المحاضرة 8
كتبت من محاضرة صوتية ألقيت في
الكويت قبل سنين
في هذه المحاضرة نخصّص البحث
عن إمام المتقين (ع) ، وسيرته، وما مرّ به (ع) من أدوار مختلفة كانت تطبيقاً لسيرة
رسول اللَّه (ص) ، فأبى اللَّه تعالى إلاّ وأن يسلّط علياً (ع) فترة من الزمن حتى
تأخذ الرسالة بواقع نهجها العملي، لكي تكون بياناً وتطبيقياً للشريعة
لتعرف الاجيال ذلك ، قال تعالى: { والذين جاهدوا فينا لنهدينّهم سُبُلَنا} ([1][1])، فمن شاء أن يهتدي فتح
اللَّه تعالى لـه باب الهداية، بشرط أن يكون صادقاً في دعواه، جادّاً بلا عصبية،
ولا بمتابعة السلف، حتى يتمكن أن يرى نور الهداية، ويرى الواقع التطبيقي لسنّة
رسول اللَّه (ص) بعدما رحل الرسول (ص) إلى الرفيق الأعلى.
ولو أنّ إنساناً واحداً يهتدي
حقّاً بهدي الرسالة لكانت به الكفاية، ولو ظلّت البشرية جمعاء بسوء اختيارهاتعيش
سبل الضلالة والغواية.
إنّ اللَّه تعالى بعث
الأنبياء وجعل الأوصياء من بعدهم لمن شاء الهداية والسير على نهج الأنبياء، ليكون
الباب مفتوحاً لمن شاء أن يتعلّق بحبل اللَّه المتين، وحبل اللَّه المتين هو
الرسول الأعظم وأهل بيته الكرام، فمن أخذت به الأهواء لم يضرّ اللَّه شيئاً،
وإنّما يضرّ نفسه.
فعلينا أن نكون حقّاً من شيعة
علي (ع) ، ولا نكون كما قال القائل: قلوبهم معك وسيوفهم عليك، فإنّ أهل الكوفة كان
أكثرهم يعتقدون بإمامة علي (ع) وأهل بيته الطاهرين، لكن لما جاء دور الاختبار
العملي وجاء دور التطبيق إذا بهم يقدّمون الدنيا على الآخرة، فهم يعتقدون ــ بكلّ
واقعهم ــ أنّه أين الحسين بن علي، وأين تلك النخبة الطاهرة في كربلاء من ابن
مرجانة ويزيد بن معاوية؟ فما كان يخفى الأمر على أهل الكوفة أبداً، بل وما كان
يخفى الأمر على مَن هو أقل منهم في معارف الشرع القويم، لكن لمّا وقع النزاع بين
الدنيا والآخرة قدّموا الدنيا على الآخرة.
لقد مرّت على علي (ع) ثلاث
وعشرون سنة وهو يدافع ويجاهد بكلّ بسالة في كلّ ساحات الجهاد والنضال في سبيل
اللَّه، فهذه السنوات قضاها من أجل إثبات الرسالة، وتنزيلها مع الرسول الأعظم (ص)
من أجل أن تبسط الرسالة على وجه الأرض، فكان مع رسول اللَّه (ص) في جميع الشدائد،
حتى ورد النصّ عن رسول اللَّه (ص) : ( ما قام الدين واستقام
إلاّ بسيف علي (ع) وأموال خديجة) ([2][2]) ، وما كان لزيد أو عمرو في
ميدان الجهاد ذكر حينما كانت المعارك تحتدم، وحينما كان عمرو بن ود وأضرابه يتحدّى
المسلمين قائلاً :
ولما انتهى دور تنزيل الرسالة
وبسطها على وجه الأرض وإذا برجالات عديدة بعدما تمّ الأمر أخذوا يدّعون ما يدّعون،
وأخذ كتّاب الأحاديث ينسبون إليهم ما ينسبون، فكم من قلم مأجور، وكم من قلم لا
يعرف اللَّه ولا يعرف يوم القيامة، وكأنّه ما مرّ بقوله تعالى: { وقفوهم إنّهم
مسؤولون} ([4][4]) راح ليتلاعب من أجل الدنيا
بحقائق الأمور! فأخذت الأقلام المأجورة تسطّر أحاديث وتبثّها في عهد ماكرٍ وهو معاوية
بن أبي سفيان، فأخذ يبثّ الأحاديث يوماً بعد يوم، واشترى الرجال، وكان بكلّ صراحة
من القول يقول لبعض ولاته: بكم اشتريت من فلانٍ دينه، فاشترى من عمرو بن العاص
دينه بمصر، واشترى الكثير من رجالات الإسلام دينهم، إمّا بولاية أو بمالٍ أو هدايا.
فثلاث وعشرون سنة وقف علي (ع)
أمام المشركين والكفرة والمرتدّين، وجاهد تحت راية رسول اللَّه (ص) حتى ذلّت
الجبابرة، وحتى خضعت قريش وانتهى جبروتهم، ثم لمّا تكاتفت أيادي النفاق مع أيادي
الجهل يسقط علي (ع) في محرابه قتيلاً.
فما سقط أمام طاغوت، ولا
جيشٍ، وما انهزم يوماً من الأيام حتى تمّ عهد رسول اللَّه (ص) ، فتكاتفت الأيدي
تحت راية الضلالة يجمعها جامع المصلحة ضد علي (ع) ، وقد كان الرسول (ص)
يحذّر الأمة كلّ يومٍ من المنافقين، ويحذّر الأمة من الجهلة الذين يتلبّسون بلباس
الدين، فلمّا خلت الساحة لهم تكاتفت أيدي الجهل والنفاق، ولما تكاتفت سقط علي (ع)
في محرابه شهيداً بواسطة مَكَرة الأرض الذين يتلبّسون في كلّ يومٍ بلباس، وبواسطة
الجهّال الذين لا يعرفون ماذا يقولون، وماذا يفعلون؟
أجل، قد وصل الأمر بهذه الأمة
ــ لمّا ابتعدت عن سيرة الرسول (ص) ــ إلى أن يفتخر عبد الرحمن بن ملجم المرادي
بقتل علي (ع)، فهو يفتخر في قتل من قال رسول اللَّه (ص) في حقّه: ( علي مع الحق
والحق مع علي) ([5][5])، ويفتخر بقتل رجل قال الرسول
(ص) في حقّه: ( أنا مدينة العلم وعلي
بابها) ([6][6])، وقال في حقّه أيضاً: ( أنت منّي بمنزلة هارون من موسى إلاّ أنّه لا نبي بعدي) ([7][7]). وكيف يفتخر بقتل رجل نزلت الآيات في حقّه، وقد كان ولياً بنص الكتاب المجيد، وكان وصياً وإماماً ووزيراً لرسول اللَّه (ص) ؟ حتى وصل حال الأمة أن يقف علي (ع) في مقابل رجلٍ ماكر طليق بن طليق، من المؤلّفة قلوبهم، كمعاوية، وهذا التاريخ السنّي يثبت أن رسول اللَّه (ص) لمّا قسّم الأموال في غزوة من الغزوات أعطى معاوية بن أبي سفيان، وقال: إنّه من المؤلّفة قلوبهم.
بابها) ([6][6])، وقال في حقّه أيضاً: ( أنت منّي بمنزلة هارون من موسى إلاّ أنّه لا نبي بعدي) ([7][7]). وكيف يفتخر بقتل رجل نزلت الآيات في حقّه، وقد كان ولياً بنص الكتاب المجيد، وكان وصياً وإماماً ووزيراً لرسول اللَّه (ص) ؟ حتى وصل حال الأمة أن يقف علي (ع) في مقابل رجلٍ ماكر طليق بن طليق، من المؤلّفة قلوبهم، كمعاوية، وهذا التاريخ السنّي يثبت أن رسول اللَّه (ص) لمّا قسّم الأموال في غزوة من الغزوات أعطى معاوية بن أبي سفيان، وقال: إنّه من المؤلّفة قلوبهم.
فخمس وعشرون سنة سكت الإمام
علي (ع) ؛ لعدم الناصر والمعين، وإن كان يبيّن الحق والرسالة في كلّ يوم لمن أحب
البيان والعرفان، أو لإقامة الحجة على الأمة، فسكت عن حقّه المسلّم؛ لتوحيد صفوف
المسلمين حينما رأى أنّ أيّ حركة وأي كلام قد
يؤدي الى عودة كثير من الناس الى الجاهلية ,و
الحال أن الناس ما دخلوا في الإسلام أفواجاً إلاّ بفتح مكّة المكرّمة، وكان
فتحها في السنة التاسعة من الهجرة، وقد رحل الرسول (ص) في السنة الحادية عشر من
الهجرة في بدايتها، فليس بين الانتصار والفتح وبين رحيل الرسول إلاّ سنتين أو أقل
من ذلك.
فلمّا رأى عليّ (ع) أنّ أيّ
كلمة حقّ قد تشقّ صفوف الأمّة، وقد تكون سبباً للردة التي تحقّقت بوادرها في عهد
رسول اللَّه (ص) ، وقد يقوى بها مسيلمة وسجاح والأسود العنسي وطليحة، فصبر خمساً
وعشرين سنة؛ لتوحيد صفوف المسلمين، لكن اللَّه أبى إلاّ أن يرسم خطى الإسلام من
بعدما اندثرت مرة ثانية؛ لتقام الحجة على البشرية كافّة، فشاءت المشيئة الإلهية
بأن يتسلّط علي (ع) على هذه الأمة حتى تختبر الأمة: أهي صادقة في دعواها على عثمان
أم كانت تتنازع الأموال والثروات، ودفعها الخلاف ضد عثمان حسداً وطمعاً في
الرياسات التي خصّصها عثمان في بني أمية؟ فكشف اللَّه سرائر الأمة حينما سلّط
علياً (ع) بأن نزاعهم مع عثمان ما كان نزاعاً لشـأن
إلهي، وإنما كانوا ينازعون عثمان على تقسيم الأموال، وعلى الهدايا
والزعامات، وما شاكل هذه الأمور.
فأراد اللَّه أن يثبت للأجيال
أن الأمة ما ضجّت على عثمان لأنه انحرف عن المسيرة، وإنّما ضجّوا على عثمان بسبب
المناصب التي خصّصها لبني أمية، فكان ضجيج الأمة قد تلبّس بلباس الدين، فكان
النزاع في الحقيقة بين باطل وباطل آخر، فهو نزاع مصالح: بين قوي وضعيف، وليس بنزاع
حقّ وباطل؛ غَيْرةً على دين اللَّه تعالى.
ولمّا كان علي (ع) يعرف روح
الأمة، وأنها ما كانت يوماً من الأيام متأثّرة لما حصل من الانحراف عن منهج
الإسلام، وللطبقية التي جاء بها الخليفة الثاني لولا أنها تضرّ ببعض المصالح
الشخصية، وما كانت الأمة قد ضجّت يوماً من الأيام لمّا تُعدّي على أعراض المسلمين
كما حدث في مسألة خالد وزوجة مالك بن نويرة، وقد أخذ خليفة المسلمين يتلاعب
بالمقاييس، فيزني الزاني بنساء المسلمين في ليلة قتل أزواجهن، والخليفة يوجه الأمر ويدافع
عن الزناة، واللَّه يعلم أنّ الأمة ما تأثّرت على حقٍّ أضيع، ولا على مسيرة لرسول
اللَّه (ص) حرّفت.
فأين كان المسلمون حينما
تعدّي على أعراض المسلمين باسم الإسلام؟ وأين كان المسلمون حينما أخذت كلمة الكفر
والإلحاد تنسب إلى كل مخالف للسلطة؟ وهذا علي (ع) بكلّ صراحة يقول: لا تقولوا لأهل
الشام: كفرة، ولا تقولوا للخوارج: كفرة، ولا تقولوا لأهل الجمل: كفرة، ففرق بين
الكفر والفسق، فما نسب لمخالفيه الكفر ولا الإلحاد، وإنّما قال: إنّهم خرجوا عن
الطريقة، ومن خرج عن الطريقة كان فاسقاً، وعليكم بمراجعة التاريخ الإسلامي من وفاة
رسول اللَّه (ص) إلى يومنا هذا، فكلّ من تقمّص قميص الخلافة وتصدّى لأمور المسلمين تراه ينسب
الكفر والخروج عن الدين لكلّ من خالفه، فقد اتّهم مالك بن نويرة بالكفر، وإن كان
التاريخ يشهد على أنّ الرجل خالف في إعطاء الزكاة إلاّ لمن بايعه يوم غدير خمّ،
وتنازل عن ذلك لمّا رأى المؤامرة تخطّط ضدّه، وهذا التاريخ يشهد أيضاً بأن صحابياً
من أكابر الأنصار من بعدما خالف الشيخين في السقيفة، ومن بعدما ضُرب، يقتل من بعد
فترة من الزمن، وإذا بالأمة الإسلامية تقبل أنه قُتل بواسطة الجن.
فأين هذه الأمة عن مسيرة رسول
الله ونبيّها؟ وكيف تأمن الأمة من شرّ الأعداء وهي تعيش الجهل والحقد
فيما بينها أكثر من حقدها على اليهود، وأكثر من حقدها على الشيوعيين في الأرض
وأعداء هذه الأمة من المستعمرين؟ وأجزم: أنّ الحقد الدائر بين الفرق الإسلامية
أشدّ من الحقد الدائر بينهم وبين الكفرة، فهاهم يجلسون مع الكفرة، ويحملون كلّ
الود للكفرة والمجرمين والمستعمرين، ويتعاونون مع الذين أيديهم ملطّخة بدماء المسلمين،
ومن لم يصلح نفسه لا يتمكن من إصلاح الآخرين.
نعم، المشيئة الإلهية اقتضت
أن يحكّم اللَّه علياً (ع) ؛ ليرسم الخطى الإسلامية، ولذا كان يصرّ (ع) ثلاثة أيام
على عدم قبول البيعة والخلافة لنفسه؛ لأنّه كان عالماً بأعماق الأمة الإسلامية،
فالأمة التي اعتادت أن تسكت عن ظلامة المظلوم، والأمة التي اعتادت على التقسيمات
اللاشرعية بأخذ حقوق الآخرين، والتي اعتادت ــ أيضاً ــ أن تنظر إلى إمام جماعتها
في مسجد الكوفة يتقيّأ الخمر وهي تصلّي خلفه صلاة الجماعة، ثم ينظر الوالي للأمة
الإسلامية وإلى المجتمع الإسلامي فيقول لهم: الآن ارتحت، فإن شئتم المزيد أزدتكم،
فأنا قادر على أن أصلّي بكم صلاة الصبح عشر ركعات، فحالي تساعدني على ذلك، ثم يشهد
عليه الشهود من بعض المؤمنين، وتضطرب الكوفة على شارب خمر من بني أمية، فيجبر
الخليفة عثمان على عزله، ويدعوه إلى المدينة المنورة، ويحاول خليفة المسلمين أن لا
يحد الوالي لشربه للخمر؛ لأنه من الأسرة الحاكمة، فأين رجالات المسلمين حينما قال
علي (ع) : فليقم أحدكم ويحدّ هذا، أي شارب الخمر، حينما تقاضى عثمان عن حكم اللَّه
في بني أبيه، وإذا بالأمة طلباً لمرضاة الخليفة كلّهم يسكتون، ولم يقدم على ابن عم
الخليفة قادمٌ أبداً، فقام علي (ع) وحدّه أمام الناس.
فإذن: الأمة ما كانت متأثّرة
من عثمان لأنه بدّل أو حرّف، بل تأثرت الأمة على مصالحها الشخصية بأنه لماذا خصّص
الخليفة المناصب في بني أمية، وهذا نزاع شخصي، وإن كان قد أصبح عثمان جواداً
كريماً على حساب الضعفاء من المسلمين، فخمس سنوات مريرة شديدة وصعبة أيام خلافة
علي (ع) تكاتفت فيها أيدي مختلفة من الظالمين، كأيدي طلحة والزبير وعائشة حينما
علموا أنّ بخلافة علي (ع) لا تكون لهم ما يطمعون فيه من الدنيا، وهم من الذين
حرّضوا على عثمان. وكذلك عائشة، وما أدراك ما عائشة! فكم حرّضت على عثمان سنين
طويلة، وسمّته ( نعثلاً) أي الرجل الأحمق الخرف، وقالت: ( بَعدُ لم يبل قميصُ رسول
اللَّه وقد أبلى عثمان سنّته، اقتلوا نعثلاً ؛ فإنّه قد كفر) ([8][8]) ، فهذه كلمات تواترت في
التاريخ عن عائشة، لكن لمّا كانت القيم قيماً قبلية وليست بقيم إسلامية، ولمّا خرج
المسلمون عن قيمهم التي كانت: إنّ أكرمكم عند اللَّه أتقاكم، وصارت القيم قيماً
قبلية، فلابد وأن تكون امرأة رسول اللَّه (ص) ــ سارت بمسيرته أو لم تسر بمسيرته
ــ مكرّمة مجلّلة ولو قتل بواسطتها ستة عشر ألفاً في حرب الجمل، وما جاء القرآن
لينقل إلينا قصصاً، فكم من كتاب قصص موجود لا قيمة له، فكلّ عبارة وكل كلمة من
القرآن المجيد هي درسٌ من الدروس الإسلامية، فالقرآن ليس بكتاب قصص، بل هو كتاب
تربية للمسلمين.
وهذا القرآن بكلّ صراحة يعزل
امرأة فرعون عن فرعون، ولم يحكمها بحكم فرعون، ويجعل امرأة فرعون من المقرّبين عند
اللَّه تعالى، وهذا القرآن المجيد أيضاً عزل امرأتين لنبيّين، وما ربطهما بمسيرة
النبيّين العظيمين، كامرأة نوح ولوط، وهذا القرآن المجيد أيضاً أخرج ابن نوح وجعله
غير مرتبط بأبيه، وكذا ابن آدم (ع) ، فهذه ليست بقصص، بل جاء القرآن ليقول لنا:
أيّها المسلمون، انتهبوا لمنهج الحق تعالى وطريق أنبيائه، وأنّه لا رابطة بين
الأنبياء والناس إلاّ بالعمل الصالح، وهذا
القرآن يتحدّث عن إبراهيم وهو شيخ الأنبياء سواء كان آزر أباً
لإبراهيم أو عمّاً لـه، بأنّه لا رابطة بين مؤمن وكافر، وإذ بالأمة الإسلامية
تخاطب أمير المؤمنين: أأنت تقاتل أم المؤمنين وطلحة والزبير حواري رسول اللَّه (ص)
؟!
فهل يبكي الإنسان حينما يسمع
هذه الكلمات لأمة قرأت كتاب اللَّه تعالى أم لا؟
لا أدري من هو الزبير؟ ومن هي
عائشة إذا انحرفت عن مسيرة رسول اللَّه (ص) ؟ فلا كرامة لأحدٍ: لا لقريبٍ ولا
لبعيد إلاّ بالتقوى.
وهذا التاريخ بكلّ صراحة ــ
إضافة إلى الآية الكريمة التي أمرت نساء النبي أن يقَرْن في بيوتهنّ، باختلاف
الرواة ــ ينقل لنا قول رسول الله (ص) لنسائه: ( ليت شعري أيّتكن صاحبة الجمل
الأدبب، التي تنبحها كلاب الحوأب، فيقتل عن يمينها وعن يسارها قتلى كثيرة، ثم تنجو
بعدما
كادت) ([9][9])، فلما نبحت كلاب الحوأب عائشة وقفت ثلاثة أيام، وقالت: ها هي أنا شرّ نساء هذه الأمة؛ لقول رسول اللَّه (ص) ، ثم من بعد إصرار عبد اللَّه بن الزبير قاتلت علياً (ع) ! فأين المسلمون من مثل هذه الأحاديث؟
كادت) ([9][9])، فلما نبحت كلاب الحوأب عائشة وقفت ثلاثة أيام، وقالت: ها هي أنا شرّ نساء هذه الأمة؛ لقول رسول اللَّه (ص) ، ثم من بعد إصرار عبد اللَّه بن الزبير قاتلت علياً (ع) ! فأين المسلمون من مثل هذه الأحاديث؟
لقد وقف علي (ع) ليرسم خطى
الإسلام، فحارب الناكثين والمارقين والقاسطين؛ كي يقول: لا مداهنة على حساب الدين،
ثم ينبّه الأمة على أنّ الحق لا يعرف بالرجال، بل اعرفوا الحقّ تعرفوا أهله، فالحق
ميزان رسمه اللَّه تعالى، فعلى الرجال أن يطبّقوا أنفسهم مع مسيرة
الحق وسبل الرشاد.
وكيف يمكن لعلي (ع) أن يرجع
قافلة المسلمين التي شذّت عن الطريق إلى ما كان عليه في عهد رسول اللَّه (ص) بعد
انحراف استمرّ خمساً وعشرين سنة؟
لقد وصلنا في المحاضرة
السابقة إلى الشروط التي اشترطها مروان بن الحكم وسعيد بن العاص، فقالوا لعلي:
نبايعك على أن تضع عنّا ما أصبنا، وتعفو عمّا في أيدينا، وهم يعرفون علياً (ع) ،
ويعرفون أنّه لا هوادة عند علي في الدين، فإنّه بمجرّد أن بايعه الناس طلب ابن عمر
الذي خاض في دماء الناس بالشبهة والظنّة وقتل الكثير من الناس باتهام أنهم اشتركوا
في قتل أبيه، وحينما وصل الحكم إلى الخليفة الثالث راح ليعفو عن عبيد اللَّه بن
عمر، وكأنه يسقط حقّاً شخصياً لنفسه حتى ولو قلنا: إنه أعطى الدية من ماله الشخصي
وليس من مال المسلمين، ووليّ الدم أولى بالقاتل.
والشرط الثاني لهؤلاء الذين
ما بايعوا علياً، قالوا له: ( وتعفوا لنا عمّا في أيدينا، وتقتل
قتلة صاحبنا) أي عثمان.
أما أوّلاً، فإنّ عثمان قتل
بقيام شعبي عام؛ حيث ضجّت الأمة من فعلة عثمان، فكان مطالباً بدمه أكثر الأمة الإسلامية.
وأما ثانياً، فمن أنت يا
مروان، ومن أنت يا وليد ويا سعيد بن العاص؟ فإن كان هناك دعوى فليقمها أولاد
عثمان.
فغضب علي (ع) ، وقال: أما ما
ذكرت من وتري إياكم فالحق وتركم، وأما قولك: إني قتلت آباءكم في بدر فما قتلتهم
أنا، بل الحق وتركم، وكان بأمر من رسول اللَّه
(ص) إن كنتم مسلمين.
وأما قولك: أن أضع عنكم ما
أصبتم، فليس لي أن أضع حقّ الله تعالى. وأما إعفائي عما في أيديكم فما كان للَّه
وللمسلمين فالعدل يسعكم، وأما قتلي قتلة عثمان فلو لزمني قتلهم اليوم للزمني قتل
عدد كبير من المسلمين، ونقول نحن كيف جاز لمثل عثمان أن يكتب
كتباً لولاته في الأمصار بأن هؤلاء الحجيج إذا رجعوا إليكم اقتلوهم؟ فأي مجوّز جوّز لعثمان أن يأمر بالحجيج إذا
رجعوا إلى بلدانهم أن يقتلوا ؟
ونعود
الى كلام علي (ع) فإنه قال (ع): ولكن لكم أن أحملكم على كتاب اللَّه وسنّة نبيه، فمن ضاق
عليه الحق فالباطل عليه أضيق، يعني: إذا كانت أموركم تضيق من الحق وهو إرجاع أموال
بيت المسلمين للمسلمين، وإن ضاق عليكم الحق بأن أقيم عليكم الحد لو قتلتم إنساناً
بريئاً، فالباطل عليكم يكون أضيق، يعني: إذا كنتم تضيقون منّي لأنّي أريد عليكم تطبيق الحق، وأن أقيم
حدّاً أو آخذ مالاً سرق من بيت مال المسلمين، فالجور عليكم أضيق، أي
كيف حالكم لو أردت أن أكون عليكم جباراً وأحاسبكم على كلّ صغيرة
وكبيرة، وآخذكم بالظنّة والتهمة؟
فمثلاً : الحَجاج أمر بأنّ كل
من يخرج بعد صلاة العشاء تضرب عُنقه، فجيء إليه صباحاً برجل قبض في الشارع، فقال
لـه: لم خرجت وأنا قد أمرت أن لا يخرج أحد؟ قال له: يا أمير، خرجت من البيت عنزة
لي وليس لي شيء غير هذه العنزة لأطفالي، فتبعتها قليلاً ما فقبضتني الشرطة، قال
لـه الحجاج: أظنّك صادقاً، لكن أضرب عنقك حتى لا يخرج غيرك.
هذه هي العدالة الإسلامية،
وهذا هو والي أمير المؤمنين في الشام، والمسلمون يعتبرون هذا والياً من ولاة
المسلمين.
وهذا علي (ع) يأتي إليه
المخبر فيقول لـه: يا أمير المؤمنين، إنّ طلحة والزبير يريدان الخروج والالتحاق
بمن اجتمعوا في مكة المكرمة ويدبّران، فقال: ما كنت لألقي القبض على إنسان لم
يرتكب خطأ، فهذه هي الحرية.
ويأتي إليه المخبر أيضاً
فيقول له: يا أمير المؤمنين، هذا الخرّيت بن راشد متهيّىء هذه
الليلة مع ألف رجلٍ من الخوارج مع كل عدة لهم يريد الالتحاق بالنهروان،
فقال (ع) : ما لم يشهروا علينا سيفاً فهم أحرار.
فأين ترى هكذا ديمقراطية في
العالم؟ هذه الحرية، لو راجعت التاريخ البشري من أوّله إلى آخره ــ باستثناء
الأنبياء والأوصياء ــ ما وجدتها في مكان.
ثم قال لهم علي (ع): ( وإن
شئتم فالحقوا بملاحقكم، فقال مروان: بل نبايعك، ونقيم معك وترى ونرى) ([10][10]). فظنّ أنه يخادع علياً (ع) ،
ثم خرج والتحق بعائشة وأصحابها في مكة، فما جازاه الأمير على كذبه وافترائه حتى
قبضه في البصرة أسيراً وعفى عنه.
وجاء ابن عباس إلى علي (ع)
فأشار إليه باستمرار نوّاب عثمان، قائلاً: يا أمير المؤمنين، لو عزلت جميع الولاة
لكن أبق على معاوية، وإن كان الأرجح أن تبقي الجميع، فإذا أقررتهم على مناصبهم سنة
كاملة ثم خذ بعزل واحدٍ بعد الآخر، فهذه خطة يعرفها كلّ إنسانٍ.
وقد أشار عليه المغيرة بن
شعبة ــ وهو داهية من دهاة العرب وماكر من مكرتها ــ فقال:
يا أمير المؤمنين، أبق كلّ والٍ على منصبه إلى سنة، ثم من بعد السنة اعزلهم واحداً بعد الآخر، وبالأخص أن تقرّ معاوية على الشام، وقال لعلي (ع): إنّي أخشى إن عزلته أن يطلب بدم عثمان.
يا أمير المؤمنين، أبق كلّ والٍ على منصبه إلى سنة، ثم من بعد السنة اعزلهم واحداً بعد الآخر، وبالأخص أن تقرّ معاوية على الشام، وقال لعلي (ع): إنّي أخشى إن عزلته أن يطلب بدم عثمان.
فهؤلاء ينازعون علياً في
تحكيم السلطة والنظام، وهو ينازعهم في تحكيم شرع اللَّه ورسوله، وهذا هو الفارق
بين الفريقين، وكلّ هذه الأمور يعرفها علي (ع) لكنّه يريد أن يجعل مثالية الشرع
حتى يقوم قائم آل
محمد (ص) ؛ لكي لا يقول قائل: اختلطت عليَّ الأمور، فبيّن كيف يكون تطبيق الرسالة، وأزاح الغبار والغيوم التي أحاطت برسالة رسول اللَّه (ص) وهو يعلم أنّ ما بينه وبين المسلمين كما بين السماء والأرض، فقال علي(ع): أتضمن لي عمري يا مغيرة فيما بين توليته ــ أي معاوية ــ إلى خلعه؟ قال: لا، قال: لا يسألني الله عزوجل عن توليته على رجلين من المسلمين ليلة سوداء أبداً وما كنت متخذ المضلّين عضداً ([11][11]).
محمد (ص) ؛ لكي لا يقول قائل: اختلطت عليَّ الأمور، فبيّن كيف يكون تطبيق الرسالة، وأزاح الغبار والغيوم التي أحاطت برسالة رسول اللَّه (ص) وهو يعلم أنّ ما بينه وبين المسلمين كما بين السماء والأرض، فقال علي(ع): أتضمن لي عمري يا مغيرة فيما بين توليته ــ أي معاوية ــ إلى خلعه؟ قال: لا، قال: لا يسألني الله عزوجل عن توليته على رجلين من المسلمين ليلة سوداء أبداً وما كنت متخذ المضلّين عضداً ([11][11]).
والحمد للَّه ربّ العالمين.
[5][5] ــ الخصال، الشيخ الصدوق: 496 ، ح 5 ، وتاريخ بغداد، الخطيب البغدادي 14
: 322 ، ح 7643 ، وغيرهما من المصادر.
[8][8]ــ أنظر: الإمامة
والسياسة، ابن قتيبة الدينوري 1 : 72 ، و 51 في خلاف عائشة على علي، وتاريخ الأمم
والملوك، ابن جرير الطبري 3 : 476 .
[9][9] ــ معاني الأخبار، الشيخ
الصدوق: 305 ، باب معنى الحوأب والجمل الأدبب، ح 1 ، وشرح الأخبار، القاضي النعمان
المغربي 1 : 338 ، ح 304 ، وقال ــ في نفس الصفحة ــ في الحديث رقم 305 : وفي حديث
آخر: يقتل كثير قتلى عن يمينها وعن يسارها في النار، ثم تنفلت بعدما كادت. ثم نظر
إلى عائشة فقال لها: أنظري يا حميرا ألاّ تكوني أنت هي.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق