(التوبة)
كتبت من محاضرة صوتية ألقاها
الشيخ في الكويت قبل سنوات
من جملة الأسئلة السؤال عن مسألة التوبة، هل أن التوبة ترفع
جميع ما تقدم من الذنوب وتجعل الذنوب جميعا بحكم العدم أو أن التوبة ليس فيها ذلك
الدليل الذي يدل على ذهاب كل ما تقدم، الروايات الواردة المنسوبة إلى الرسول (ص)
تقول: (التائب عن ذنب كمن لاذنب له) فإذا كان التائب عن ذنب كمن لاذنب له فهل
المراد من هذا على أن بالتوبة تصبح الذنوب معدومة زائلة عن النفس أو أن المراد
بذلك أن الأمر يرجع إلى حكم شرعي وإذا رجع الأمر إلى حكم شرعي فلا يكون مرتفعا
إلاّ ما رجع إلى الشرع أي أن ما كان من الأحكام مترتبة على الذنوب، الله تعالى
بلطفه يجعلها كالعدم فالذي يرجع هو الحكم أم الواقع فلا يكون مرتفعا لأن الذي يرجع
إلى الشارع هو الأمر الشرعي وهي الأحكام فمن تاب عن أي معصية لله تعالى من باب
اللطف الإلهي بالعباد يرفع الأحكام المترتبة على ما ارتكب من الآثام والذنوب أما
ما كان أمرا تكوينيا وهي ظلمة النفس بواسطة الذنوب التي ارتكبها الإنسان فليس من
المعقول أن تكون مرتفعة فنقول أولا وقبل كل شيء ما المراد من التوبة؟
تاب أي رجع
فالتوبة رجوع إلى الله سبحانه وتعالى وإذا كانت التوبة رجوعا إلى الله تعالى فهل
المراد منها أنها توبة في مقابل ذنب أو هي أعم من ذلك؟
مما لاشك فيه أن
التوبة لا تقيد بذنب فلعل المرتكب لذنب كترك واجب أو إقدام على محرم يتوب من هذه
الذنوب فيسمى تائبا ولعل التارك لسبل المغضوب عليهم والضالين المتوجه إلى الصراط
المستقيم يسمى تائبا لأنه ترك فرق الضالين وترك فرق المغضوب عليهم وتوجه إلى
الصراط المستقيم فيسمى أيضا بالتائب وكذلك من سار بحسب خطى النفس من المسولة
والنفس الأمارة بالسوء والنفس اللوامة إلى النفس المطمئنة يسمى تائبا لأنه سار
بخطى الكمال من مرحلة إلى مرحلة أخرى حتى وصل إلى النفس المطمئنة، النفس ما دامت
حية تؤنب الإنسان وتلومه على كل ذنب وخطيئة لكن إذا وصلت إلى مرحلة توجه الجرائم
بعنوان الحسن والطيب تسمى مسولة فإذا تمكن أن يطهر النفس من هذه المراحل النفسية
حتى وصل إلى مرحلة النفس المطمئنة يكون أيضا تائبا من مرحلة عائدا إلى ما أراد
الله تعالى وهي النفس المطمئنة وهكذا ربما لا يكون ذنبا فمن سار من علم اليقين إلى
عين اليقين وإلى حق اليقين يسمى تائبا.
سير في مراتب
اليقين،علم اليقين معرفة الحقائق بالدليل والبرهان ثم قد تترقى النفس من معرفة
الحقائق بالدليل والبرهان إلى مرحلة عين اليقين لتصبح تشاهد الحقائق مشاهدة وهو
سبيل العرفاء والأول هو سبيل الفلاسفة للوصول إلى الحقائق ثم بعد مرحلة من الزمن
ورياضة نفسانية مستمرة تتوصل النفس إلى حق اليقين أي تصبح مثالا لتجسيد الشريعة
بعلمها وعملها وهذه أيضا توبة لكنها ليست توبة من ظلمة إلى نور وإنما هي سير في
خطى النور مرحلة بعد مرحلة أخرى، التوبة يقينا تحتاج إلى الندم ومن لايكون نادما
لا يسمى تائبا وهي تتوقف على شروط فمن رأى من نفسه توبة إلى الله تعالى وهو اغتصب
مالا ولم يرجع ذلك المال فهو كاذب في توبته، من استدان من أناس مالا ولم يرجعه فهو
كاذب في توبته من ادعى التوبة وما قضى صلاتا فائتة فهو كاذب في دعواه.
فإذن التوبة
بشرطها وشروطها ومن جملة شروطها أن يصلح ما أفسد فلو كان اتهم شخصا بأمر فأذهب
كرامته والآن يريد أن يتوب من شرائط التوبة أن يسعى من أجل إعادة كرامة من هتك
كرامته أو من افترى عليه أو من اغتابه و....
الآية الشريفة
تقول (إنما التوبة على الله للذين يعملون السوء بجهالة ثم يتوبوا من قريب) الكثير
يظن أنه لو ارتكب الجرائم والآثام سنين طوال ثم تاب تقبل توبته وهو عارف بأنه
ببصيرة ودراية تامة يرتكب الآثام فهل تعتبر هذه توبة، كلمة إنما تشير إلى أن كلمة
التوبة لا تكون لكل لاعب، الله تعالى لا يفتح الأبواب أمام المتلاعبين لكي يرتكبوا
كل جريمة وإذا وصلوا إلى سن العجز أظهروا الندامة والتوبة وهناك أحاديث عن الإمام
الصادق (ع) يسئله السائل يبن رسول الله هل من الممكن أن يرتكب الإنسان الآثام تلو
الآثام ثم إذا بلغ من السن مبلغا وعجز عن ارتكابها تاب إلى الله قال (ع): لن
يوفقوا، وكلمة لن نافية ولعلها تشير إلى نفي أبدي لأن الإنسان الذي يعمل السيئة
بمعرفة ودراية فإذا وصل إلى مرحلة من العمر حاول أن يتراجع، وحاول أن يظهر التوبة
ولو كان في باطنه مريدا لها يقول الإمام الصادق (ع) إنه لن يوفق لأن القلب إذا قسى
والنفس إذا اسودت بالآثام من الصعب أن يتمكن الإنسان أن يرجع قساوة القلب إلى
اللين وأن يرجع سواد النفس والقلب إلى البياض مرة ثانية، فالكثير من هؤلاء الذين
يرتكبون الآثام ويرتكبون الفسق والفسوق والعدوان يظنون أنه بعد سن طويل حينما يصلون
إلى التقاعد والكبر يرجعون إلى الله، فالكثير منهم شاهدناهم يصلحون خطأ بخطأ آخر،
يأتي وبدون معرفة ولا علم يؤيد جمعا أو جمعية يظنها مؤمنة وهو يؤيد جمع المنافقين
والمنحرفين لأنه بعد هذا السن يريد أن يعود إلى الله تعالى بجهل ومن شرط التوبة
العلم، الخشية من الله تعالى لا تكون إلا للعلماء فكيف يتمكن آثم قضى حياته في
الظلمات حينما عجز يريد أن يرجع إلى الله مرة ثانية ويظن أن بكثرة صلاة وصوم أصبح
من التائبين والراجعين إلى الله تعالى فلعله اشترك في مسجد يكثر الصلاة فيه وكان
إمام المسجد من أمثال الحجاج بن يوسف الثقفي ، ولهذا السبب يقول الإمام الصادق (ع)
لن يوفقوا.
هناك رواية ترتبط
بمحل بحثنا وهي (حسنات الأبرار سيئات المقربين) إذا اعتبرت حسنات الأبرار سيئات
بالنسبة للمقربين ويقينا يلام الإنسان على السيئة فإذا كانت حسنات الأبرار تعتبر
سيئة بالنسبة للمقربين فلابد أن نلتفت على أن المراد من التوبة هي العود إلى الله
باختلاف مراتب العائدين فتوبة رسول الله (ص) ليست توبة عن ذنب كما يتصور الجهال،
بل كل إنسان توبته بما تناسبه، التائبون في المراتب العالية هم الذين يرجعون عن كل
ما سوى الله إلى الله تعالى وليس معنى هذا أنهم يعيشون عزلة وزهداً بل معناه أنهم
يستخدمون كل شيء يوصلهم إلى الله تعالى.
فمن استخدم
الجماهير للوصول إلى دعوة حق أو استخدم الأموال أو استخدم كل أداة جعلها الله
تعالى على وجه الأرض لكي يتوصل بها إلى الله ويخدم شرع الله كان يسير في ركاب الحق
فما يرجع إلى الله يرفعه الله تعالى في التوبة وما يرجع إلى النفس يحتاج إلى طهارة
وسير وتكامل بالعلم حتى يتمكن أن يصل من مرحلة إلى مرحلة أخرى.
كأن قائلا يقول
إذن ما يرجع إلى العباد لا تفيد في حقه التوبة؟ اغتصب أموالا فذهب إلى من اغتصب
الأموال منه فامتنع من براءة ذمته وهو ليس قادرا أن يرجع الأموال من بعد ما أضاعها
بشهواته، إدّعى على الإنسان بطلانا وإفتراءاً والآن يريد أن يتوب وقد مات من افترى
عليه، كيف يتمكن أن يتدارك ما تجاوز من الأمر، شهد شهادة باطلة ساقت إنسانا إلى
قتل، وآخر إلى جلد وثالث إلى انتهاك حرمات، وحصل على الكثير من المهانات بواسطة
شهادة باطلة من هذا فأين موضع التوبة من مثل هذه الحقوق التي ترجع إلى خلق الله
تعالى ولاترجع إلى الله سبحانه، لو كان حكما لرفعه الله أما ما كان يرجع إلى
العباد فما هو حكمه؟
هناك روايات تقول
إن الله تعالى يوم القيامة إذا وجد من عبده توبة نصوحة بشرطها وشرائطها ومن جملة
شروط التوبة أن يكون عارفا بالمعروف وعارفا بالمنكر حتى يبتعد عن المنكرات ويتقرب
بالمعروف وحتى يحقق ما أفسد فإذا عمل بكل موجبات التوبة عملا صحيحا سالما لكن ماذا
إذا الطرف الثاني ما أبرءه الذمة أو أنه مات أو .........
هناك روايات تقول
إن الله تعالى يوم الحساب يقول للشخص الثاني الذي افترى عليه هذا، يا فلان أخيّرك
بين أن يدخل النار ويعذب وبين قصر وحور لك فإن وجده لا يرضى زاده في العطا وهكذا
يزيده في العطا حتى يرضى فإن الإنسان لعله يتصور أن يوم القيامة يعيش بروحية عالم
الدنيا، في عالم الدنيا لعله لا يرضى لو أعطاه الدنيا بما فيها، يقول آذاني ولابد
أن يؤذى، قتل ولدي لابد وأن يقتل، اتهمني لابد وأن يجازى بعمله أما في يوم القيامة
فإن كل إنسان لا يفكر إلا في نفسه وفي خلاص رقبته من النار والحساب فإذا وجد أن
إدخال من اعتدى عليه لا يثمر ثمرة إليه فيرى على أنه يأخذ من الله ما يعطيه من
الثواب وما يعطيه من النعيم ويتجاوز عن الآخرين وكل إنسان بعد ذلك يقول له الله
تعالى إن عفوت عن عبدي الذي تاب توبة نصوحة أنا أعفو عن ذنوبك فكيف يبقى مصرا وهو
يخيّر بين أمرين بين أن يدخل عدوه إلى النار ولا يحصل على ما وعده الله تعالى من
القصور وما وعده من العفو عن ذنوبه، لا أظن أن أحدا يوم القيامة يبقى مصرا بعد كل
هذه الكلمات فإذن الحسنا يذهبن السيئات إذهابا حُكميا من قبل الله تعالى وإذهابا
للنفس بتزكية النفس لإذهاب ظلماتها وبالعلم حتى تصبح نيّرة بالعلم طاهرة والله سبحانه
يوم القيامة لا يترك عبده الذي رجع إليه رجوعا صحيحا سالما بطهارة نفس إلا وأن
يرضى خصمه بكيفية من الكيفيات والحمد لله رب العالمين.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق