الأربعاء، 24 أبريل 2013

@ الأخلاق المحاضرة رقم 3



لسماحة الأستاذ الشيخ محمد كاظم الخاقاني

قال أمير المؤمنين وقائد الغرّ المحجلين: ( آهٍ من قلّة الزاد، وطول الطريق، وبُعد السفر، وعظيم المورد) ([1][1]) .
علي الفطرة، علي الإنسانية والقيم، يتأوّه من أيّ شي‏ء؟ هل يتأوّه من القيام بالتكليف؟ هل يتأوّه من الاستقامة على الفطرة؟ هل يتأوّه من فهم الحقائق؟ كلاّ ثمّ كلاّ.
علي الكمال والعظم، هو الفطرة، وهو حق اليقين، وهو القرآن الناطق، لا تصعب عليه حقائق الأمور، لا دركاً ولا عملاً ولا تحقيقاً، لكن استناداً إلى ما تقدّم من كلام في المحاضرة السابقة، نقول: لأنّ اللَّه تعالى وجود غير متناه لابدّ وأن يكون جواداً بدوام الفيض على الممكنات، وإذا كان دائم الفضل على البريّة لابدّ وأن يكون العطاء منه مستمراً لا يقف عند حدّ، ولمّا كان المطلوب والغاية الأصلية لكلّ الكائنات هو الوجود اللامتناهي فلابدّ وأن يكون العروج إليه أيضاً لا يقف عند حدّ.
ولمّا كانت الممكنات متوقّفة على حدودها لابدّ وأن تنتهي، فلابدّ وأن ينتهي المطلوب عند الوصول إليها في عالم الإمكان، فالغاية الوحيدة التي لا تحدّ بحدّ، والعروج الذي لا يتوقّف عند حدّ هو العروج إلى اللَّه تعالى.
فقالوا: لا حركة ولا سير في عالم المجرّدات، وإنّما الحركة مختصّة بعالم الطبيعة، لكن الأمر ليس كذلك؛ لأنّ كل عالم لـه قابلياته واستعداداته بما يناسبه، ولو لم تكن الملائكة بمرتبة من السعة والوجود لما أمر اللَّه تعالى آدم (ع) أن يعلّم الملائكة الأسماء كلّها، فالملائكة كانت تحتاج إلى التعلّم لكي ترقى درجة أكثر ممّا كانت عليه.
فهناك مجار للكمال، وقد أبى اللَّه أن يجري الأمور إلاّ بأسبابها، فحركة مادية بأسبابها المادية، وحركة مثالية بأسبابها المثالية، وحركة مجرّدة بأسبابها المجرّدة العلمية، كلّ يسير إلى اللَّه تعالى، فأراد اللَّه تعالى أن يبيّن للخلائق طرّاً على أنّ هذا الإنسان إذا كان إنساناً كاملاً فلا يمكن أن يبلغ أيّ مخلوق إلى مرتبته في فهم الأسماء والصفات الإلهية وكنوز الرحمن، والعلم اللّدني الذي يكون من اللَّه موهبة لأوليائه بلا واسطة هذا الإنسان الكامل كما أوحى إلى نبيّه الأعظم (ص) ليلة المعراج أن يكشف للملائكة الكرام حجباً من النور حين تشرّف به سكّان السماوات، فهناك
ــ إذن ــ أسباب للعروج إليه تعالى، أسباب بلا واسطة كما نعرفها، وأسباب في عالم العلم، ومن جملة الأسباب في عالم العلم: سفير الرحمن
جبرئيل (ع) ، لكنّ جبرائيل أقرّ واعترف أنّ لـه مقاماً معلوماً يتوقّف عنده.
فإذن: هناك أسباب يستعين بها أعظم الكائنات وهو محمّد (ص) ، فقد يكون العنكبوت وسيلة وسبباً لحفظ أعظم إنسان، وقد تكون الحمامة وسيلة، وقد يسير أعظم الكائنات بفرسٍ عادية طالباً الوصول إلى مكانٍ معين، وقد يستعين الإنسان الكامل بعالم الأسباب والمسبّبات إذا كان يعيش الاختيار للوصول إلى الكمال، لكن إذا كان يعيش مرتبة أخرى من الوصول إلى الحقائق والمعارف والدفاع عن الشريعة قد تتوقّف الأسباب، فيلهم بنفسه العظيمة الأمور من اللّدن الإلهي بلا واسطة، فيتوصّل إلى الحقائق بلا أسبابها المتداولة العادية في عالم الإمكان، وقد يستخدم أسباب عالم أعلى في عالم أدنى؛ لهيمنة كل عالم عال على عالم أدنى منه.
فإذن: أمير المؤمنين (ع) ، وهو الفطرة وهو ميزان الاعتدال، حيث قال: ( أنا القرآن الناطق) ([2][2]) ، وورد عنهم‏ بأنّهم هم الموازين والكلمات التامات، فأيّ تأوّهٍ، وأيّ زادٍ يطلبه، وأيّ طريق بعيدٍ يقصده ذلك الإمام العظيم؟
علي (ع) ينظر إلى سفر لا نهاية له، ينظر إلى مطلوب وغايةٍ لا حدّ لهما، وها هنا تأوّه علي (ع) .
هؤلاء العظماء حينما نظروا إلى اللَّه تعالى، نظروا إلى الوجود اللامتناهي، فعرفوا أنّ الطريق بعيد، وعرفوا أنّ التخلّق بأخلاق اللَّه اللامتناهية من أصعب الأمور وأدقّها، فكانوا طالبين لمرحلةٍ لا حدّ لها، والاستقامة في سير لا حدّ لـه، بأخذ لا حدّ لـه، وبثّ على الكائنات على قدر كلّ قابل، شيّب محمداً (ص) ، وتأوّه منه علي (ع) .
الكثير منّا عندما يصل إلى مرحلة من العلم ــ لأنه ينظر إلى ما دونه من الناس ــ قد يصيبه العجب والغرور، حتى يأخذ بنا العجب أحياناً إلى مرحلة نتكبّر فيها حتى على آبائنا وأمهاتنا وأرحامنا، حتى ولو كان التكبّر من دون إظهار كلمات العجب والغرور.
فلما كان العظم يقاس بما دون أنفسنا أصبحنا عظماء جهلاً وغروراً، كمن درس الابتدائية ثم عاد إلى أهل قريته الأمّيين فوجد نفسه عالماً نحريراً. وأولياء اللَّه تعالى لمّا كانوا ينظرون إلى اللَّه فهم ينظرون إلى ما لا نهاية لـه من الكمال، فعروجهم إلى اللَّه تعالى يورثهم التواضع والخضوع الرباني، ويصنع في قرارة نفوسهم ذلّ العبودية، ورحمة الإنسانية؛ حباً بإزاء الخالق والمخلوق، وكلما يتوغّل الإنسان في منازل الربوبية يلمس الفقر الذي يشير إليه اللَّه تعالى يا أيها الناس أنتم الفقراء إلى اللَّه واللَّه هو الغني الحميد ([3][3]) ، بلمس فقر عالم الإمكان.
نحن عندما نقرأ في الآيات والروايات: أنّ اللَّه هو الغني، وأنّ الإنسان فقير ومحتاج، نقرأ هذه الآيات والروايات قراءة فقط، في حين أنّ لمس هذه الحقيقة يختلف كثيراً عن قراءة هذه الكلمات.
فيجب علينا أن نلمس الفقر الإنساني، فإذا لمسناه عرفنا أنّ الإنسان هو فقر بكلّ واقعه، وعندها فيجب أن نلمس الغناء الذاتي الإلهي لمساً بقدر نفوسنا، وعندها سوف نلمس واقع الحاجة إلى الكمال، وستصبح مراتب العلم تواضعاً واعتدالاً بعيداً عن المذلة أو الكبر والغرور.
فعليّ (ع) يخاف من موردٍ عظيم، ومن طريق بعيد؛ لأنّه قاصدٌ لا نهاية الوجود، وهؤلاء العظماء ليسوا مثلنا يقصدون جنّة أو ناراً حتى تكون متوقّفة عند حدّ، فأولئك العظماء إذا خافوا وتأوّهوا خافوا من قصور ذواتهم الطالبة للانهاية الوجود، فهم المثال والتجسيد للقرآن بكلّ معنى الكلمة، فلا ذنبهم ذنبي، كما يتصوّر البعض، ولا خوفهم مما أخاف، وإذا وردت بالنسبة إلى النبي آية أو رواية تدلّ على الذنب فلا يراد من الذنب ذنب الأحكام؛ لأنّ رسول اللَّه (ص) فطرة الوجود، واعتدال عالم الإمكان، فلا ذنب لـه في مرتبة حكم، أو عدل، أو خروج عن إحسان، أو بُعدٍ عن أولويّات، أو تسابق فيها، أو تنافس في ميادين صفو المثل والقيم، أو خطأ في مرتبة أهمٍ ومهم،
فهو (ص) تجسيدها، وهو كونها وواقعها.
فذنب أولياء اللَّه هو قصور عالمهم، قصور الممكن مهما بلغ عن مرتبة التخلّق بأخلاق اللَّه، فهو (ص) قرآن يجسّد الأسماء والصفات الإلهية بمرتبة في يوم من الأيام، وفي يوم آخر يكون فرقاناً وقرآناً؛ مسايرة مع الأيام الربوبية؛ لأنّ اللَّه كل يومٍ في شأنٍ جديد.
فرسول اللَّه (ص) يرتاح لأذان المؤذّن حتى يستريح من الدنيا بما فيها؛ لأنّه وقت اللقاء الإلهي، وكذلك الإمام أمير المؤمنين (ع) حتى قال
الحسين (ع) يوم العاشر من المحرّم ــ حينما تعلّقت النسوة بعلي الأكبر ــ :
( دعنه فإنّه قد اشتاق إلى لقاء ربّه) ([4]
[4]) .
فنحن نريد في هذه البحوث أن نتكلّم عن الكون الإنساني، والمراد من الكون الإنساني هو التخلّق بالخلق الإلهية، والمتخلّق بها مظهر الأسماء والصفات في عالم الإمكان، وللَّه الأسماء الحسنى، فيكون المسلم الحقيقي مظهر العلم والحكمة والعدل والإحسان والرحمة واللطف والسلام والعز و... ، وعليه فلابدّ وأن ندرس الكتاب المجيد، وأن ننظر إلى الروايات، وأن ندرس سيرة الأنبياء والأولياء حتى نعرف الرذائل بعمق واقعها الخارجي، لا بمفهومها اللفظي، وإلاّ فقد تكون الشجاعة عدواناً، والحيطة جبناً، والصبر مذلّة، والخلق نفاقاً، والتقية تهرّباً من المسؤولية، والتعبّد جموداً، والديانة تزمّتاً، والعلم فخراً وكبراً، والعقل إعمال موازنة للوصول إلى مآرب الدنيا الزائلة، بدلاً من أن يكون العقل وسيلة لرضا الرحمن، واكتساب الجنان، وهلم جرّا من المغالطات باسم الحكمة والكياسة والسياسة، ثم ننتقل من معرفة الرذائل إلى تخلية النفس منها، ثم إلى معرفة الفضائل، فننتقل من فضيلة إلى فضيلة، ومن نور إلى نور، فنخرق الحجب النورانية، مرتبة بعد مرتبة في ميادين الأنوار الربوبية.
فإنّ القارى‏ء للقرآن الكريم بتأمّل ودقّة يرى أنّ الحق تعالى بين كل سورة وأخرى يذكّر بالشيطان، ويحذّر من خلق بني إسرائيل، ثم بعد هذه المرحلة ينتقل إلى ذكر المترفين والطغاة والجبابرة والذين ارتكبوا ما ارتكبوا على وجه الأرض، فعلينا أوّلاً وقبل كلّ شي‏ء أن نذكر هذه الرذائل حتى نعرف ما هي الرذيلة الكبرى التي حذّر اللَّه تعالى منها البشر كراراً وتكراراً، حتى ذكر الحق تعالى إبليس في أحد عشر موطناً، وذكر كلمة
( شياطين) في موطن واحد، وذكر كلمة ( الشياطين) في أربعة عشر موطناً، وذكر كلمة ( شيطان) في أربعة مواطن، وذكر كلمة ( الشيطان) في ستة وخمسين موطناً.
وهذه ليست قصصاً للحفظ والذكر، بل هي دروس من اللَّه تعالى، يريد بواسطتها أن يعلّم البشرية بأنه لا عروج بدون الابتعاد عنها.
ومن أبرز صفات إبليس: الكبر.
الآن نريد أن نتكلّم أولاً عن الكبر، ما هو الكبر؟ ولِمَ كان بهذه المثابة من الخطر؟ ولِمَ أخرج اللَّه تعالى الشيطان بعد ستّة آلاف سنة من العبادة للكبر من الجنة، وجعله رجيماً مطروداً من الرحمة الإلهية؟
إخواني ليس المهم أن نعرف أن الكبر رذيلة، وأنّه سبب لطرد إبليس والشياطين من الساحة الربوبية، بل المهم أن نجلس بعيدين عن كلّ أحد، ونحاسب النفس محاسبة دقيقة حتى نرى هل هذه الصفات التي ذمّها اللَّه، وكانت من عناوين إبليس، هل هي موجودة فينا أم لا ؟ فربّما نتكلّم ونتباحث ونتدارس بعض الأشياء وإذا بنا نجد أنفسنا مصرّين على ما نقول بكلّ إصرار، خائفين أن نخذل في هذا المقام، وكأنها انتصارات، وهذه الحالة تنشأ من الغرور والكبر الباطني؛ لأن الإنسان يتصوّر نفسه قد وصل فوق المستويات، فيظنّ نفسه مصيباً، وأنه بلغ مرتبة من المعارف، فبعد هذه المرتبة لا يخطى‏ء أبداً ومطلقاً.
وينسى أنّ هذه الحالة هي في الواقع جهلٌ مركب، وبواسطته سدّ على نفسه الأبواب، وإذا لمس الخطأ في مورد من الموارد أخذ مستكبراً جاحداً الحقيقة، يصرّ على ما هو عليه، حتى لا يقال في حقّه: إنه أخطأ واعتذر من خطئه، واسترشد بالآخرين.
فأيّ مانع من أن نسترشد إذا كنّا مخطئين ولو بكلمة من أي شخص كان ! لكن الكلام باللسان سهلٌ، وأنّ العمل به صعب، بأن يتنازل الإنسان لمن هو دونه في السن، أو لمن يراه دونه في العلم، أو لمن يراه دونه في الدين، أو لمن يراه دونه في أيّ جانب من الجوانب.
إذن: أول صفة، وأخطر صفة تكلّم عنها القرآن الكريم، هي صفة إبليس، وما دمنا نعيش متلبّسين بالغرور والكبر لا يمكن أن نرى حقاً، ولا يمكن أن نذعن لأيّ عظيم، أو لأي معلّم؛ لأنّ الكبر قد أوصل إبليس إلى مرحلة أنّه تكبّر على اللَّه سبحانه وتعالى، وخطّأه في علمه، فالمتكـبّر على اللَّه لا يُبقي مجالاً، لا لمعلّم، ولا لمرشد، ولا لأخ، ولا لأيّ إنسان آخر، حتى يسترشد به.
قد أوصل الكِبرُ إبليسَ إلى مرحلة أنّه تردّد في العلم الربوي، قائلاً:
أنا خير منه خلقتني من نار وخلقته من طين ([5][5]) ، فأخذ مستنكراً يعلّم الحق تعالى، فقال: أأسجد لمن خلقت طيناً ([6][6]) ، فلو كان هذا الكلام سؤال مستفهِم يطلب كمالاً كما استفهمت الملائكة لأرشده اللَّه وعلّمه كما علّم آدم (ع) الملائكة الأسماء كلّها، لكنّه جاء معترضاً على أمر ربّه تعالى.
والحمد للَّه ربّ العالمين.


[1][1] ــ نهج البلاغة، شرح محمد عبده 4 : 16 ، من الكلمات القصار، رقم 77 .
[2][2]ــ ينابيع المودّة، القندوزي 1 : 214 ، ح 20 .
[3][3] ــ سورة فاطر، الآية 15 .
[4][4] ــ
[5][5] ــ سورة الأعراف، الآية 12 ، وسورة ص، الآية 76 .
[6][6] ــ سورة الإسراء، الآية 61 .

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق