كتبت
من محاضرة صوتية ألقاها الشيخ في الكويت قبل سنوات
يسألني
السائل في المقام عن مسألة الفناء، وما المقصود من الفناء في
ذات الله تعالى: عندما يتكلم الفلاسفة والعرفاء عن الفناء هل هذا الأمر يخالف
الشرع المقدس الإسلامي ويهمل على نحو الاتحاد بين المخلوق والخالق ففناء إنسان أي
اتحاده مع الله أو خلود الحق فيه أو جعل الممكن مع الحق شيئا واحدا هل المراد من
مثل هذه الكلمات وهي الفناء التي يتكلم عنها العرفاء والفلاسفة تسوق الإنسان إلى
مثل هذه المتاهات من حلول واتحاد وذهاب هوية بأزاء الحق سبحانه وتعالى لكي يصبح
عين الوجود الإلهي هل هذا هو المراد ولو كان هذا مرادا فأي كفر وأي شرك وأي خطأ
أعظم من مثل هذه الأخطاء أي عرفان هذا يسوق الإنسان إلى مثل هذه المتاهات أي فلسفة
وحكمة وعقل هذا يسوق الإنسال إلى مثل هذه المتاهات عرفان شهود يوصل مدعيه إلى
مرحلة يدعي الإتحاد أو الحلول أو الوحدة أو ما شاكل هذه الأمور مع الله سبحانه
وتعالى.
دائما المطال العميقة يستفيد منها العبض وقد يصاب الكثير
من الناس في الخطأ فيه لأنها لا يمكن أن تدرك بمقدار الدرك الحسي أو بمقدار ظواهر
الكلمات فلابد وأن تكون المحسوسات سببا لنقلة إلى المعقول ولما كان المعقول دقيقا
ومن الصعب أن يتوصل اليه الإنسان لابد وأن تكون الأمور الحسية بمفاهيمها ومعارفها
اللغوية التي هي الفناء بمعنى العدم ، فنى أي أعدم وما شاكل هذه الأمور حينما نأتي
لنفسر مثل هذه الأمور اي اعدام العبد حين رقيه إلى الله ونحمل الاعدام على الفناء
بمعنى الاعدام واللاشيئية يساق الإنسان إلى كثير من الأخطاء ويظن أن هناك علماء
بذلوا حياتا طويلة في العلم عرفانا أو حكمة وفلسفة يتكلمون بمثل هذه الكلمات
الظاهرة في البطلان .
العرفاء كبقية العلماء الفلاسفة كبقية العلماء رب فيلسوف
ورب متفلسف ورب عارف ورب مدعي للعرفان ورب فقيه بواقع الفقاهة ورب متقمص لباس
الفقه والأصول يدعي ما لا يدعيه أكابر العلماء هذا مرض ساد وسرى في المجتمعات وكم
من له من نظير كم من مدعي العلم وليس بعارف فليس كل من يدعي عرفانا كان عارفا أو
من يدعي فلسفة كان فيلسوفا فكم من قارئ لقواعد الفلسفة والعرفان قرأها كمصطلحات
فظن نفسه بحفظ المصطلحات عارفا بمقاصد الفلاسفة والعرفاء ولا ننكر أن هناك شطحات
صدرت من كثير من الفلاسفة والعرفاء إما لأنهم ليسوا أهلا أو لأنهم تكلموا في مكان
ما كان محلا لمثل هذه الكلمات العرفان لا يخاطب به كل أحد المسائل العرفانية
المسائل الفلسفية تحتاج إلى مقدمات وتحتاج إلى إصغاء أما النفس التي تجلس لترد قبل
أن تفهم مطلبا لو جلست ألف سنةلتفهم مسألة عرفانية أو مسألة فلسفية لكان من
المستحيل والكثير من الذين يوردون النقض ويهاجمون الكثير منهم مع كل الأسف من هذا
النمط يجلس ليرى أين هي مواطن النقد ليهاجم فيلسوفا أو عارفا فقبل الدخول في البحث
أتي بمقدمة لتوضيح المطلب لنرى ما هو المراد من الفناء بمعنى العدم .
يقول الكثير من الفلاسفة والعرفاء بالنسبة إلى الملائكة
الكرام على أنهم تحت الصقع الربوبي لقربهم من الحق تعالى فانية ذواتهم في ذات الحق
تعالى حينما نأتي لنتأمل في المراد من هذا الفناء من فناء الملائكة أو من فناء
عظماء الملائكة الكرام بأزاء الحق تعالى نراهم يريدون أن يشيروا إلى مطلب في
المقام وهو فناء ذواتهم لا فناء وجوداتهم والفرق بين اندكاك الهوية وبين اندكاك
واقع الوجود بأزاء الحق تعالى فيقولون لأن الملائكة يعيشون قربا من الله سبحانه
وتعالى بعيدين عن حجب ظلمات عالم الدنيا بعيدين عن عالم الصراع بين الحق والباطل
فصقع أنوار الحق تعالى على نفوسهم تجعلهم يذهلون عن حدودهم وعن ضيق دوائر وجودهم
بأزاء الحق تعالى فكأنه حدهم لا يكون سببا لحجابهم عن الحق تعالى ماهيتهم ذاتهم لا
تكون سببا لحجبهم عن الحق سبحانه وتعالى فما هو من شأن الحدود ما هو من شأن ظلمة
الماهية وكدورة الماهيات لأنها ضيق دائرة لأنها قيد للوجود هذه القيود لا تكون
سببا لذهولهم عن الحق تعالى وعن مشاهدة أنواره .
نأتي بمثال آخر لنقرب المطلب إلى الذهن : من دخل دارا
فخرج منها بعد ساعات لو دخل عشرة دارا ثم سألناهم بعد خروجهم من تلك الدار ماذا
رأيتم في تلك الدار لوجدت البعض يقول شاهدت مكتبة فيها كذا من الكتب ويأخذ بتفصيل
الكتب والمكتبة وحسنها ومطالب كتبها ثم قد تعيد عليه السؤال مرة ثانية وماذا رأيت
غير الكتب في هذه الدار لعله يتذكر بعد فترة مكانا جلس فيه لو أخذته بتشديد في
السؤال لعله يتذكر بعد ذلك أمرا أو أمرين فلو سألته عن الفرش الذي كان تحت قدميه
لعله يستغرب منك هذا السؤال لأنه لا يتذكر الفرش ولا لونها راح مستغرقا مندفعا
منبهرا بالمكتبة بضخامتها وراح يفكر بما فيها من كتب وكيف يمكن أن يستفيد منها
فانشغل بكل أبعاده بالمكتبة فأغفل الكثير مما كان في تلك الدار لأنه رجل عالم تأتي
إلى رجل آخر من اختصاصه الفرش وما شاكل هذه الأمور سيتكلم عن ما كان مفروشا في هذه
الدار وأنه من أين بلاد وأي كيفية لهذا الفرش ولضخامته وشؤونه وخصائصه ولو سألت
ثالثا لعله جاء ليتكلم عن ضخامة وعظم وكيفية هندسة هذه الدار لأنه مختص في الهندسة
فراح مستغرقا وقته جميعا يمعن في هندسة الدار وفي كيفيتها وأن هذا الطراز من
الهندسة أهو حديث أو يماثل طرازا قديما من الهندسة وهكذا غافلا عن المكتبة بما
فيها وعن الفرش وعن الأنواني التي قدمت إليه بما فيها لمَ يكون الإنسان هكذا ؟
الإنسان بما يحمل من رغبات بما يحمل من شؤون إذا اندفع إلى جانب قد يغفل عن كثير
من الجوانب الأخرى وقد لا يلتفت إليها هذه طبيعة الإنسان يندفع إلى جانب فيراه بكل
أبعاده ويغفل عن كثير من الأمور الأخرى على اختلاف قابلياته ورغباته وتخصصه في
مطلب أو في جهة من الجهات.
إذا كانت هذه من خصائص النفس فالربانيون الإلهيون
المتألهون إذا راحوا ليتوغلوا في مطالب التوحيد أنت تستغرب منهم الكثير من الغفلات
لم هذا راح ليغفل عن شأن اجتماعي قد يحصل بواسطته على كثير من الشهرة لم راح هذا
ليغفل عن كثير من الامور الاقتصادية لم لم ......، حتى راح البعض حينما ينظر إلى
المؤمنين يراهم مجانين أراذل لأنه لا يراهم مهتمين بما هو مهتم به يمرون على مثل
هذه الأمور مرور الكرام وكأنهم لا يرونها وهو يراها حلما لا تمر في حياته لو وجدها
في السماوات لألقى بنفسه إليها هكذا بالنسبة إلى الذين عرفوا الله سبحانه وتعالى
حينما يقول الفيلسوف أو العارف بكلمة أن فلان أصبح من الفانين في ذات الله تعالى
لا يريد أن يقول أن وجوده أعدم فأصبح مع وجود الحق وجودا واحدا والفيلسوف والعارف
بكل اصرار يقول الممكنات وجود رابط مندك هي عين الفعل الإلهي ليس كشخص يرفع كتابا
الكتاب شيء واليد شيء فالكتاب متعلق بفعل الإنسان وليس فعلا انسانيا متأثر من فعل
الإنسان وليس فعلا إنسانيا حركة اليد هي فعل انساني فالفيسلوف الذي يرى الموجودات
جميعا هي فعل الله وفعل الله ليس شيئا بأزاء الحق بل هو وجود رابط لا استقلال له
أي أنه محض الضعف وعدم الاستقلالية فكيف يمكن أن يقول بعد ذلك حينما جاء ليعرف
أركان الإنسانية للوجود الإمكاني ويجعله وجودا رابطا حرفيا كالنسبة في الجملة كيف
يأتي بعد ما قال بأنه فعل الهي وأنه متعلق بالحق يأتي مرة ثانية أنه يفنى أي يعدم
ويصبح متحدا مع الله تعالى كلا لا يريد أن يقول ذلك إنما يريد أن يقول إن خصائص
حدوده حينما يقرب من الله تعالى تفنى أي يغفل فتندك حدوده وتندك ماهيته وتندك
خصائص قيوده المختلفة فإذا اندك خصائص وجوده المختلفة أصبح وجودا صرفا متعلقا
بالحق لا تشغله شواغل الحدود والماهيات عن مشاهدة أنوار الحق تعالى فلا يريد عارف
أو فيلسوف من كلمة الفناء التي هي بمعنى العدم أوالاعدام اعدام الوجود الامكاني
ليصبح مع الحق وجودا واحدا هذا لا يتكلم به عاقل وإنما يريد أن يقول حينما يصبح
الإنسان بمعارف معينة وبخلوص معين يصبح لشدة حبه بالله سبحانه وتعالى إضافة على
غفلة عن كل ماسوى الله تعالى من الكائنات يغفل في المرحلة الأخيرة حينما ينقطع عن
كل ما سوى الله ينقطع عن حدود ذاته وهويته ليصبح وجودا صرفا مرتبطا بالحق سبحانه
وتعالى فهو فناء حدود بأزاء صقع لانهاية الحق ونور الحق وليس بفناء يعود إلى وحدة
وجود أو حلول وجود بوجود أو اعدام وجود الوجود لا يعدم من بعد ما خلقه الله ما خلق
الله خلقا ليسوقه إلى العدم وجه الله لا يعدم الذي يعود ويرجع نورا إلى العدم لا
يكون جوادا الله الجود والكرم من خصائص ذاته فلا يعيد موجودا إلى العدم مرة ثانية
فالمراد إذن من الفناء في كلمات العرفاء والفلاسفة هو الذهول عن الهوية الشخصية
الذهول عن خصائص قيود الممكن حينما يصبح يشاهد الحق شهودا عرفانيا ففناءه فناء
عرفاني أي فناء حدوده وقيوده وخصائصه من بعد ما يغفل عن كل العالم يثني بنفسه
فتنتهي كل خصائصه الخاصة به ليبقى وجوده صرف تعلق بالحق مرتبطا بالحق سائرا في
مايقربه إلى الحق فلا تكون الماهية التي هي حد وهي ظلمة سببا لوقفته وغفلته بل
يبقى وجوده هو الذي يربطه بالحق سبحانه وتعالى ولا ننسى أن هناك شطحات صدرت من بعض
الفلاسفة أو العرفاء حينما قال قائلهم ليس في جبتي الا الله أو حينما قال قائلهم
مزجت روحك في روحي كما تمزج الخمرة في الماء الزلال فإذا مسّكَ شيء مسني فإذا أنت
أنا في كل حال هؤلاء لا يريدون ظواهر الكلمات وإنما هي كغزل الشعراء يكنون بها إلى
مطلب آخر ولا نريد أن ننزه أحدا أو نتكلم بعصمة أحد الخطأ يكون من فيلسوف ومن عارف
كما قد يكون الخطأ من فقيه مادام الإنسان ليس معصوما هومحل للأخطاء.
والحمد لله رب العالمين
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق