الثلاثاء، 23 أبريل 2013

علم الرسول (ص) وأهل البيت عليهم السلام



كتبت من محاضرة صوتية ألقاها الشيخ في الكويت عام 1995م

الكلام في هذه المحاضرة عن علم رسول الله (ص) وأهل بيته الكرام، بما يمكن أن يستفاد من طريق الشرع، بعدما مرّت الكلمات عن العرفاء والفلاسفة.
فهناك أمران لابدّ من الالتفات إليهما:
الأمر الأول: ما هي أبعاد شريعة رسول الله (ص) ؟
والأمر الثاني: ما هو العلم؟
أما الأمر الأول: فيقع هاهنا تساؤل، وهو: هل يجب على حامل الرسالة ومبيّن بطونها ومؤوّلها ومفسّرها أن يكون عالماً بجميع أبعاد الرسالة علماً قطعياً أم لا يجب ذلك؟ أم يجوز أن يكون اجتهاداً ربما يصيب فيه الشخص الواقع وربما يخطىء، وهل يكون هذا إتماماً للحجّة على البشرية ببعث الأنبياء والأوصياء من بعدهم، أم لا؟
فكلّ إنسانٍ بفطرته إذا لم يصب بشبه المخطئين يجزم جزماً قطعياً على أنّ حامل الرسالة وأن مَن يراد أن يبيّنها من بعده ــ وهم الأوصياء ــ يجب أن يكونوا عارفين بالرسالة بكل أبعادها وبطونها علماً قطعياً يقينياً، وإلاّ فلا تكون الحجة البالغة من الله تعالى متحقّقة على العباد يوم القيامة.
وإذا كانت هذه المقدّمة من المسلّمات العقلية في المقام فنتساءل هاهنا ونقول: إذا كان الكتاب المجيد تبياناً لكل شيء ولم يغادر صغيرة ولا كبيرة إلاّ أحصاها، وإذا كان الكتاب المجيد به الخاتمية لكلّ ما جاء من زمن آدم (ع) إلى زمن رسول الله (ص) ، فهل من المعقول أن يدع الله أمراً من الأمور لم يكن مبيّناً في هذا الكتاب؟
وهذه مقدّمة سنعود إليها مرّة ثانية من بعد بيان العلم.
فإنّ العلم على نحوين:
1 ــ العلم بالأسس والكليات .
2 ــ العلم بالجزئيات.
فالعلم بالكليات كأن يكون الإنسان عالماً بأسس الشريعة وشؤونها، وأن يكون عالماً بكل ما هو نور مقرّب إلى الله تعالى؛ حيث نتساءل في المقام: هل تكون العلوم الطبيعية إضافة على العلوم المعنوية الروحانية العالية موصلة إلى الله، أم لا؟
فإذا كان الطبيب بطبّه يتمكن أن يتوصل إلى الله تعالى، وكذلك الفيلسوف بفلسفته؛ لأنّ العلم نور يكشف الحقائق، وإذا كانت الرياضيات وجميع العلوم المختلفة هي من الأمور التي من الممكن أن تكون سببا للوصول إلى معرفة الله تعالى، فهل من الضروري أن يكون النبي عالماً بكل هذه الأمور؛ لأنّها علم، أو يجب أن يكون فقط وفقط عالماً بشؤون الرسالة؟
فإذا قلنا: يجب أن يكون عالماً فقط وفقط بشؤون الرسالة؛ لأنها رسالة إلى الناس وإلى الخلق، وأنّ الكتاب المجيد لا يحمل إلاّ بُعداً رسالياً لإيصال المجتمع إلى الكمال، قيّدنا الرسالة بقيودٍ وضيّقنا دائرة الرسالة، والحال أنّ رسول الله (ص) قبل أن يكون رسولاً كان ولياً وكان إماماً وكان نبياً، والرسالة أدنى شؤونه المتأخّرة التي حصلت في سنّ الأربعين لرسول الله (ص) .
فالرسالة إبلاغ للآخرين، ورسول الله (ص) فوق هذه المستويات، فهو سيّد الكائنات، ولم تحدّد رسالته، ولم تحدد شؤونه وأموره بحدود الرسالة وخطابات الله تعالى لـه سواء في الكتاب المجيد أو فيما أوحى إليه في ليلة المعراج أو في إدراكاته العقلية وفي سلامة فطرته وهمّته بما يكون أمراً رسالياً مرتبطاً بالمجتمع، فالمجتمع مهما بلغ فليكن من الإدراك يدرك من التمام بالمائة عشرة أو ثلاثين أو خمسين فهذا غاية مبلغ علمه، فهل تحدّد رسالة السماء الخاتمية بكلّ أبعادها ورموزها وعللها وشؤونها بقدر خمسين درجة ويترك الله تعالى نبيه الأعظم سيّد الأولين والآخرين ومعجزة التكوين في مرتبة الرسالة ومرتبة عامة الخلق؛ لأنّ الناس لا يدركون ولا يتمكّنون من الإدراك والمعرفة إلاّ بالمائة خمسين، فلا يتصور متصور أن الرسول (ص) يحمل من المعارف ما هو من شأن الرسالة، فما هو من شأن الرسالة خطاب على قدر إدراك الجن والإنس، أو أضف إليه ما يمكن أن يتوصل إليه الملائكة الكرام، ومحمد هو نبي ومبيّن لكل العالمين؛ لأنه الرحمة للعالمين، بل ولـه مقام الخلوة والفناء مع رب العالمين، فأولاً يجب أن نلتفت إلى أنّ العلوم على قسمين:
1 ــ أسس ومعارف عامة.
2 ــ جزئيات. والجزئيات تقسّم إلى ثلاثة أقسام:
أ ــ ما يكون دخيلاً في شأن الرسالة.
ب ــ ما يكون دخيلاً في اختبار المعصوم نفسه.
ج ــ ما لا مدخلية لـه، لا في شأن رسالي، ولا في شأن اختباري يعود إلى الولي نفسه، وسنضرب لهذه الأمور أمثلة.
أمّا القسم الأول: فكلّ أمر جزئي لـه صلة بمسألة التوحيد لابد وأن يكون معلوماً للنبي (ص) .
فمثلاً: لو كان أناس يتآمرون على هتك نبي أو على إظهار كونه غير عالم بأمر من الأمور في شأن الرسالة سواء في توحيدها أو نبوتها أو إمامتها مثلاً أو في بيان علل تشريعها أو في بيان تفسيرها أو تأويلها أو ما شاكل هذه الأمور، أو أن أناساً اجتمعوا في مكان وأرادوا أن يدخلوا على نبي أو وصي ليثبتوا أمام المجتمع أنه لا يعرف غيباً ولا يعرف أمراً يعود إلى شأن الرسالة في أي جانب من جوانب تلك الرسالة، فمن المستحيل أن يجعل الله تعالى أناساً يتمكّنون أن ينالوا من كرامة مؤمن فضلاً عن سيد الكائنات وعن أوصيائه الكرام.
وأيضاً لو أنّ أناساً دبّروا لقتل نبي فإنّ الله تعالى يكشف لنبيه مؤامراتهم، ولو أنّ أناساً جاؤوا فيما بينهم وقالوا: نسأله بكذا وكذا شيء ونستفهمه عن زيد أين هو الآن، وعن كثير من القضايا الجزئية، فلابدّ وأن يكون ذلك الوصي بإذن الله تعالى عارفاً، أو يطلعه الله تعالى بتلك القضايا الجزئية؛ لأنها تنال من الرسالة وتدخل في شؤونها، أو كما ورد في الأحاديث: إن شاؤوا علموا.
فكل الأمور الجزئية بلا استثناء إن كانت تدخل في شؤون الرسالة كهجمة توجّه إلى الرسالة في أي بُعدٍ من أبعادها لابد وأن يكشفها الله تعالى لأوليائه، أو أمر يخدم الشريعة فلابدّ وأن يطلعهم الله تعالى عليه حتى لا تكون الغلبة لأي إنسان على وليّ من أولياء الله تعالى.
وأما القسم الثاني: فإن بعض الأمور الجزئية لا صلة لها بالرسالة بأي بُعدٍ من أبعادها أبداً، لا في شأنها المعرفي، ولا في شأنها العرفاني، ولا في خطرٍ يتوجّه إليها.
فمثلاً : إذا أكل اليوم زيد في بيته خبزاً فهذا لا شأن لـه بالعلم، ولا في الرسالة، أو مثلاً ماذا تكلّم اليوم عمرو مع زوجته؟ فهل يجب أن يعرف المعصوم أيضاً هذه الأمور حتى تكون كلّ همسات الناس وغزل الناس فيما بينهم مكشوفاً للمعصوم؟ كلاّ، فأي ثمرة في مثل هذه الأمور، فليتكلّم الناس مع نسائهم، وليأكلوا ما يأكلوا وليدّخروا ما يدّخروا في بيوتهم فإنه لا ربط لـه بمعرفة؛ لأنه ليس بعلم حتى تتوجّه نفوسهم عليهم أفضل الصلاة والسلام إلى معرفتها، وليسوا كمثلي ومثلك يريدون عبثاً أن يعرفوا بعض الأمور. حاشاهم من هذا الأمر.
فكل جزئي لم يدخل في شأن الشريعة ولا يدخل في اختبارهم الشخصي لا يكون مطلوباً للأولياء، ولا يطلبونه من ربّهم؛ لأنّ الجزئيات ليست بعلم، بل العلم نور وطريق إلى الله تعالى، ولو كان فيزياء أو كيمياء أو طبّاً، أمّا ماذا قال فلان؟ وماذا أكل و ...؟ فلا دخل لـه بالشريعة.
فلعل قائلاً يقول: ها هو القرآن المجيد بكلّ صراحة من القول تكلّم عن عيسى (ع) وقال: إنه يعلم ما يدّخر الناس في بيوتهم !
نقول: في أي زمنٍ وفي أي عصر إذا أصبحت جزئية من الجزئيات بنظر الناس علماً لابد وأن يكون الولي عالماً بها حتى لا يتصور الناس منقصة فيه؛ وذلك لحسبانهم أنّ ذلك من العلم، فالمجتمع الذي يخاطبه رسول الله (ص) قائلاً : سلوني عمّا بدا لكم قبل الساعة، يتكلّم معه متكلّمهم قائلاً: هل أنا ابن أبي؟! ويخاطب آخر علياً (ع) عندما قال: ( سلوني قبل أن تفقدوني) قائلاً: كم شعرة في لحيتي؟([1][1]) فلعل هذا يكون علماً بمستوى أمّة، فلابدّ وأن يكون الإمام عالماً بأنه كم لـه من شعرة، وكم شيطان تحتها، فهذا لا يسمى علماً، لكنّ المستوى إذا تدنّى ووصل أمر المجتمع في السقوط إلى مرحلة يظنون أنّ هذا من العلم، لابد وأن يطلع الله تعالى أولياءه على تلك الأمور الجزئية؛ لأنّه في كل زمان قد يرى الناس شيئاً من أهم الأمور، كما أنّهم في زمانٍ رأوا السحر من أهم الأمور، فلابدّ وأن يتدرّع أولياء الله بأعظم ما يكون من الأمر ليردعوا السحرة، وإذا كان يوم من الأيام يعتبر علم الكفّ علماً عظيماً عند أمة فيجب أن يكون الولي عارفاً به حتى يردع به الآخرين، فهو أداة ردع، وليس مطلوباً بذاته لولي من الأولياء.
فإذن: صنف من الجزئيات التي تدخل في دعم الشريعة أو ردع العدوان عنها لابدّ وأن يكون معلوماً لدى الأولياء، وصنف آخر لا ربط لـه ولا صلة لـه بشريعة لا حاجة لكي يعرفه المعصوم أو الولي.
وهناك أمر ثالث يجب الالتفات إليه، وهو: أن رسول الله (ص) قال:
( ما أوذي نبي مثل ما أوذيت) (
[2][2]) .
فإذا كانت البلايا تصبّ على زيد المؤمن بعشر درجات، وتصبّ على غيره ممّن هو أعظم منه معرفة وثباتاً بعشرين أو ثلاثين درجة، فهي تصبّ بكل واقعها وبكل أبعادها على رسول الله (ص) بمائة درجة.
وفد ورد عن احد الائمة عليهم السلام ما مضمونه أن رجلا قال له :والله إني لأحبكم أهل البيت، فقال (ع) : ( إن كنت صادقا إتّخذ البلاء جلباباً) ([3][3]) ، وإذا كان المؤمن يتجلبب البلاء جلباباً فما حال رسول الله (ص) ! وكيف تنزل عليه البلايا التي لا يمكن أن يتصوّرها متصوّر.
وحينما قال: ( ما أوذي نبي مثل ما أوذيت) ما كان تجوّزاً في الكلام، ولا مبالغة، بل هو واقع الأمر.
فرسول الله (ص) وهو سيد الكائنات يبتلى بأشد البلايا؛ لأنه ليس من المعقول أن يخاطبني ويقول: اصبر على الجوع وهو شبعان، ويقول لي: اصبر على الحر والبرد والحرب والجوع وهو يعيش أمنها وأمانها؟ فلا يكون أسوة للبشرية إلاّ إذا كان في قمّة الصبر والثبات وتحمّل المشاكل على اختلاف أبعادها، فإذا كان العظماء كذلك فهل من المعقول أن يطلبوا كشف الأمور التي هي من موارد اختبارهم؟ كأن يقول إبراهيم (ع) : إلهي ما تريد منّي من ذبح ولدي، أهو أمرٌ اختباري، أم أنك واقعاً تريد منّي ذلك؟ ولو قال الله تعالى لـه: بل أريده اختباراً، فهل يكون لإبراهيم (ع) شرفاً عظيماً وصبراً وجلداً يوصف به إبراهيم (ع) الذي أخبره ربّه مسبقاً بأنّك لا تذبح ولدك إسماعيل واقعاً؟
فلعلي أنا لو قيل لي بهذه المقالة وعلمت أنها أمور امتحانية صورية فبدلاً من أن أضع السكين على واحد من أبنائي أضعها على اثنين؛ لأني جازم جزم اليقين وقاطع أن الله أخبرني أنّ المراد منك أن تضع السكين على رقبة ولدك، وحاشا لله أن يختبرني أنا حينما يأمرني في معركة فأخرج إليها مودّعاً الأهل والغالي والنفيس وقاطعاً جميع روابط الدنيا، ويخرج الولي وهو يعلم أنه لا يدفع شيئاً أبداً؛ لأنه أخبر بأنك لا تصاب بشيء أبداً، أيكون ذلك اختباراً؟ ولو كان ذلك اختباراً لما مدح الله تعالى إبراهيم (ع) بمدحٍ عظيم.
فإذن: كلما يكون من شؤون اختبارهم الخاصّة لا يطلبونه من ربّهم، ولا يريدون كشفه من ربّهم، فالحسين (ع) في ساحة كربلاء بولايته التكوينية كان قادراً أن يضرب بيده الأرض فتتفجّر أنهاراً، لكنه ما فعل ذلك.
ولا يتصوّر متصوّر أنّ الحسين (ع) لو طلب من ربّه ماءاً يمتنع منه الماء، فهذه من المستحيلات الأولية، لكنّ الحسين (ع) يريد أن يقول لي ولك: إنّ عطش الناس فقد عطشنا، وإن عاش الناس في السجون فقد عشنا، وإن قدّم الناس ولداً فقد قدّمنا، وإن قدّم الناس نساءهم للأخطار فقد قدّمنا، وإن عشتم البلاء والجوع فقد عاشه رسول الله (ص) في شِعب أبي طالب ثلاث سنوات، هكذا تكون الأسوة.
أما الأمور الكلية فأقول بمقالة مختصرة: إنّ العلم نور وكشف وانكشاف، وكل نور روزنة تطلّ على الحق تعالى، فما جعل شيئاً إلاّ وجعله آية مقرّبة إليه، سواء كان هذا العلم من علم عالم الشهادة وعالم الطبيعة والدنيا، أو كان هذا العلم من علم عالم الغيب، بأيّ مرتبة من مراتب عالم الغيب، وإذا كان لا يكشف لسيد الكائنات (ص) أيكشف لزيد أو عمرو؟ كلاّ ثم كلاّ.
فإذن: كلما كان علماً لابد أن يكون مكشوفاً لهم.
وهناك سؤال، وهو: هل معرفة اللغات من العلم؟ لأنه عندنا روايات تقول: يعرفون اللغات.
ولعلّ قائلاً يقول: هذا ليس من العلم، فيكفيه أن يكون عارفاً باللغة العربية.
نقول: هذا من العلم، ويجب أن يكون معلوماً لديهم، فالمعصوم قادر ببلاغة كلامه وفصاحته أن يبيّن شؤون الرسالة بلا زيادة ولا نقصان، كما وأنّ القرآن إعجاز في بيانه، فإن القرآن الناطق إعجازٌ أيضاً، ولابد أن يكون الحجّة (عج) عند ظهوره عارفاً بجميع اللغات حتى يخاطب الأمم على طبق عقولها وفهمها بلغاتها المختلفة؛ لأني لست قادراً أن أبيّن الشريعة بكلّ أبعادها.
وللحديث تتمّة تأتي إن شاء الله تعالى.
والحمد لله ربّ العالمين




[1][1]ــ أنظر: خصائص الأئمة، الشريف الرضي: 62 .
[2][2]ــ مناقب آل أبي طالب، ابن شهرآشوب 3 : 42 .
[3][3]ــ مستدرك الوسائل، المحدّث النوري 2 : 437 ، ح 2399 .

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق