الثلاثاء، 23 أبريل 2013

ما المراد من الكلمات الواردة من المعصومين : نحن الكلمات التامات



كتبت من محاضرة صوتية ألقاها الشيخ عام 1995م في الكويت

هناك علوم مختلفة في مسألة علم الإمامة لابدّ من الالتفات إليها في المقام، منها كلمات لابد أن تستنطق بتأمّل وتوجّه حتى نرى:
1 ــ ما المراد من الكلمات الواردة في مثل قوله: ( نحن الكلمات التامّات) ([1][1]) ؟ فيجب أن لا نمرّ عليها مرور الكرام، بل يجب أن نتأمّل فيها.
وهناك عبارة أخرى تقول: ( نحن وجه الله) ([2][2]) ، فكيف يمكن أن يكون الإنسان وجهاً لله تعالى؟ وما المراد من الوجه حتى يتكلّم
المعصوم (ع) ويقول: ( نحن وجه الله) ؟
وهناك مسألة الخلافة على وجه الأرض، فالله تعالى خلق آدم (ع) وجعله خليفة على وجه الأرض، فما المراد من الخلافة؟ وأيّ بُعد من الأبعاد يمكن أن تحمل هذه الكلمة؟
2 ــ الأمر الثاني الذي يجب أن نركز عليه أن الكثير من الأعلام قالوا: حينما يتكلّم المعصوم عن علم الإمامة أو ترد الأخبار بذلك، هل المراد هو العلم بإطلاق الكلمة ليكون شاملاً لكلّ شيء، أو يجب أن تتضيّق دائرة العلم بما هو من شأن الرسالة، فكلّ ما يكون شأناً من شؤون الرسالة يكون مشمولاً لهذا التعبير، وكلما لا يكون من شأن الرسالة لا يكون مشمولاً لهذا التعبير؟
فهنا نزاع بين الأعلام في تقييد الكلمة وإطلاقها.
3 ــ هناك روايات مختلفة وردت وربما وصلت حدّ التواتر في المقام حينما يقول الإمام (ع) ــ أيّاً كان من الأئمّة ــ : عرفنا ما كان وما يكون من كتاب الله، فكلمة ( ما كان وما يكون) هل المراد منها الكون الشرعي: حلالاً وحراماً، ومستحباً وواجباً، أو المراد من هذا الكون: الكون الوجودي الإمكاني، أي: أن كل ما هو من شأن الإمكان؛ لأنّ القرآن تبيانٌ لكل شيء، وقد أودع الله تعالى ذلك في كتابه المجيد؟ ولابد أن يكون الحامل لهذا الكتاب المبين والمفسّر والمؤوّل للكتاب عارفاً بشؤون الكتاب، وهذا صعيد آخر من البحث.
4 ــ هناك صعيد رابع، وهو: ما الشبه والإشكالات في المقام؟ فقد يتساءل مسلم شيعي، فيقول: كيف يكون من المعقول أن يخرج الإمام علي (ع) وهو يعلم بوجود ابن ملجم المرادي، ويعلم بمقتله على يده، أليس هذا من إلقاء النفس في التهلكة، أم لا؟
وكيف يمكن أن نفسّر خروج الحسين (ع) وهو يصرّح تصريحاً واضحاً، فيقول: ( خطّ الموت على ولد آدم مخط القلادة على جيد
الفتاة) (
[3][3]) ، فيخرج وهو يعلم علم اليقين بمقتله في العراق، أليس هذا من إلقاء النفس في التهلكة، أم لا؟
وكيف يمكن أن ينصب علي (ع) والياً أو مستشاراً للبصرة كأمثال زياد بن أبيه، الذي هو غير طاهر النطفة، فكيف يعقل ــ مع علمه ببواطن الأمور ــ أن ينصب مثل زياد بن أبيه والياً أو مستشاراً، ومن شرائط الولاية الطهارة، فقد يقول القائل إذا كان إمامكم يعلم الغيب فكيف أودع الأمور إلى مثل زياد بن أبيه؟
هذه تساؤلات ربما ترد في المقام، فتكون شبهة في مقام علم الإمامة، وهناك الكثير من مثل هذه الشبهات التي تورد في المقام.
فنقول: أولاً في مسألة مفردات العبارات، وهي: ( نحن الكلمات التامات) ، فالكلمة لديها معنى واضح لدى كل أحد؛ حيث إنّ الكلمة ما تعرب عن الضمير، فكيف يكون الوجود الإمكاني كلمة الله تعالى؟
والمطلب يكون واضحاً حينما نعرف أنّ ما في الوجود جميعاً هي آيات الله الدالة عليه، فهو ربّ العالمين، فإذا كانت الذرة آية، وإذا كان الجبل آية، وإذا كان كل شيء آية، باختلاف الآيات صغرى وكبرى { لنريك من آياتنا الكبرى} ([4][4]) ، فإذا كان الرسول (ص) الكلمة التامة، أي: الآية التي جمعت حقائق الأمور، فكانت شارحة لكل ما يمكن أن يفترض في عالم الإمكان من الأسماء والصفات، فالله تعالى هو الحق المبين، والسلام والملك والعالم والعليم و ... ، فهل المراد أنّ الكلمة التامة كرسول الله (ص) تعرب عن هذه الحقائق وتحكيها؟ فهو مظهر علم الله وعدلـه، وهو مظهر جميع الحقائق؛ لأنه الكلمة التامة، فرسول الله (ص) جامع شتات عالم الإمكان شهادة وغيباً على اختلاف مراتب الغيب برزخاً وعقلاً ونوراً، حتى قال: أوتيت جوامع الكلم، فهلاّ يكون من أوتي جوامع الكلم حاكياً لكل أبعاد هذه الحقيقة على قدر ما يمكن الحكاية عنها في عالم الإمكان من الأسماء والصفات الإلهية، أم لا؟ وهل لمثل هذه الكلمات ــ وإن كانت ربّما يمرّ عليها الإنسان مرور الكرام ــ أن تكون صامتة لا تحكي عن شيء لكن لو استنطقها الإنسان لوجدها ناطقة بكثير من حقائق الأمور؟
فعلينا أن نكون أكثر تروّياً واستنطاقاً للكلمات، فرسول الله (ص) وهو الكلمة التامة لابد وأن تكون هذه الكلمة حاكية عن كل واقع الأسماء والصفات الإلهية، فهل يكون من الغريب لو أخبر عن حدثٍ في كون؟ كلاّ، لكنه ما وجد مكاناً للعلم حتى يحكي عن ما كان وما يكون، فالأمة الجاهلة في ظلمات الجهل كيف تستنطق سيّد الكائنات فتأخذ منه أبعاد العلم والمعارف!
وهكذا علي (ع) ما قال مقالته لجهّال في صفين: ( أنا القرآن
الناطق) (
[5][5]) وهو يعلم أنّ هؤلاء صمٌّ بكمٌ عمي، فهو أرادها لي ولك إن كنّا من الأحياء، وأرادها للأجيال إن كانت تمرّ وتستنطق الكلمة استنطاقاً بأنّ علياً (ع) حينما قال: ( أنا القرآن الناطق) ماذا أراد؟ والقرآن تبيان لكلّ شيء، وهو إمامه المبين، فإذا كان آدم (ع) كلمة لله بقدر سجدت لـه الملائكة الكرام، وعلّمها الأسماء، ولم يتعلّم منها، ولم يسجد للملائكة لعلوّ مقامه بإزاء الملائكة، فما هي مكانة محمّد (ص) بالنسبة إلى آدم (ع) ؟ فمهما كان من جلالة القدر فإنّ محمّداً (ص) أولى من آدم (ع) بكل هذه الأمور، لكن ماذا يصنع الكتاب المجيد، وماذا يصنع أهل البيت في أمّة لم تعرف الواضحات والكلمات الجزئية فضلاً عن هذه الكلمات التامات؟
فإذن: أوّل شيء في المفردات التي يجب أن نلتفت إليها، وهي: أنّ الكلمة هي ما تعرب عن الضمير، وإذا كانت الكلمة ما تعرب عن الضمير وكان الرسول (ص) هو الكلمة التامة الذي يعرب عن كل الأسماء والصفات الإلهية، وما كان معرباً عن جميع الأسماء والصفات الذاتية الإلهية فهو بالأولى أن يكون معرباً عن الأسماء والصفات الفعلية، وهو بالأولى أن يكون محيطاً بكل حقائق العرفان على أبعادها في عالم الإمكان، هذا من ناحية استنطاق كلمة ( نحن الكلمات التامات) .
وأما لو جئنا نستنطق كلمة الخلافة، فأولاً لو كانت خلافة مقيدة بالأرض لما أمر الملائكة الكرام بالسجود لخليفة الأرض.
فإذن: هو خليفة الله في عالم الإمكان، فهو الإنسان الكامل الذي هو خليفة العرفان والنور، وهو خليفة كل ما هو نور ساطع يتجلّى تقتبس من أنواره من لها الأهلية للاقتباس.
فيجب علينا أن نعرف هذه المعاني والكلمات حتى لا نقع في الخلط بين ضلالتنا وضلالة محمّد (ص) الواردة في الآية الكريمة { ووجدك ضالاًّ فهدى} ([6][6]) ، فنظن أنّ ضلالته (ص) هي ضلالة بإزاء قصور معين، فنحمل ضلالة معجزة الكون محمّد (ص) على ضلالة أمثالنا: من ترك واجب، أو إقدام على محرّم، وإنّما ضلالة محمّد (ص) ضلالة قصور الإمكان بإزاء لا نهاية الحق تعالى، وليست ضلالة أمثالي من الجهال المحجوبين بحجب الظلمات، حتى لا نحمل ضلالة العظماء الذين هم مظاهر تجلّيات الحق على ضلالة أنفسنا كما ظنّها الجاهلون، فظنوا أنّ محمداً (ص) حامل بريدٍ قام بواجبه وانتهى الأمر.
أجل، هكذا تكلّم الجاهلون!
ومن المواضيع التي يجب أن نلتفت إليها والآية الشريفة واضحة في ذلك { كل شيء هالك إلاّ وجهه} ([7][7]) ، وهناك روايات كثيرة تقول: ( نحن وجه الله) ([8][8]) فما المراد من كون إنسان يكون وجهاً لله تعالى؟
فنقول: أوّلاً: الوجه ما يحكي الشيء، فأنت تعرف الإنسان من وجهه، ولا تعرفه من يده، ولا من رجله، فالذي يحكي الشيء ما كان وجهاً لـه.
ثم الأمر الثاني ( كل شيء هالك) فقد فسّر العلماء هذه الكلمة بتفاسير، فبتفسيرها البسيط:
1 ــ أنّ كل شيء هالك يعني: يؤول إلى الفناء والعدم واللاشيئية إلاّ الله تعالى حينما فسّروا الوجه بالحق تعالى وبذاته المقدّسة، وهذا أدنى ما يمكن أن يتصوّره متصوّر.
2 ــ وهناك تفسير آخر، وهو: أنّ الحقائق الإمكانية هالكة بذواتها وماهياتها، وأنّ وجه الله وهو فيضه على عالم الإمكان هو الباقي، فهناك هلاك للماهيات وللذوات.
ولنضرب مثالاً للتقريب الذهني، فنقول: إنّ الله تعالى خلق النطفة، ثم رتّب حدودها لتكون علقة، فهو هلاك ماهية، أي حدّ، ثم أهلك مرتبة الجنين حتى لا تبقى الخلائق متقيّدة بضيق حدودها لتنتقل بعد هلاك مرحلة الجنين لتكون طفلاً، ثم شباباً وكهولة وشيخوخة، وهلمّ جرّا، فالهلاك هو هلاك الحدود والماهيات، والباقي هو لطف الله وفيضه على الكائنات، لكن هذا أيّ ربطٍ لـه بعلم الإمامة؟
نقول: ربما يتكلّم الإمام كلمة يريد منها بُعداً عظيماً لا يمكن أن نمرّ عليه مرور الكرام حتى لو قلنا: إنّ الله تعالى أشار في مسألة الهلاك إلى هلاك الحدود والماهيات، لا إلى هلاك الوجودات؛ لأنّه ما خلق الخلق للعدم، وحاشاه أن يخلق الخلائق ثم يسوقها بعد فترة إلى اللاشيئية وهو القائل: { إنا لله وإنا إليه راجعون} ([9][9]) ، والرجوع إلى الله رجوعٌ إلى الله بسير لا متناه نحو مبدأ الكمال، فكيف يمكن أن يتصوّر متصور أنّ الله تعالى خلق الخلق للهلاك بمعنى العدم؟ فهذا من المستحيلات.
3 ــ فإذن: كل وجودٍ هو لطف وفيض إلهي، فحينما يكون الفيض الإلهي والوجود المفاض من قبل الله هو وجه الله الذي أجراه على هياكل الممكنات فراحت الممكنات تغيّر ألبسة، أيّ: تغيّر حدوداً وماهيات كانت رتقاً، ففتقت بأسبابها، فالمراد من الوجه ما يحكي الحق حكاية تامة، فحينما يقول المعصوم (ع) مع كون الممكنات جميعاً هي وجه إلهي؛ لأنّها من فيض الله تعالى، يقول: نحن الوجه الإلهي، إذن: يريد أن يقول: لا تخدعوا أنفسكم بملك أو ... ، ولا بأي آية من آيات الله الصغرى والكبرى، فلا يمكن أن تصلوا أو تجدوا الله تعالى بجميع أسمائه وصفاته، فالذي يحكي الحق ــ بكل أبعاد الكلمة ــ نحن ، أي: الكلمات التامات الإلهية.
ويمكن من طريق الوجه أن نقول: إنّ الوجه التام لكلّ حقائق الأسماء والصفات الإلهية ولكلّ آيات الله صغراها وكبراها هو رسول الله (ص) وأهل بيته الكرام، فهم وجه عدله وعلمه ورحمته وجميع شؤون ما يمكن أن يكون، وهذا لا يمكن أن نتردّد فيه.
فلعلّ البعض يتمكن أن يستدل على علم المعصومين وعلى رأسهم سيد الكائنات محمّد (ص) من طريق الوجه الذي أشرنا إليه.
فعندنا روايات أيضاً، وهناك الحديث المشهور عن علي (ع) الذي لا أظنّ أنّ شيعياً لم يسمع بهذا الحديث، حيث قال: ( لو كُشف لي الغطاء ما ازددت يقيناً) ([10][10]) اليقين بالعلم والمعارف والآيات الموصولة إلى الله تعالى.
فعلي (ع) يشير إلى أنّ ما توصّل إليه بعقله وبفطرته، وبما توصّل إليه بواسطة رسول الله (ص) ، فهو يشير إلى أنه يعيش عرفاناً تاماً، فلو كشف الغطاء، أي: غطاء عالم الدنيا وتجلّت حقائق عالم الغيب، ما كنت لأزداد يقيناً، فبفطرته وعقله وعلمه يعيش الشهود، أو لأني متيقن بكل حقائق الأمور، فلا ازدياد بمعرفة ولا يقين؛ لأنها لو انكشفت ما جاءت بجديد، وأي جديد يتجاوز ليلة المعراج لرسول الله (ص) حتى يكون جديداً على علي (ع) نفس رسول الله (ص) بنص الكتاب المجيد { وأنفسنا وأنفسكم} .
وآخر حديث أشير إليه هو قولـه: ( لو كسرت لي الوسادة لحكمت بين أهل التوراة بتوراتهم، وبين أهل الإنجيل بإنجيلهم، وبين أهل الزبور بزبورهم، وبين أهل الفرقان بفرقاهم، والله ما من آية نزلت في برّ أو بحر، أو سهل أو جبل، ولا سماء ولا أرض، ولا ليل ولا نهار، إلاّ أنا أعلم فيمن نزلت، وفي أي شيء نزلت) ([11][11]) .
فعن أي سماء يتكلم علي (ع) ؟ يريد أن يقول: إنّ أي شيء نزل ولو في ليلة المعراج، وفي أيّ محل ومكان، فهو (ع) عارف بها ( ولا سماء ولا أرض، ولا ليل ولا نهار إلاّ وأنا أعلم فيمن نزلت وفي أيّ شيء نزلت) .
والحمد لله ربّ العالمين.



[1][1]ــ
[2][2]ــ التوحيد، الشيخ الصدوق: 150 ، ح 4 .
[3][3]ــ كشف الغمة، الإربلي 2 : 239 .
[4][4]ــ سورة طه، الآية 23 .
[5][5]ــ ينابيع المودة، القندوزي 1 : 214 ، ح 20 .
[6][6]ــ سورة الضحى، الآية 7 .
[7][7]ــ سورة القصص، الآية 88 .
[8][8]ــ التوحيد، الشيخ الصدوق: 150 ، ح 4 .
[9][9]ــ سورة البقرة، الآية 156 .
[10][10]ــ مناقب آل أبي طالب، ابن شهرآشوب 1 : 317 .
[11][11]ــ شرح مائة كلمة، ابن ميثم البحراني: 218 .

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق