الأربعاء، 24 أبريل 2013

@ الأخلاق المحاضرة رقم 8



لسماحة الأستاذ الشيخ محمد كاظم الخاقاني

البحث ــ كما هو معلوم ــ في المسائل الأخلاقية، وما أمر به الإسلام من أجل التخلّق بأخلاق اللَّه؛ للرقي إلى الحق تعالى، وخلق الحق هي العلم والحكمة، فالمؤمن مظهر العلم والحكمة والعفو والإحسان والرحمة والعز، وكلما هو من شأن الكمال والأسماء الحسنى في عالم الإمكان.
وفي هذه المحاضرة سوف نتكلّم عن مولد الإمام الحسين (ع) ، ثم ندخل ــ بعد التبرّك بذكر الحسين ــ إلى محل البحث.
أهمّ حدثٍ وقع في تاريخ الإسلام هو ما قام به الإمام الحسين (ع) ، من قيام هزّ أركان الدولة الأموية، وأقام الحجّة على البشرية كافّة، وعلى المسلمين قاطبة، بخروجه في يوم التروية حتى أقيمت الحجّة على كافّة المسلمين آنذاك، لكي لا يقول قائل منهم: إنّه لم تبلغه كلمات الحقّ، وما سمع بنداء الإصلاح والعدل، فبقي صوت الحسين (ع) مدوّياً عبر القرون، وسيبقى عبر الدهور مدوّياً يميز بين الحقّ والباطل.
فمن السيرة التي يمكن أن تستفاد من موقف الحسين (ع) : أنّ الأمة الإسلامية انقلبت على الأعقاب مرّتين، أوّل مرّة قابلها الإمام علي (ع) في انقلابها الأوّل، فأقام الحجّة على البشرية كافّة، وعلى المسلمين خاصّة؛ لأنه اعترض خلافة لم تكن على الأسس والموازين حينما جاءت الأمة لتبقي الإطار والشكل الظاهري للإسلام، وتنسف القيم الرسالية نسفاً باطنياً بصورة إسلامية، وباطن يجتمع مع روح الجاهلية، وهذا هو الانقلاب الأول على الأعقاب الذي أصيبت به الأمة الإسلامية بعد رحيل قائدها الأعظم
محمد (ص) ، فانقلاب بعد وفاة الرسول كان هدماً لواقع الأسس، مع بقاء الإطار الصوري للقيم الرسالية بتبدّل المحتويات والحقائق الداخلية للقيم الرسالية، فوقف علي (ع) ذلك الموقف العظيم ليقيم الحجّة على الأمم كافّة: بأن الذي أصبح يجري باسم الإسلام هو إطار بلا محتوى، هي قيم ظاهرية لم تكن قائمة على أسس الحق
.
وجاء من بعد خمس وعشرين سنة ليرجع المياه إلى مصبّها، فأصبحت الأمور صعبة، وذلك كي يتميّز الحق من الباطل، من بعد ما تلبّس الباطل بلباس الحقّ، فكانت المشكلة الكبرى لعلي (ع) وأساس عمله في زمان حكمه هي المحاولة لتأويل الشريعة وبيانها، وإرجاعها إلى أسسها، حتى لا يفسّر الصبر بالاستسلام والمذلّة، وحتى لا تفسّر القيم الرسالية بما فسّرت به في ضمن خمس وعشرين سنة، فجاء ليرجع الحقيقة الإسلامية إلى عهد الرسول (ص) ؛ حيث راح ليقول قائل القوم: بأنه ما المانع إذا وصلت رحماً بإعطاء خراج البصرة؟ فهكذا فسّرت صلة الأرحام على حساب الشريعة، وعلى حساب بيت مال المسلمين، ويقول قائل القوم أيضاً: كيف أغمد سيفاً سلّه رسول اللَّه (ص) ؟ أيّ سيف سلّه رسول اللَّه (ص) ؟
سيف يتجاوز على الأعراض بعد مقتل إنسان مسلم أعطي الأمان، بعد الأمان يعتدي المعتدي على عرض المقتول المسلم في نفس الليلة، ويخاف ولي أمر المسلمين من أن يغمد سيفاً سلّه رسول اللَّه (ص) ؟! فلست أدري السيف الذي سلّته الرسالة المحمدية: سيف الغدر والزنا، أم سيف الصلاح والحق؟
هكذا فسّرت الرسالة في عصر بعض الخلفاء بعد وفاة الرسول (ص) ، ومسألة الشورى بعد وفاة الرسول (ص) والتعيين للخليفة الثاني تحت ظلال السيوف، ومهزلة الشورى التي توصّل بها الخليفة الثالث للحكم واضحة لكل متأمّل لم ينظر إلى التاريخ الإسلامي بمنظار العصبية الطائفية.
فجاءت الأمور لتقسّم على طبق القبليات، فقسّمها الرجل إلى أموال مختلفة بعد صراحة ثابتة من قبل الرسول (ص) : أنه ما كان يفرّق بين عربي وأعجمي، بين أبيض وأسود، بين من أسلم في صدر الإسلام أو من أسلم بعد ذلك، كانت عدالة من أجل حياة المجتمع، فجاء الرجل ليقيّم الناس بالمال من بعد ما قيّمها الرسول بالتقوى، وفي كثير من الميادين أعطى المؤلّفة قلوبهم، وأعطى الكثير من البعداء عن روح الإسلام؛ لأنه يعرف أنّ ارتباطهم بالشريعة إنما هو ارتباط مالي مصلحي، وترك الكثير من المقرّبين بلا عطاء، أو قلّل من عطاياهم، وحينما بلغته بعض الكلمات، قال: ألا تحبّون أن يرجع الناس بالمال والسبايا وترجعون بمحمّد (ص) ([1][1]) .
هكذا كان التقييم للرسالة وحملتها في عصر الرسالة، فمرّت على الرسالة فترة من الزمن جرى فيها التلاعب بالمقاييس باسم الدين، فجاء علي (ع) ليرد الشريعة إلى مجاريها الحقيقية، فكان ما كان من أمّة اعتادت الانقلاب على الأعقاب، فأصبحت متوحّشة متألّمة مبتعدة ممّا يقوله علي (ع) ؛ لأنّها عاشت الترف والنعيم والقيادة على حساب الدين، فوقف بعد وفاة الرسول (ص) لينزّه الرسالة من تحريف باطني، مع حفظ الإطار الظاهري.
أمّا الموقف الثاني: فكان للحسين (ع) ، فقد نسفت الشريعة بقيمها الظاهرية والباطنية في زمان يزيد بن معاوية، فجاء الحسين بعد انتهاء الرسالة بكل قيمها، وقد شاعت الخمور والجرائم، ونسفت الشريعة بلا شورى ولا إمامة، يحكمها شاب عاش المجون والطرب والانحراف، والأمة قبلت: أنه أمير المؤمنين، وأنه ممثّل الرسالة، وأنّه خليفة رسول اللَّه (ص) ، فجاء الحسين (ع) ليقول: أيها الناس، الحجة أقيمت عليكم بعلي (ع) حينما حرّفتم الرسالة باطناً، ونسفتم القيم الحقيقية، وأبقيتم الرسالة رسالة فردية، يقوم بها المؤمن في بيته.
فوقفة الحسين ــ إذن ــ كانت وقفة لبيان نهاية الرسالة بقيمها الباطنية والظاهرية، ولذا نشاهد أن الأئمة وقفوا في موردين: المورد الأوّل حينما انقلبت الأمة على الأعقاب بعد وفاة الرسول (ص) ، وانتهت القيم الباطنية؛ والمورد الثاني لما انتهت الرسالة بكل قيمها ظاهراً وباطناً، فجاء الحسين (ع) ليقول للأمة: إن كنتم تظنّون أنّ لكم حجة يوم القيامة، إن كنتم تخدعون أنفسكم بأن لكم مبرّراً باتّباعكم لزيدٍ وعمرو، الذين قالوا: كيف نغمد سيفاً سلّه رسول اللَّه، سيف الغدر والزنا، فالآن أعلن لكم انتهاء الإطار الظاهري أيضاً، فلا إطار ظاهري للأمة، ولا إطار باطني لها، حتى تتمكن أن تدّعيه يوم القيامة.
والدرس الثاني ــ الذي يمكن أن نفهمه وأن نأخذه من مسيرة
الحسين (ع) ــ : أنّه جاء ليقول للأمة وللبشرية كافّة: بأن كل داعية حق إن تقدّم كان محقّاً، وإن تأخّر كان كاذباً، وتشخيص المصاديق عليَّ وعليك على طول التاريخ، فإنّ تشخيص المصاديق ليس من وظيفة الرسالة، ولا من وظيفة الأنبياء؛ لأنّ الرسالة تأتي بقيمها ومقاييسها وحججها وبراهينها، أمّا كون زيد محقّاً، أو مبطلاً، هذا من وظيفة الشخص.
فمن باب المثال تأتي الشريعة وتقول: إن إمام الجماعة يجب أن يكون عادلاً، ومعنى العدالة كذا، يجب أن يكون عارفاً بشرائط الصلاة، وأن يكون متلفّظاً باللغة العربية لمن يصلي خلفه، وإلاّ فإن كان المأموم أفصح من الإمام وأنطق منه فلا تصحّ الصلاة، أمّا كون المصلّي في المسجد الفلاني، وفي الحسينية الفلانية، هل هو من مصاديق هذه الكبرى أم لا ؟ فهذا شأن المسلمين أنفسهم، حيث إنّ هذه أمور تحتاج إلى جهد شخصي، فاعرف الحق تعرف أهله.
وهكذا وصل الحسين (ع) إلى حوالي كربلاء، وبدأ يخاطب المجتمع قائلاً : نفسي مع أنفسكم، وأهلي مع أهليكم، وخاطب عمر بن سعد: بأنك إن كنت في مضيقة مادّية فلي مال بإزاء مالك، فقدّم نفسه قبل النفوس، وقدّم أهله قبل كل أحد، وما دعا الناس لمقابلة بني أمية، وجعل أهله وذراريه ونساءه في المدينة في الأمن، بل جاء بهم في وسط المعركة ليقول للمسلمين على طول التاريخ: بأنّ مَن دعا إلى حق تقدّم إليه قبل كل أحد، وإلاّ كان كاذباً، فمن دعا الناس إلى الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر والجهاد والقيام بالحق، فإن وجدتموه سبّاقاً إلى مثل هذه الأمور بنفسه وولده وأرحامه ومقرّبيه وأصدقائه وأصحابه، فهو رجل حق، وإن وجدتموه يدعو الناس إلى الجنان، ويختفي هو وأصحابه وراء المجتمع متترساً بالمجتمع؛ للأمن والأمان، فاعلموا أنه ليس بصادق.
هكذا درّسنا الحسين منهج الحق؛ لنعرف رجال الحق على طول التاريخ، إن سبقوا الناس كانوا صادقين، وإن تخلّفوا وتأخّروا، ووجدنا أبناء الناس في محارق الموت وأبناءهم في الحفظ والأمان، عرفنا أنها دعوى تخدم المصالح الدنيوية.
وهكذا قال علي (ع): ( كنّا إذا اشتدّ البأس اتّقينا برسول
اللَّه (ص) ) ([2]
[2])، فإذن عندما تكون المعركة في شدّة احتدامها يكون الرسول درعاً يقي بنفسه المسلمين، وعند الحروب كان يقول الرسول (ص) : تقدّم يا علي، تقدّم يا جعفر، تقدّم يا حمزة، ويا فلان ويا فلان من أهل بيته، فيجعل من أهل بيته درعاً يقي بهم المسلمين، هكذا عرّفتنا الرسالة مناهج تجسيد الحق.
فإن وجدنا داعية يدعو الناس بهذا المنطلق عرفنا أنه محق، وإن وجدناه سبّاقاً إلى المنابر بأعذب الكلمات وعند ميادين الجهاد هو المتخلّف والمتأخر، عرفنا أنّها دعوة باطل لا تمت إلى الحق بشي‏ء.
جاء محمّد بن الحنفية مستفهماً، أو منتقداً الإمام الحسين (ع) ، فقال له: ما إخراجك نساءك وذراريك؟ قال: شاء اللَّه أن يراهن سبايا([3][3]) .
فهذه مشيئة تربوية؛ ليكون أسوة لي ولك على طول التاريخ؛ لنقتدي به كما اقتدينا ونقتدي ــ إن كنّا مؤمنين ــ برسول اللَّه (ص) .
وهذه حروب الجمل في قلبها علي (ع) ، وفي ميمنتها وميسرتها أولاد علي‏ ، يتسابقون إلى الموت، وهذه كربلاء بدأها الحسين بفلذة كبده علي الأكبر، ثم دعا الناس إلى الجنان.
هكذا دعوة الحق، ولا يعقل أن أدفعك إلى جنان ورحمة وخلود وأبدية وأبقى خلفك، كيف أجعلك سبّاقاً وأكون من اللاحقين، والحال إني لا أدعك أن تكون سبّاقاً لو كان المقام من جمع الأموال!
هذه مدارس عرفناها من سيرة الأنبياء والأوصياء.
هذه مقدّمة أردناها تبرّكاً حتى ندخل إلى بحثنا الأخلاقي، وهي أخلاق وتربية، وأيّ أخلاق وتربية أعظم من أخلاق نشاهدها في فعل الأنبياء والأوصياء.
كنّا نتكلّم في دروسنا الأخلاقية: أن من جملة أسباب الجهل والغرور ــ كما قال الأعلام ــ توجيهات ومقاييس شيطانية، وقد تقدّمت بعض الأمثلة لها، كما قلنا: الدنيا نقد والآخرة نسيئة، والنقد خير من النسيئة.
ومن جملة الأسباب قول البعض جهلاً بمعرفة اللَّه تعالى بأنه أرحم الراحمين، وهو الغفور، وهو التوّاب، ورحمته وسعت كل شي‏ء، فهذه حقائق لا يريد أن ينكرها منكر.
لكن قد يقول القائل: اللَّه سبحانه وتعالى كريم، ومن وفد على الكريم بغير زاد ما كان خارجاً عن المقاييس.
فهذه من مقاييس الشياطين؛ لإنّ اللَّه كريم لا شكّ ولا ريب فيه، ولكن ليس معناه أن نتقدّم إليه بكل دناءة وبكل جريمة، وأن نتكلّم بكلام الأبرار: بأن اللَّه كريم، وهو أرحم الراحمين، قد يعفو عن الخلائق طرّاً، لكن أين أنت وأنا الجاهل الذي يفد على اللَّه بلا عمل من منازل المتقين والأبرار من الجنان التي أرادها اللَّه لأهلها، ورسم للوصول إليها على أيدي أنبيائه سبلاً ؟
فإذن: في بعض الأحيان الإنسان قد يخدع نفسه.
ومن جملة المقاييس الباطلة التي تقال: بأنه مَن أنا حتى يعاقبني اللَّه يوم القيامة؟ ولو أراد أن يعاقب أمثالي فما بال الملايين من البوذيين وغيرهم في عصر واحد؟ فيقيناً إذا قستُ نفسي إلى البوذيين، وإلى عبدة الأصنام، وإلى جمعية كثيرة في الهند والصين، وإذا قستُ نفسي إلى كثير من المذاهب والأديان كنت خيراً منهم، فهل يتركهم اللَّه تعالى ويعاقبني؟
ثم يبدأ ويقول: بأنّ اللَّه تعالى إذا لم يدخل شيعة أهل البيت إلى الجنة، فمن الذي يدخل الجنة إذن؟ فرضيَ لنفسه بأنه شيعي، والشيعي مَن شايع وسار وطبّق مسيرة الصدق والعدالة، وهي مسيرة علي (ع) على نفسه.
ولو قال: أي رابطة وأي تشيّع بيني وبين علي (ع) ؟ علي العلم والمعرفة والإيمان والتقى والشجاعة والفضائل، وشيعته مَن كانوا يسيرون في هذه الميادين، أما مَن كانوا يسيرون على عكس هذه الأمور فيقع الشك في الموضوع، ولا حكم يثبت بدون ثبوت الموضوع، فالتشيّع ليس سمة وعنواناً من العناوين الاعتبارية، بل التشيّع معارف الرسالة، وتطبيق الرسالة.
ومن جملة المقاييس الباطلة أنّهم يقولون: أين معاصي العباد؟ العبد مهما بلغ في العصيان إلى أي مرتبة فهو محدود، وعمله محدود، فأين معاصي العباد من سعة رحمته تعالى التي وسعت كل شي‏ء؟ هذه أيضاً ربما نجعلها من الأمور التي نبرّر الموقف فيها بإزاء أعمالنا.
ومن جملة أبرز المغرورين والمتكـبّرين ــ كما ذكر علماء الأخلاق ــ هم العلماء، فإنّ العالم إذا سار على الصراط لا يقاس حتى بالملائكة؛ لأنه يتجاوز الملائكة في عروجه إلى اللَّه تعالى، وإذا أراد أن يدخل المتاهة فهو قادر أن يحرّف أوضح الأمور، وأن يلبسها أحسن الألبسة، ويصوّرها أحسن الصور الظاهرية، فإذن ذكر العلماء على أن الحجاب الأكبر هو العلم؛ لأنّ العلم نور للوصول إلى اللَّه تعالى، لكن رب علم، ورب عالم قتله علمه، وبالأخص نحن ربما نخدع النفس بكلمتين، ولإجراء أصلين من استصحاب وبراءة، وربما نخدع أنفسنا على أنّا من العلماء، وإذا كنا من العلماء فنحن أقرب إلى اللَّه من غيرنا، فعلينا أن نعالج أنفسنا معالجة حقيقية بالتواضع حتى نبتعد عن الكبر، وحتى نكون في كل سنة إذا ازددنا علماً، ازددنا تواضعاً، ولمسنا للحقيقة بأن العلم الإنساني بإزاء العلم اللدني الإلهي لا يكون نقطة في بحر، وأن العلم الإنساني بإزاء علم الأنبياء والأوصياء لا يكون نقطة في بحر، فعلينا أن نسير بمسيرة صحيحة حتى لا يكون العلم سبباً للطغيان والكبرياء.
ثم ذكر علماء الأخلاق: أنّه على الإنسان أن يلتفت إلى أنه يعيش في دار كلّ ما فيها يسير إلى الزوال، يسير إلى الفناء، فلا صحة باقية، ولا قوة باقية، ولا سلطاناً باق، فكم من عظيم متسلّط حكم الأرض أو أكثر الأرض، وتمكّن منها، فإذا به أصبح حديث الغابرين، ولعله حذف حتى من أسطر التاريخ، وما سمعنا به أبداً، فكم من أمة مرّت بجبروتها وكبريائها وغرورها، والتاريخ لم يذكرها أبداً ومطلقاً.
فإذن: يقول علماء الأخلاق: على الإنسان أن يركّز على كل أفعاله وأعماله، ويرى ما هي الغاية الأساسية من كل فعل وعمل، فلعل الغاية من هذا الفعل هو المال، أو لعله الجاه والمقام، أو لعله من أجل العشيرة والأهل والأقرباء، فعلينا أن ننظر إلى أنفسنا: هل أنّ نفوسنا تحفّزنا ــ إذا دخلنا المجلس ــ إلى أنّ أوّل ما ننظر إليه هو صدر المجلس، حتى لو لم يكن هناك مكان زاحَمْنا الآخرين؛ من أجل الحصول على صدارة المجلس، وإلاّ تألّمنا وخرجنا متأثّرين؟ وهل هناك وساوس نفسية لأن أكون متقدّماً في الدخول على الآخرين؟ فهل تنازعني نفسي في مثل هذه المتاهات؟ وإذا أردت الخروج من المجلس أحبّ أن أخرج قبل الآخرين حتى أثبت للجميع بأنّ لي منزلة غير الآخرين، وهل في نفسي أنّي أحب أن اُبدَأ بالسلام، ولا اَبْدأ الناسَ بالسلام؟ وهل في قرارة نفسي أنّي أحب أن تميل لي الرقاب؛ تكريماً وتجليلاً ؟ فهذه أمور لا يعالجها فقيه، ولا طبيب، بل تعالجها أنت وأنا في واقعنا؛ لأن الإنسان قد لا يقرّ بها حتى أمام أقرب الناس إليه، لكنه عليه أن يلتفت إلى أنه يعيش هكذا صراعات وهمية باطنية في نفسه، أو لا يعيش، فإن وجدها في نفسه فعليه أن يعالج نفسه شيئاً فشيئاً، وإن لم تكن في نفسه، فعليه أن ينتقل إلى ما هو أفضل مرحلة بعد مرحلة.
وربّ إنسان في بعض الأحيان يفرّ من رذيلة إلى رذيلة أخرى، فلا ينظر إلى صدر المجلس، ولا يريد أن يكون متقدّماً؛ لأنه دخل في وسوسة جديدة شيطانية لكي يقال عنه: بأنه متواضع، لكي يقال: إنه طيب، زاهد، يجلس عند الأحذية، فلا تقع بين إفراط وتفريط، وهذه الأمور لا يمكن أن يراها فيك أحد، إنما تراها أنت، وأراها أنا في ذاتي.
وقال العلماء: على الإنسان أن ينظر حتى يرى نفسه إنه من المتكبرين أم لا؟ فإذا وعّظ أيتألّم أو لا يتألّم؟ ولعله يوعظ من قبل من هو أصغر سنّاً، أو علماً، أو مكانة منه، فإن كانت هذه المقاييس فالنفس مبتلية بالغرور والكبرياء، فيجب أن نجرّد الكلمات عن مقالة القائل، ثم نرى هل هي حقّ أم لا ؟ فإن كانت حقّاً، فلمَ هذا الغرور؟ وإن كانت باطلاً فنسير على نهج الحق حتى نكون أسوة للآخرين.
ومن جملة صفات المتكـبّرين ــ كما قالوا ــ : أنهم إذا أرشدوا عنّفوا؛ لأنه يرى أن كلّ كلمة يتكلّم بها هي الوحي المنزل، وأنه في مكانة يجب على الناس أن يتّبعونه، فإذا أرشد الآخرين عنّف بشراسة من القول، وتجاوز الأدب، فأهان الآخرين، وهذه أيضاً من صفات المتكبرين.
أرجو التوجّه: إخواني، إنّ الكثير منّا من الصعب عليه أن يميّز بين هذه الحقائق، فلا البخيل يرى نفسه بخيلاً، ولا الجبان يرى نفسه جباناً، ولا المتكـبّر المغرور يرى نفسه متكـبّراً، فالبخيل يرى نفسه مقتصداً، والجبان يرى نفسه عاقلاً محتاطاً، والماكر يرى نفسه مدبّراً سياسياً محنّكاً، فلو نظرنا إلى المقاييس بما هي ولم نجعل عليها ألبسة باطلة لعلنا نتمكّن من الوصول إلى الحقيقة، لكن الكبر هو أساس المشاكل، فلما تلبّسنا بالكبر ظننّا الجبن عقلاً، وما سمّيناه بالانهزامية، وما سمّيناه بالخلو عن المسؤولية، وسمّينا البخلَ احتياطاً، وسمّينا المكر والشيطنة والانحراف تدبيراً.
فهذه المقاييس التي قد نتلاعب بها، هي التي ساقت المجتمعات البشرية إلى الأخطاء، وأدخلتهم في متاهة تجرّهم إلى متاهة أخرى، وربما كان الكبر منشأ الكثير منها؛ حينما لم يضع الإنسان نفسه في مواضعها.
فما هي الوسيلة من أجل أن نتخلص من مثل هذه المتاهات؟
قال العلماء: يجب علينا أن نحاول دائماً إذلال النفس الطاغية التي تخرج عن المستوى والاعتدال؛ بالتزام تام في العمل، في كل ما كان خروجاً عن الطبيعة؛ لتصبح الفضائل سجية.
والحمد للَّه ربّ العالمين.



[1][1]ــ كما جاء في مسند ابن الجعد، عن أنس بن مالك، قال: لما كان يوم الفتح وغدت قريش، قالت الأنصار: والله إنّ هذا لهو العجب، إنّ سيوفنا تقطر من دماء قريش، وإن غنائمنا تقسّم بينهم، فبلغ ذلك النبي (ص) فأرسل إلى الأنصار خاصّة، فقال: ما هذا الذي بلغني عنكم؟ قال: وكانوا لا يكذبون، قالوا: هو ما بلغك، قال: أما ترضون أن يذهب الناس بالغنائم، ثم ترجعون أنتم برسول الله إلى بيوتكم؟ (مسند ابن الجعد، علي بن الجعد الجوهري: 213) .
[2][2] ــ النهاية في غريب الحديث والأثر، ابن الأثير 1 : 91 .
[3][3]ــ أنظر القصّة في: اللهوف في قتلى الطفوف، السيد ابن طاووس: 39 .

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق