الأربعاء، 24 أبريل 2013

@ الأخلاق المحاضرة رقم 9



لسماحة الأستاذ الشيخ محمد كاظم الخاقاني

قال علي (ع): ( من أراد أن ينظر إلى رجل من أهل النار فلينظر إلى رجل قاعد وبين يديه قوم قيام) ([1][1])، هذه من صفات أهل النار، والتواضع من صفات أهل الجنة.
وقد وصف الرسول (ص) بهذه الأوصاف، وأوصاف الرسول أكثر من هذه التي نحن ندركها، لكن هذا ما أمكن أن يتوصل إليه الناس، وهناك في كتب الأخلاق التي قد كتبت عنه (ص) بأنّه كان يعقل البعير، ويأكل مع خادمه، ويطحن عنه إذا أعيى، ويحلب الشاة، ويخصف النعل، ويرقع الثوب، ويشتري الشي‏ء من السوق، ولا يمنعه الحياء أن يعلقه بيده، أو يجعله في ثوبه؛ لأن أهل الحقيقة حياؤهم من الباطل ومن الرذائل، حياؤهم من المناقص والظلمات، حياؤهم من يوم إذا جمعت الخلائق وإذ به يظهر بمظهر الخنازير والقردة، حياؤهم من مثل هذه الظلمات، أما حمل الشي‏ء من السوق إلى البيت فهذا لا يحتاج إلى حياء، إنما هو حياء المتكبّرين والجبابرة، حياء الذين يعيشون الأنانيات، ولذا كان (ص) يشتري الشي‏ء من السوق ولا يمنعه الحياء أن يعلّقه بيده، أو يجعله في طرف ثوبه، فينتقل إلى أهله. وكان يصافح الغني والفقير، والصغير والكبير، ويسلّم مبتدئاً. ليّن الخلق، كريم الطبع، جميل المعاشرة، طلق الوجه، بسّاماً من غير ضحك، محزوناً من غير عبس. وهناك مَن تعرفون يدخل عبوساً، ويخرج عبوساً قمطريراً، فلا التظاهر باللين من واقع الإيمان، ولا العبس والشراسة من أوصاف المؤمنين، لا لين يتظاهر به أمام الناس، وإذا جاءت المواقف نشاهده سفّاكاً، لا يتوقّف ولا يتورّع عن شي‏ء، ولا أن يكون عبوساً قمطريراً، بل المؤمن الحقيقي سديد من غير عنف، متواضع من غير مذلة، جواد من غير إسراف، قريب من كلّ ذمّي ومسلم، وبهذه الخلق جلبوا الناس إلى الإسلام.
كان علي (ع) يعاشر اليهود والنصارى، وكان يتمشّى معهم بهذه الخلق، فالأئمة هدوا الناس إلى الصراط المستقيم بهذه الأخلاق الرفيعة، ولذا نرى الرسول (ص) دخل مكة فاتحاً، وإذا به يدخل مطرقاً رأسه، كاد أن يصل ذقنه إلى صدره، هذا هو التواضع، وعند التمكّن من رقاب أعدائه قال: ( اليوم يوم المرحمة) ([2][2]) ، هذه هي أخلاق الأنبياء.
هذه مقدّمة، ذكرنا فيها بعض الخلق للرسول (ص) ؛ تبرّكاً، لكن الآن ندخل فيما كنّا فيه من القياسات الشيطانية.
فمن جملة ما ذكر الأعلام في كتبهم: أنّ من الإغواءات الشيطانية
ــ التي تسبّب الجهل والغرور للإنسان ــ : قول القائل: لولا أنّي محبوب لديه تعالى لما أحسن إليَّ، فنعم اللَّه عليّ أك
بر دليل على أنّي من المقرّبين لدى الحق تعالى؛ لأنّ الناس يعيشون الفقر وأعيش أنا الغنى، والناس يعيشون المرض وأعيش أنا السلامة، والناس يعيشون السجون وأعيش أنا طليقاً، فيظن أن هذه من جملة ما يكون دليلاً على أنّه محبوب عند اللَّه تعالى، فيستدل بمثل هذه الأمور على أنه محبوب عند اللَّه تعالى، ولم يلتفت إلى أنّ هذا لعله كان اختباراً، بأنه تعالى أنعم عليه نعمة مادية؛ ليختبره: أيطغى أم لا؟ ليختبره: أيواسي الفقراء أم لا؟ فأنعم اللَّه تعالى عليه وأغناه غناءاً مادياً، لعله أراد ــ بذلك ــ استدراجه في الجريمة؛ لينتقل من جريمة إلى أخرى، فيبقى في الظلمات حتى لا تبقى لـه حجة يوم القيامة.
أو أنّ هذه الأمور كلها كانت تعجيلاً لـه بالنعم الإلهية؛ لأن الحق تعالى أراد أن لا يبقى لـه أي شي‏ء في الآخرة، فبدون التفات يتصوّر أن النعم المادية هي الكل في الكل، فيحكم على أنه من المقرّبين إلى اللَّه تعالى، ولو أنه نظر إلى حياة المتّقين لوجدهم عاشوا السجون والفقر والمشاكل والبلايا المختلفة، فكيف جعل المال مقياساً للقرب الإلهي مع أنه قد لا يكون مقياساً إلاّ في بعض الأحيان، وقد قال الرسول (ص) في هذا الشأن: ( إنّ عظيم البلاء يكافأ به عظيم الجزاء، فإذا أحبّ اللَّه عبداً ابتلاه بعظيم البلاء) ([3][3])، ولذا إذا كان أمثالنا يبتليه اللَّه بعشر درجات على الفرض والتقدير، فيقيناً سيد الكائنات يبتلى بكل ما يمكن أن يكون بلاء حتى يصبح أسوة في كل الأمور، فإن ابتلينا بالفقر كان الرسول أسوة في الفقر والصبر معاً، وإن ابتلينا بمشكلة وخطر وجدناه أسوة فيها، وإن ابتلينا بتهديد الطواغيت والجبابرة وجدناه هُدّد من قبل أكبر طواغيت الأرض ككسرى، وما ارتكبته اليهود وقريش ليس بخفي على أحد، والإنسان قد يمنع من بعض الأشياء أحياناً؛ لطفاً بحاله من قبل اللَّه تعالى؛ لأنّ اللَّه يعلم أن عبده الفلاني من صلاحه أن يبقى فقيراً، فهذه قد تكون رحمة ولطفاً من الحق تعالى، فمن قال إنّ الفقر نقمة من اللَّه على أحد؟ في حين أنه سبحانه لا ينتقم من أحد، فالمتكبرون إذا أقبلت عليهم الدنيا ظنوا أنهم من المقربين، وإذا انصرفت عنهم الدنيا ظنّوا أنهم من المهانين والمغضوب عليهم عند اللَّه تعالى، كما وصف حالهم القرآن بقولـه: { فأما الإنسان إذا ما ابتلاه ربه فأكرمه ونعمه فيقول ربّي أكرمن * وأما إذا ما ابتلاه فقدر عليه رزقه فيقول ربّي أهانن} ([4][4])، فهذه مقاييس أهل الدنيا والشياطين، وقد قال تعالى: { أيحسبون أنّما نُمِدّهم به من مال وبنين * نسارع لهم في الخيرات بل لا يشعرون} ([5][5])، وقد قال تعالى أيضاً: { فلمّا نسوا ما ذكّروا به فتحنا عليهم أبواب كل شي‏ء حتى إذا فرحوا بما أوتوا أخذناهم بغتة فإذا هم مبلسون} ([6][6])، وقال تعالى: { إنما نملي لهم ليزدادوا إثماً} ([7][7]).
فإذن: هذه كلها من الأدلة على أنّ هذه الأمور هي مقاييس عند المغرورين، وعند طلاب الشياطين.
ومن جملة هذه الاستدلالات الباطلة والقياسات الشيطانية كأن يقول القائل: { من جاء بالحسنة فله عشر أمثالها ومن جاء بالسيئة فلا يجزى إلاّ مثلها} ([8][8])، فإذن عندنا حسابات رياضية، فلعله في اليوم يقوم بحسنتين كصلاته وتسبيحاته، وقد يسرق أو يظلم في نفس اليوم، فيقول: إنّ الظلم واحد، والسرقة واحدة في مقابل حسنتين بعشرين درجة، فإذن هو يطالب الحق تعالى يوم القيامة بثمانية عشر درجة، فإذا حاسبه اللَّه تعالى يكون مطالِباً وليس مطلوباً، فهو يقول هذه الكلمات كلها من دون أن يلتفت إلى أنّ الحق لا يتقبّل إلاّ من المتّقين، ومن دون أن يتوجّه إلى أنّ عمل النفس الظلمانية المحجوبة كلا عمل، فأيّ صلاة تقبل من إنسان لعله يعيش في بيت مغصوب، ولعل هذه الصلاة أصبحت لفظية لم تتجاوز الحنجرة، فأيّ صلاة أو عبادة، وأيّ خوف من اللَّه تعالى لجائر يصلي ليله ونهاره، ويتعبّد وهو يرتكب الجريمة في كل صباح ومساء؟
فكم من الطواغيت دخلوا بعض البلدان فجزّروها، وقتلوا الناس جميعاً حتى الأطفال، لكنهم كانوا يصلون صلاة الليل.
ينقل لنا التاريخ عن مؤسّس الدولة القاجارية على أنه دخل كرمان فأبادها حتى الأطفال، وأمر أن يصنع من رؤوس الناس منصّة لـه، فإذا وقف تحت المنصّة لا يخرج إلاّ وكلّه دم، وإذ به لم يقطع صلاة، ولا صوماً، وكان يتعبّد في بعض الليالي، فهذه العبادة لم تكن عبادة خشوع وتذلل عبودي، بل لعلها كانت عادة قد اعتادها منذ الطفولة، فأصبح تركها من الصعب عليه.
وأمثال هذه الأمور.
فإذن: هناك قياسات شيطانية متعددة.
ومنها: أن يقول الشخص ــ مثلاً ــ : أيّ إنسان أقرب منا إلى اللَّه تعالى وجدّنا رسول اللَّه (ص) سيد الكائنات، فإذا كانت الأعمال لا تقبل من أمثالنا فمن أي إنسان تُقبل؟ فيقيناً إذا قبل اللَّه تعالى الأعمال من الناس بدرجة سيقبلها منّا بعشر درجات، وأمثال هذه المقاييس التي لم تبتن على أي أساس ديني، فهذا آدم (ع) ، وهذا أحد أبناء آدم، فإنه لا ربط لـه بآدم (ع) مع كون آدم مسجوداً للملائكة، وخليفة للَّه تعالى، وهذا نوح وابنه، وهذا جعفر الكذّاب، بناء على صحّة النسبة على أنه ادّعى الإمامة، وعندنا الكثير من أبناء الأنبياء والأوصياء خرجوا عن الموازين، فإن كان النسب لـه مكانة فينبغي أن يكون وسيلة وسبباً لشدّة الالتزام بمذهب الجد والآباء، فإذا كان الناس يلتزمون بتعلم المعارف بدرجة فعلى أبناء الرسول أن يحاولوا معرفة دين جدهم (ص) بعشر أو بمائة درجة، وإن كان الناس يثبتون ويقفون مع الحق بدرجة فعليهم أن يكونوا سبّاقين إلى الثبات، حتى يمثلوا الشريعة، ويمثلوا جدّهم في هذه الأمور، وأن لا يكون الانتساب إلى النبي (ص) سبباً للطغيان والجريمة، أو سبباً للتهاون في الشريعة، ولا يتصوّروا أنهم سوف يحاسبون بغير حساب الناس، على حسب بعض الروايات التي رويت جهلاً وضرباً لكل المقاييس الإسلامية، كأن يجعلهم اللَّه تعالى في الزمهرير بدلاً من الجحيم.
فمثلاً تنقل بعض الروايات عن أحد أصحاب الإمام الصادق (ع) أنّه جاء كعادته ليدرس عند الإمام، ويتعلم، فلما طرق الباب فتح لـه خادم الإمام، فقال لـه: إنّ الإمام لا يقبل أن تدخل، فقال الرجل: ما السبب؟ فأجابه الخادم: بأنه لا يدري، فمضى الرجل وجاء في اليوم الثاني إلى منزل الإمام، وكرر عليه الخادم: بأن الإمام لا يقبلك، حتى مرت الأيام، فجاء متوسلاً طالباً من الإمام أن يبيّن لـه سبب تأثّره، فقال: هل صدر مني ذنب؟ هل ارتكبت جريمة؟ فقال لـه الإمام: كيف تتوقّع أن لا أكون متأثّراً منك وقد أهنت أحد أبنائنا، قال: سيدي مَن هو؟ قال الإمام: ألم تهن فلاناً في اليوم الفلاني، في الشارع الفلاني؟ قال الرجل: وجدته شارباً للخمر سكّيراً في الشارع فأهنته، وأدخلته البيت، فقال الإمام: ألم تعلم أنّ حسابهم على اللَّه، وأنه عليكم أن تكرموهم، فراح الرجل واعتذر من ذلك الرجل الشارب للخمر.
وأمثال هذه المتاهات التي لا ترتبط بالدين، حتى ولو وردت برواية صحيحة على الفرض والتقدير لا نقبلها؛ لأن الرواية يجب أن تكون مجتمعة مع الملاكات القرآنية، ومع ملاكات الشريعة الإسلامية، فكل رواية ولو كانت صحيحة السند لا نقبلها إذا جاءت لتضرب أركان الدين، فالرسول ــ الذي هو الأسوة ــ لو أن أقرب الناس إليه خرج عن الشريعة لأدّبه.
فكيف يأتي الإمام الصادق ويدافع عن سكّير؛ لأنه من ذرية رسول اللَّه (ص) ؟ فمثل هذه المتاهات حتى لو وجدت بروايات صحيحة على الفرض والتقدير لا نقبلها؛ لأن فيها ما يكون هدماً للشريعة، في حين أن هناك روايات كثيرة وآيات كثيرة تقول: لا رابطة إلاّ بالعمل، لا رابطة إلاّ بالتقوى، فلا ابن نوح (ع) ، ولا ابن آدم (ع) ، ولا أي إنسان يتمكّن أن يعتصم بأي شي‏ء سوى الحق، والآيات في ذلك صريحة؛ حيث قال تعالى عن لسان نوح (ع) : { فقال ربّ إنّ ابني من أهلي وإنّ وعدك الحق وأنت أحكم الحاكمين * قال يا نوح إنّه ليس من أهلك إنّه عَمَلٌ غيرُ صالح} ([9][9])، وإبراهيم (ع) بالنسبة إلى أبيه إن كان أباً لـه، أو بالنسبة إلى عمه إن كان عمّاً لـه، وهكذا رسول اللَّه (ص) نزلت آية في القرآن في عمّه أبي لهب.
فإذن: على كل من ينتسب إلى رسول اللَّه (ص) أن لا يكون النسب سبباً لـه للغواية والغرور الذي هو من سبل الشياطين.
قال الأعلام: إنّ الشيطان يغوي الإنسان، لكنه لا يغويه بالباطل الصريح، فالباطل الصريح لا يغوى به الإنسان المؤمن، لأنّ الباطل الصريح لأهل الكفر، وهذه الحبال لا يستفيد منها الشيطان مع المؤمنين والمعتقدين بالرسالة السماوية، فلا يأتي إلى لينين وأضرابه من الشيوعيين والمرتدّين والزنادقة لكي يقول لهم: لا تصلّوا، أو لا تصوموا؛ لأنّ هذه المسائل منتهية عندهم، فيأتي الشيطان للمعتقدين بظاهر خلاّب كأنه الحق، وهو باطل وكفر وضلال في الباطن، فلذا قال الأعلام: إنّ الشيطان يغوي الإنسان بكلام مقبول في الظاهر، مردود في الباطن، ولولا حسنه الظاهري لما انخدعت به قلوب الموحّدين وقد قال النبي (ص) : ( الكيّس من دان نفسه، وعمل لما بعد الموت) ([10][10])، وقال (ص) أيضاً:( حاسبوا أنفسكم قبل أن تحاسبوا، وزنوها قبل أن توزنوا، وتجهّزوا للعرض الأكبر) ([11][11])، والأحمق من اتبع هواه، وتمنى على اللَّه، فيدخل من ظلمة إلى ظلمة، وإذا سأله السائل عن أعماله قال: اللَّه تعالى كريم، واسع الرحمة، فقد وعد بغفران الذنوب.
فيقول علماء الأخلاق: إنّ مثل هذه الكلمات هي من حبال الشياطين، وقد بيّن اللَّه تعالى أين التمني، وأين الرجاء الصحيح، قائلاً في كتابه الكريم: { إنّ الذين آمنوا والذين هاجروا وجاهدوا في سبيل اللَّه أولئك يرجون رحمة اللَّه} ([12][12])، فمن هم الذين يتمنّون الرحمة؟ قال: من كانوا بهذه الأوصاف، أي: الذين آمنوا، هذا هو الشرط الأول، أما الشرط الثاني، فهو: والذين هاجروا، والهجرة: إما هجرة خارجية، كما هاجر المسلمون، وكما هاجر الكثير في زماننا هذا من مدنهم كالعراق وغيرها للجور والظلم؛ أو أنّ المهاجرة هي مهاجرة من الظلمات إلى النور، أي إلى الحق تعالى، وهذه مهاجرة معنوية، فهذه من جملة شروط التمنّي والرجاء، أما الإنسان الذي يعيش الجرائم ليل نهار فلا رابطة لـه مع اللَّه تعالى، والتسمية لا تصنع من الإنسان مؤمناً، التسمية لا تصنع الإنسان مشايعاً لعلي (ع) رجل العدل والصدق والمعارف، إذا كنت أنا الشيعي إنسان الكذب والخيانة والجريمة والغواية و... ، فأيّ رابطة بيني وبين علي إلاّ في الاسم؟! والتسمية لا تجعل الإنسان مشايعاً.
فالرجاء ــ إذن ــ رهين الإيمان، كما قال الأعلام، ورهين العمل الصالح، ثم بعد ذلك يأتي دور الرجاء من اللَّه تعالى، كأن يقول القائل: اللهم وفّقني بعد هذا، إلهي أريد منك حسن العاقبة، إلهي أريد منك أن تنزل عليّ ألطافك لكي لا أخرج وأكون مع الضلال، إلهي كم من إنسان وجدناه عاش حياة الإيمان ثم بعد ذلك انقلب على الأعقاب. اللهم لا تجعلنا منهم. اللهم أنت القادر، فأنا إنسان دخلت المتاهة وأنت أرحم الراحمين، جئتك تائباً فاقبل توبتي، ويكون صادقاً في توبته، فهاهنا محل الرجاء.
إلهي كم من إنسان وصلت به الحالة بأن كان من البعيدين عنك، كالحر، وكالسحرة. إلهي بألطافك التي وسعت كل شي‏ء، وبألطافك التي أخرجت أهل الظلمات من الظلمات، تلطّف علينا، وأخرجنا من الظلمات، هذا هو الرجاء.
إلهي أنا لم أقنط من رحمتك، فعالجت نفسي فوجدتها مستعصية عليّ، تأمرني بمعصية بعد معصية، وأنت القادر الذي أخرجت السحرة من الظلمة وأدخلتهم في النور والهداية، لقادر أن تخرجني، وأن تفتح عليّ الأسباب التي تسوقني إلى الهداية والرشاد، هذا هو موطن الرجاء، فإن محل الرجاء بعد التوبة، ثم يقول: إنّ اللَّه يقبل التوبة من عباده، وأن التوبة تكفّر الذنوب، قال تعالى: { قل يا عبادي الذين أسرفوا على أنفسهم لا تقنطوا من رحمة اللَّه إنّ اللَّه يغفر الذنوب جميعاً إنه هو الغفور الرحيم} ([13][13])، فهاهنا محلّ الغفران، وهاهنا محل الرجاء.
وقال تعالى: { وإني لغفار لمن تاب وآمن وعمل صالحاً ثم اهتدى} ([14][14])، فالغفران لهؤلاء بهذه الشروط، فإذن مَن توقّع المغفرة مع التوبة فهو راجٍ رحمة من ربه، ومن توقّع بدون هذه الأمور فهو تمني الجهّال، ومَن توقّع المغفرة مع الإصرار على الذنوب والمعاصي فهو من المغرورين المتوقّع للشي‏ء بلا أسبابه ومقتضياته، وبلا شرائطه.
ولكن لا ننسى شيئاً واحداً وهو أن هذا ما تستحقّه نفوسنا طبقاً للعدل الإلهي، ولكن قد يموت الإنسان من دون توبة، فلا نستطيع أن نقول: يقيناً سيدخله اللَّه النار، ويقيناً ينتقم منه تعالى، فهذه الأمور لم يحكّمنا اللَّه تعالى فيها، وإنّما قال: مَن كان من العصاة والبغاة والمجرمين هذا محلّه، وهذا استحقاقه بالعدل أن يدخل النار ويكون خالداً فيها، أما ما حكم الرحمة المطلقة الإلهية والألطاف اللامتناهية، وما حكم شفاعة عظماء الخلق؟ فهذه أمور لا نتمكّن أن نتحكّم فيها.
فإذن: هناك مغفرة إلهية ترجع إليه، وهناك شفاعة، وهو أعلم بمواطنها، وعلينا مع ذلك أن نلتفت حتى لا تكون هذه من الأسباب الداعية لكي ندخل الجريمة بعد الجريمة؛ اتكالاً على واسع رحمة اللَّه تعالى.
فهناك ــ إذن ــ إغواءات شيطانية للعصاة، ومصايد أيضاً للمؤمنين الأطياب، حتى لا ينالوا الدرجات الرفيعة، كمن يقول: لمَ أعذب نفسي بالطاعة والمعرفة وسهر الليالي وأنا قادم على ربّ كريم؟ فالإنسان الذي بكل عمل يريد أن يتقرّب إلى اللَّه تعالى تنفتح لـه أبواب جديدة، والشيطان لا يريد هذا، فإذا يئس من إدخاله في الظلمة فلا أقل يمنعه من القرب الأكثر من اللَّه تعالى حتى لا يسير سيراً متواصلاً نحو الحق تعالى، بل يبقى على ما كان عليه، فهذا من إغواء الشيطان بالنسبة إلى المتّقين والمؤمنين والصالحين.
وقال الفيض الكاشاني في المحجّة البيضاء([15][15]) : من غاية الجهل أن يتصدّق الواحد بدرهم أو بدراهم معدودة من حلال أو حرام، ويكون ما تناول من أموال الناس والمسلمين والشبهات أضعافاً مضاعفة، فيظن أن كل درهم من حلال أو حرام تصدّق به سيكون بإزاء ما ارتكبه من الأمور، أو يقوم ببعض التسبيحات، أو يقوم ببعض الأعمال، وهو لا يحاسب نفسه: كم في هذا اليوم اغتاب الناس؟ أو كم في هذا اليوم تكلّم بلا علم في شريعة أو في غير شريعة؟ وكم في هذا اليوم ظلم الناس في السوق، أو ظلم الناس ولو بكرامتهم؟ هذه كلها يظنها بإزاء التسبيحات، ويظنها بإزاء بعض الدراهم التي ينفقها ويتصدق بها، فيقول الفيض الكاشاني: هذه أيضاً من أعمال الشياطين.
ومن مواطن الغرور والجهل: أن يظن الإنسان أن طاعاته أكثر من عصيانه، أو معاصيه؛ لأنّه لا يحاسب نفسه على ما ارتكب، فيظن أنه صلى في هذا اليوم واحدة، وصام في شهر رمضان، فهما اثنان، وقام بالعمل الفلاني، فهذه ثلاثة؛ لأنه يلحظ ما يقوم به من الطيبات، أما ما ارتكبه من المعاصي والأمور لا يلتفت إليها، فيظن أن المعاصي كشرب الخمر وهو ما شرب الخمر، ولعله بحكم لا يرتبط بالشريعة كانت جريمته لا تقاس بشارب الخمر، ولعله بتضليل أمة أو كتمان حق كان عمله لا يقاس بشارب خمر، أو سارق مال، ولعل ولعل... .
فيقول الفيض الكاشاني([16][16]) : فإذا عمل الطاعة حفظها، كالذي يسبح للَّه بلسانه في اليوم مائة أو ألف مرة مثلاً، ثم يغتاب المسلمين، ويمزّق أعراضهم، ويتكلّم ليل نهار بما لا يرضي اللَّه تعالى، فيكون نظره إلى عدد ما سبّح، والتسبيحات لفظية، فلو كانت هذه التسبيحات من قلب وعن معرفة لما كان من المغتابين، ولما كان من الذين يتعدّون ويتجاوزون على كرامات الناس، فهذا الإنسان يأمل الثواب الكثير؛ غافلاً عن ذنوبه ومعاصيه التي ستكون أكثر بمرّات عديدة من صلواته وتسبيحاته.
والحمد للَّه ربّ العالمين.


[1][1] ــ بحار الأنوار، العلاّمة المجلسي 70 : 206 .
[2][2]ــ كنز العمال، المتقي الهندي 10 : 506 ، ح 30173 .
[3][3] ــ الكافي، الشيخ الكليني 2 : 253 ، ح 8 .
[4][4] ــ سورة الفجر، الآيتان 15 و 16 .
[5][5] ــ سورة المؤمنون، الآيتان 55 و 56 .
[6][6] ــ سورة الأنعام، الآية 44 .
[7][7] ــ سورة آل عمران، الآية 178 .
[8][8] ــ سورة الأنعام، الآية 160 .
[9][9] ــ سورة هود، الآيتان 45 و 46 .
[10][10] ــ الأمالي، الشيخ الطوسي: 525 ، مجلس يوم الجمعة، ح 1 .
[11][11] ــ وسائل الشيعة، الحر العاملي 16 : 99 ، ح 9 .
[12][12] ــ سورة البقرة، الآية 218 .
[13][13] ــ سورة الزمر، الآية 53 .
[14][14] ــ سورة طه، الآية 82 .


ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق