن قال: ــ فأنتم عباد الله، والمال مال الله، يقسم بينكم بالسوية، لا فضل فيه لأحدٍ على أحد ... وإذا كان غداً إن شاء الله فاغدوا علينا، فإنّ عندنا مالاً نقسمه فيكم، ولا يتخلّفنّ أحد منكم، عربي ولا عجمي) ([9][9]) ، فعرف الأشراف والمقرّبون من الحكام السابقين أنّه غداً سيعطى الأسود والأبيض على حدّ سواء، وسيعطى العربي كما يعطى الأعجمي، فكانت مشكلة عظمى تصادم معها علي (ع) .
ولمّا أنكر عليه البعض التسوية في العطاء، وأنها تؤجّج نار الفتنة، قال: ( أتأمروني أن أطلب النصر بالجور فيمن ولّيت عليه! واللَّه ما أطور به ما سمر سمير، وما أمّ نجم في السماء نجماً، لو كان المال لي لسوّيت بينهم، فكيف وإنّما المال مال اللَّه. ألا وإنّ إعطاء المال في غير حقّه تبذير وإسراف، وهو يرفع صاحبه في الدنيا، ويضعه في الآخرة) ([10][10]) .
ولمّا أتى علياً (ع) الخبر عن اجتماع طلحة والزبير وعائشة في مكة قام خطيباً، فقال: ( إنّ اللَّه عزوجل جعل لظالم هذه الأمّة العفو والمغفرة، وجعل لمن لزم الأمر واستقام الفوز والنجاة، فمن لم يسعه الحق أخذ بالباطل. ألا وإنّ طلحة والزبير وأمّ المؤمنين قد اجتمعوا على سخط إمارتي ودعوا الناس إلى الإصلاح، وسأصبر ما لم أخف على جماعتكم، وأكف إن كفّوا، وأقتصر على ما بلغني عنهم) ([11][11]) ، هذه كلمات علي (ع) حينما بلغه قيام جماعة مسلّحة احتلّت بلاداً، وتدعو الناس إلى محاربته، وهذا التاريخ أمام أعينكم راجعوه، فإن ولاة المسلمين إذا وجدوا مخالفاً عبّروا عنه بكافر، مرتد، وقتلوا الناس قبل أن يقوموا بأيّ عمل.
فكم من إنسانٍ قتل باسم الدين! وكم من عمل جور ارتكب على طول التاريخ باسم شرائع السماء!
أجل، هذا التاريخ أحسن شاهد، فراجعوه من رحيل رسول اللَّه (ص) حتى يومنا هذا.
في معركة صفين وعلي (ع) ينتقل من ميمنة إلى ميسرة، يحثّ المسلمين على مقاتلة معاوية، فعرف أهل الشام أنّ علياً وأنّ الخلّص من أصحابه في الميسرة، فكرّسوا كلّ جهودهم، وهاجموا جيش علي هجوماً عظيماً حتى فرّ الناس وبقي علي (ع) مع عددٍ قليل يقاتل الأعداء، فجاءه عبد اللَّه بن جعفر فقال لـه: يا عم، أما ترى ماذا صنع القوم وقد فرّ الناس؟ أما تخاف من الغيلة؟ أما تخاف من القتل؟ وكانت السهام تمرّ على
علي (ع) بين كتفيه، فقال لـه علي (ع): ( وإنّ عَليَّ من اللَّه جُنّة حصينة، فإذا جاء يومي انفرجت عنّي، وأسلمتني)
فأقول لقد جعل الله تعالى حصناً حصيناً ودرعاً عظيماً على رجال الحق إلى أن يؤدّوا ما عليهم من التكليف،
( فحينئذ لا يطيش السهم) ([12]
[12]) إلى آخر كلامه (ع) .
فمقصوده أنه في تلك الليلة الموعود بها إذا ذهب الحصن الإلهي عنه(ع) وعلم اللَّه تعالى أنّه قام بكلّ ما عليه من التكليف، وانتهى ما عليه، ذلك اليوم يكون يومه، فلا يطيش السهم عندها.
فإذن: على كلّ مومنٍ أن يعرف: أنّ كلّ إنسانٍ إذا جاء على وجه هذه الأرض فهو يحمل تكليفاً على عاتقه، فلو اجتمعت الجن والإنس على أن تقتل إنساناً يحمل أعباء رسالة ــ وإن لم يكن نبياً ولا وصيّاً ــ ما تمكّنوا على ذلك، وكانوا خاسئين، فلا يخاف المؤمن من إرعاب المرعبين، ومن تهديد المهدّدين، فمن جعل الرابطة بينه وبين اللَّه فليعلم أنّ لكلّ إنسانٍ يوماً فلا يتمكّن عليه أيّ إنسانٍ على وجه الأرض ولو اجتمعت عليه جبابرة الأرض جميعاً.
فهذا رسول اللَّه (ص) وقد أحيط به من قبل قريش، ومشركي العرب واليهود، وأخذت تتراكم الأمور يوماً بعد يوم حتى أحيط به بواسطة كسرى وهرقل، فاجتمعت عليه البشرية وهو في عددٍ قليل من المؤمنين، فلمّا أراد اللَّه حفظه ونصر المؤمنين نصرهم وأذلّ جبابرة الأرض.
فلا يتصوّر متصوّر أنّ الإنسان جاء على وجه هذه الأرض ليأكل ويشرب وتنتهي الأمور، فمادام يحمل رسالة، ولا أقول: رسالة بمعنى أنه مشرّع، فمادام يحمل بياناً لشريعة رسول اللَّه (ص) ، وكلّ إنسانٍ بقدره، فلو اجتمع عليه الشرق والغرب ليزيلوه عن مقامه لما تمكّنوا من ذلك حتى ينتهي ما عليه من التكليف، فإذا انتهى ما عليه من بيان يختاره اللَّه تعالى للقياه، وأحسن سبيل هو الشهادة.
ومهما نتكلّم في حقّ علي (ع) فهو قليل، لكن نتكلم بقدر عرفاننا، وإن شاء اللَّه في المحاضرات المقبلة نرجع إلى بحوثنا السابقة.
والحمد للَّه ربّ العالمين.


[1][1] ــ سورة آل عمران، الآية 61 .
[2][2] ــ سورة الفلق، الآية 3 .
[3][3] ــ شرح نهج البلاغة، ابن أبي الحديد المعتزلي 13 : 279 .
[4][4]ــ مناقب أمير المؤمنين ، محمد بن سليمان الكوفي 2 : 128 ، ح 614 ، والاختصاص، الشيخ المفيد: 82 .
[5][5]ــ أنظر: الفتنة ووقعة الجمل، سيف بن عمر الضبي: 97 وما بعدها، وتاريخ الأمم والملوك، ابن جرير الطبري 3 : 459 .
[6][6]ــ شرح نهج البلاغة، ابن أبي الحديد المعتزلي 7 : 35 ، فصل فيما كان من أمر طلحة والزبير عند قسم المال.
[7][7] ــ شرح نهج البلاغة، ابن أبي الحديد المعتزلي 1 : 269 ، عن ابن الكلبي.
[8][8] ــ شرح نهج البلاغة، ابن أبي الحديد المعتزلي 7 : 35 فصل فيما كان من أمر طلحة والزبير عند قسم المال.
[9][9] ــ المصدر نفسه.
[10][10]ــ نهج البلاغة، شرح محمد عبده 2 : 6 ، خطبة رقم 126 من كلامه لما عوتب على التسوية في العطاء.
[11][11]ــ الفتنة ووقعة الجمل، سيف بن عمر الضبي: 108 ، وتاريخ الأمم والملوك، ابن جرير الطبري 3 : 465 في استئذان طلحة والزبير علياً.
[12][12] ــ نهج البلاغة، شرح محمد عبده 1 : 108 ، خطبة رقم 62 من كلامه لما خوّف الغيلة.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق