الأربعاء، 24 أبريل 2013

@ الأخلاق المحاضرة رقم 2



الأخلاق المحاضرة الثانية
لسماحة الأستاذ الشيخ محمد كاظم الخاقاني

كنّا نتكلّم في المحاضرة السابقة عن الأخلاق الإسلامية، وعن الكتب التي تتحدّث عن الخلق الإسلامي الرفيع، فمن بعد دراسة الكتب الأخلاقية يأخذ الإنسان بالسير والسلوك في ميادين المعارف الإسلامية لينتقل منها إلى منازل السالكين المتألهين، حتى يأخذ بسيره المتواصل الذي لا حدّ لـه في العروج إلى اللَّه تعالى.
لكن مقدّمة للموضوع يجب أن نلتفت إلى أنّ الرسول الأكرم (ص)
ــ قبل كلّ دليل وبرهان ــ امتلك القلوب بأخلاقه الرفيعة، فأصبح محبوباً يحكم القلوب، ومن بعد ما حكم القلوب بسيرته وأخلاقه جاء ليتكلّم مع الناس بالدليل والبرهان
.
فجاء الرسول (ص) ليتكلّم مع أمم تعيش الجهل، والابتعاد عن كل الموازين، ولا أقصد فقط الأمّة الجاهلية العربية في جزيرة العرب، بل أقصد جميع الأمم، سواء كانت مشركة كقريش، أو لم تكن كاليهود والنصارى، الذين كانوا يرتدون ملابس الأنبياء والمرسلين، لكن قد وصلوا بالجهل إلى مرحلة التجسيم ونزول اللَّه تعالى ليتصارع مع داود (ع) ، فكانت جميع الأمم تشترك في واقع الجهل وإن تبدّلت وتكثرت عناوينه.
فجاء الرسول (ص) ليُخرج هذه الأمم من الظلمات إلى النور، فما كانت الأمم تستوعب دليلاً ولا برهاناً في بداية الأمر حينما كانت تعيش في حضيض الظلمات، فجاء الرسول (ص) وعالج الأمم أولاً بأخلاقه الرفيعة، فاكتسب القلوب، ولمّا اكتسبها أصغت لـه المسامع، فأصبح بعد ذلك يتكلّم مع المجتمعات البشرية بالأدلة والبراهين والآيات المحكمة القرآنية.
فإذن: الأخلاق بمعناها الوسيع هي الوسيلة التي نتمكّن بواسطتها أن نغزو القلوب، وأن نسير في الأرض لكي ندعو المجتمع الإنساني جميعاً إلى الإسلام، فالخلق هي قيم الإنسانية السارية في كافّة ميادين الحياة، وليس علم الأخلاق مختصّاً بكيفية المعاشرة مع الآخرين، ومع جفافٍ أخلاقي، أو كبرياء، أو ما شاكل هذه الأمور، لا يمكن أن ندعو المجتمع بهدي قرآني ورسالي.
فلابدّ لنا أولاً وبالذات كمبلّغين، أو كطلاّب دين، أن نتحلّى بأخلاق الرسول وأهل بيته‏ ، وأن نتمكّن من تطبيق هذه الأخلاق على أنفسنا بقدرٍ ما حتى نتمكّن ــ من بعد ما نتوصل إلى القلوب بحسن الخلق الرفيع ــ أن نبيّن للناس معالم الإسلام بالدليل والبرهان، فأول قدمٍ للتحرك وللإفادة هو التخلّق بأخلاق القرآن، حتى نتمكن أن ننطلق من هذا المنطلق لهداية الآخرين، وأن نكون قبل ذلك مهتدين واقعاً بقدر ما بهذه الأخلاق النبيلة التي هي الفطرة وقيم الإنسانية ومثلها الرفيعة، وإلاّ فالوعظ بدون تجسيد خلق الرسالة في أفعالنا لا يكون إلاّ ضياعاً لحياة الشعوب.
فهناك معانٍ ومصطلحات متعددة بين الناس للأخلاق، فيقول البعض: إنّ الأخلاق هي تقييم الروابط الاجتماعية بين الناس، بأنهم كيف يتقابلون؟ وكيف يتكلّمون؟ وكيف يرحّب بعضهم ببعض؟ وكيف يجب أن يكون الإنسان بين الناس؟ وهذه هي الأخلاق الاجتماعية، وهي عادة تكون بإطار محدود؛ لأنه لم يقصد منها البناء الباطني للواقع الإنساني.
ونحن اليوم نشاهد الكثير من المتخلّقين بالأخلاق الاجتماعية ــ مع كلّ بشاشتهم، ومع كلّ ما يتظاهرون به من الأخلاق الطيبة ــ يسحقون البشرية بما فيها، ويتجاوزون كل القيم بعناوين مختلفة؛ حيث جعلوا الأخلاق ببعدها الظاهري الاجتماعي وسيلة للعدوان على الناس، وأطلوها بظاهرٍ حسنٍ وبوجهٍ جميل، وهم في البواطن يعيشون التوحّش، وفي المظاهر تعلوهم البسمة والبشاشة، لكن ما وجدنا مثل هذه الخلق مؤثّرة لبناءٍ إنساني.
فإنّا ــ في هذه المحاضرات ــ نريد أن نتكلّم عن الخلق الرسالية التي إطارها عام، يشمل الوجود بما هو وجود، يشمل الأبعاد بكلّها وتمامها، حتى يسعى كلّ فردٍ منّا ــ نحن المسلمين ــ بقدر ما للتخلّق بتلك الخلق؛ لأنها خلق ربوبيّة.
فهذا يتمكّن من الوصول إلى مائة درجة من رفيع الخلق، وذلك إلى تسعين، والآخر لا يتمكّن إلاّ من عشر درجات، كلّ واحدٍ ــ بما منحه اللَّه تعالى من القابلية والاستعداد والإدراك ــ يستطيع الوصول إلى أخلاق الحقّ تعالى، وخلق الرسول (ص) والرسالة ورسامها من أهل البيت ، وسوف يسئل يوم القيامة على قدر سعته الوجودية، فإن منحه اللَّه من القابلية عشرة سأله يوم القيامة عن عشرة، ولا يُسئل عن أكثر من ذلك، وهكذا مَن منحه اللَّه تعالى أكثر من ذلك من القابليات حتى يبلغ القمّة في الكمال، وهو الذي قد اختاره اللَّه تعالى وانتجبه، إذ الخلائق بكتمان العدم مصونة، كسيّد الكائنات محمد (ص) .
وهذه البحوث، وهي كيفية مراتب الخلق، وأنه تعالى كيف جعل هذا حجراً، وذاك نباتاً، وآخر حيواناً، ورابع إنساناً عاقلاً يفوق الملائكة الكرام لو استقام على الطريق، لا ربط لـها بمقامنا؛ لأنها أمور ترجع إلى القضاء والقدر الذي هو بحرٌ عميق، وكلّ من جاء ليتكلّم عن القضاء والقدر فإنه إنما يتكلّم بمقدار استيعابه ودركه لواقع الفيض الإلهي، وإلاّ فلا يتمكن أي إنسان أن يدّعي الوصول إلى مراتب الفيض الإلهي، وكيف أفيض الوجود. فكان هذا إنساناً، وصار ذاك نبياً، وآخر مَلَكاً، وهذا بحث طويل يرتبط بباب القضاء والقدر، تعرّضت إليه في السنين الماضية.
لكنّنا ــ الآن ــ نريد أن نقول: إن الإطار للخلق الذي نتكلّم عنه ليس هو الشكل الصوري الظاهري، وإنما نريد أن نتكلّم عن القيم الإنسانية.
فنقول: لمّا كانت الخلق الإسلامية في الحقيقة هي الدعوة إلى التخلّق بأخلاق اللَّه، فلابدّ أن لا تكون محدودة بحد؛ لأنّ اللَّه تعالى ليس محدوداً بحدّ، بل هو كلّ يومٍ في شأن، وفيضه مستمر، وظهوره مستمر، بتجلّياته وعطائه، فكلّ إنسان يقتبس من القرآن على قدر سعته الوجودية.
وبعبارة أخرى: لمّا كان الصانع والموجد وجوداً لا متناهياً كان محض وجود وعلم وقدرة وحياة وكمال وتمام، وعليه فلابد أن يكون الفيض دائماً على البرية حتى يتناسب العطاء والجود مع المعطي الجواد، وهو اللَّه تعالى.
ولمّا كان الفيض من اللَّه يتناسب مع المعطي اللامتناهي، وكانت الممكنات محدودة في واقعها، فلابدّ وأن يكون العروج إلى اللَّه تعالى لا يقف عند حد فـ إنّا للَّه وإنّا إليه راجعون ([1][1]) . فالعروج إلى اللَّه لا يقف عند عملٍ نقوم به في عالم الدنيا، أو عند الانتقال إلى عالم المثال والبرزخ، أو عند الانتقال من عالم المثال والبرزخ إلى عالم القيامة، أو عند الانتقال من منزل من منازل الجنان إلى آخر؛ لأنّ المطلوب هو اللَّه تعالى.
ولمّا كان هو المطلوب للكائنات لا يمكن أن تتوقّف المسيرة الكمالية لعالم الإمكان، وعلى رأس جميع الممكنات الإنسان الكامل.
فليس هناك من عمل يتوقّف عند الجنان؛ لأنه تعالى فتح في الدنيا باب الاختيار والاختبار حتى يصنع الإنسان لنفسه حقيقة الإنسانية، ويعرج من دار الاختبار، أي من دار الفتنة والبلاء والظلمات ــ وهي الدار التي ملئت بالغفلة والحجب ــ إلى الحقّ تعالى حتى يتمكّن من العروج عندها إلى اللَّه بلا ثقلٍ ظلماني، وبلا نزاعٍ باطني بين جنود الرحمن والشيطان.
فهناك نفوس طهرت وتمكّنت من السير إلى اللَّه بدون ظلمة في حجب النور، فهي تنتقل من منزل معنوي إلى منزل آخر، ومن كمالٍ إلى كمال، اطمأنّت بذكر ربها، كما تقول الآية: ألا بذكر اللَّه تطمئنّ
القلوب
([2][2]) ، فأخذت تعرج إليه بلا ثقل، وبلا ظلمة، تتجاوز الحجب النورية، مرحلة بعد مرحلة، وهناك نفوس وهي نفوس أكثرية الناس تعيش صراعاً داخلياً بين جنود الرحمن والشيطان، فتارة تكون الغلبة لجنود الشيطان، وأخرى لجنود الرحمن، فإذا تمكّنت النفس ــ بواسطة التربية الإسلامية التي نريد أن نتكلّم عنها ــ أن تتدرّج بلطف من اللَّه حتى تصل إلى مرتبة الطهارة النفسانية وزكاتها، بحيث يصبح الإنسان نوراً يهتدي إلى النور الإلهي بلا حجب ظلمة، فإنه عندها تصبح النفس مطمئنة، فإذا أصبحت مطمئنة كما قال عمّار بن ياسر (رضوان الله عليه) : (أما والله لو ضربونا حتى بلغوا بنا سعيفات هجر لعلمنا أنّا على الحق وأنّهم على الباطل)([3][3]) .
وكذلك كان ذلك الرجل العظيم مع عزلته التامة في الربذة، بعيداً عن كل الروابط والأمور الاجتماعية، نراه يمتلك نفساً قوية لا تتردد في حق، وهو أبو ذر، رجل المثل العليا إلى منازل المقرّبين، فهذه النفوس قد وصلت إلى مرتبة النور وصفائه، بعيدة عن كلّ ظلمة، فاطمأنت واستقرّت، فلا يمكن أن يطرأ عليها التردد، فهي جازمة تسير بيقينها إلى اللَّه تعالى على اختلاف مراتب اليقين، فإذا تمكّنت النفوس أن تتخلّص من ظلمتها وكدورتها، ومن نزاعها الباطني، تمكّنت أن تصل إلى اللَّه تعالى.
ولمّا أمر اللَّه تعالى الملائكة أن يسجدوا لآدم (ع) ، وكذلك أمر الجن بأن يسجدوا لآدم (ع) ، ففي الواقع أراد إظهار الخضوع والتذلل لعظيم خلقٍ خلقه، فكان هذا السجود امتثالاً لأمر اللَّه تعالى لمخلوق هو مظهر الأسماء والصفات الإلهية، القادر على التخلّق بأخلاق اللَّه تعالى، فاللَّه العالم، والإنسان الكامل مَظهر العلم، واللَّه الحكيم، والإنسان الكامل مظهر الحكمة، وهكذا في بقيّة الصفات بما يناسب الكلمة التامة الإلهية في عالم الإمكان، لكن ليس معناه أنّ الملائكة نزلت ووضعت جباهها المعينة على وجه الأرض، وليس معناه أنّ الجن طُلب منها أن تنزل وتضع جباهها على الأرض، بل السجود هو إظهار الخضوع والتذلّل بما يناسب كلّ موجود، فأظهرت الملائكة خضوعها وذلّها العبودي تجاه ربّ العالمين بما كان يناسبها، وكذلك الحركة نحو الحق تعالى والعروج إليه تكون بكل مراتب وجود الكائن الجوهرية والعرضية، وإن اختلفت باختلاف الممكنات.
فعالم الطبيعة يتحرّك إلى اللَّه تعالى بكلّ مراتبه، حركة متواصلة جوهرية، بالأصالة بجوهره، وبالتبع بأعراض جوهره، وذاك وجود مثالي يتحرّك إلى اللَّه بما يناسب الحركة والعروج في عالم المثال، وهذا وجود عقلي يعرج إلى اللَّه بما يناسب عالم التجرّد.
ولو كان لا حركة ولا عروج لَما طلب اللَّه من آدم (ع) أن يعلّم الملائكة الأسماء كلّها، ولا يراد من الأسماء أن يقول آدم (ع) لأحد من الملائكة: أنت مسمى بجبرائيل، وأنت مسمى عزرائيل، وهكذا، فلا يراد من الأسماء الأمور الاعتبارية، وإنما يراد بيان الحقيقة الإمكانية بمراتبها الجوهرية والعرضية بحدود وجوداتها الإمكانية، وسمو مراتبها في مدارج قوس النزول والصعود في عالم الإمكان، وبيان مراتب الأسماء والصفات الإلهية: جمالاً وجلالاً، لطفاً وقهراً.
فإذن: عالم الإمكان طرّاً حركة وجولان وسير وعروج إلى اللَّه، لكن كلّ ممكن بما لـه من القابلية وبما يناسبه من المحلّ الخاص لـه، فالحركة متواصلة؛ لأنّ الفيض من الحق دائم؛ ولأن اللَّه لا يخصّص شخصاً أو فرداً أو وجوداً بفضله دون الوجود الآخر، وإن كان فيضه يكون على قدر قابليات عالم الإمكان بما لها من الشأن قرباً وبعداً.
فتارة نتكلّم بمصطلحات فلسفية، وأخرى عرفانية أو منطقية، وثالثة نتكلّم بلسان يفهمه الناس طراً كـ إنّا للَّه وإنا إليه راجعون أي الكل منه بما لـه تعالى من فيض لا متناه، وإليه بما هو غاية لا متناهية؛ وذلك لأنّه لما كان الحقّ تعالى هو ذلك الوجود اللامتناهي فلابدّ وأن يكون العروج إليه أيضاً لا وقفة فيه؛ لأنّ المطلوب ليس بمحدود؛ ولأنّه كل يوم هو تعالى في شأن وظهور وتجلٍّ وإفاضة جديدة على هياكل الممكنات.
لكن لا يفاض البحر على الكأس، وإنما يفاض على ظرفٍ قابل لهذا الفيض؛ لأنّ عدل الله وحكمته تقتضي أن تكون الإفاضة متناسبة مع المفاض عليه فسالت أودية بقدرها ([4][4]) .
إذا عرفنا هذا طبقاً للمنهجية الشرعية الإسلامية، عرفنا أنّ الإسلام هو الخُلق الإلهي، وهو ظهور الحقيقة بتمامها وكمالها، وأنّ القرآن هو الكتاب التدويني الحاكي والمرشد إلى واقع التكوين، وإلى كلّ مراتب عالم الإمكان، من أجل سيرها إلى الحق الواجب تعالى.
ولابدّ لنا ــ أيضاً ــ أن نعرف: أنّ الخُلُق التي نتكلّم عنها ليست خُلقاً تُحدّ بحدّ، أو توصف بوصف خاص، بل كل إنسان يقتبس من الخلق الإلهي، ومن الآداب الإلهية، ومن الرسالة السماوية المتكاملة الإسلامية على قدر سعة وجوده، وطهارة نفسه.
فإن طهّرنا النفس تمكّنا أن نشاهد الحقائق على قدر سعة وجودنا، وعلى قدر تلك القابليات التي أعطانا اللَّه سبحانه وتعالى، وهذا العروج إلى الحق تعالى لا يتوقّف يوماً من الأيام، لا في أيام دار الدنيا، ولا في أيام دار المثال والبرزخ، ولا في أيام الجنان بما لها من مراتب لا يعلمها إلاّ اللَّه تعالى؛ لأنّه كما قلنا: إنّ اللَّه تعالى كل يوم في شأن، وإنه لابدّ من مسايرة الأيام الربوبية، كما كان عروج الرسول (ص) ، فالعروج لم يحدّد في ليلة معينة، ولا يحدّد بعالم الدنيا، ولا بعالم البرزخ أو القيامة أو الجنان، فالكلّ يعرج إلى اللَّه، واللَّه تعالى غاية لا متناهية.
فقال صاحب الرسالة العظمى: (إنّما بعثت لأتمم مكارم الأخلاق)([5][5])، وكانت مكارم الأخلاق هي الخلق الإلهية، فلابدّ وأن تكون هذه الخلق الإسلامية لا حدّ لها، ولا حصر فيها، فليس لها إطار خاص؛ لأنّها الكمال المطلوب.
ولو كان اللَّه يعلم على أننا نتمكّن من العروج إليه بمجرد الفطرة بلا معلّم من قبله لأفاض وأوحى إلينا كما أوحى إلى محمد (ص) والرسل من ذي قبل، لكن هناك قصوراً ذاتياً، فضلاً عن التقصير الذي نضيفه إلى أنفسنا في عالم الغفلات والغشاوات، وإذا كانت النفوس بحسب ذاتها قاصرة فلابدّ أن تهتدي بنور الهداية الإلهية بواسطة الأنبياء.
ولمّا كانت مسيرة الأنبياء دائماً وأبداً لمن راجع تاريخ الأنبياء لا تستوفي لكي تكون حضارةً تامة بشرية لما يعلم اللَّه من رسوب حضارة الجاهلية في النفوس، كما أشار الله تعالى إلى ذلك في قصص بني إسرائيل؛ حيث راحوا يوماً ليعبدوا العجل، وفي آخر ليطلبوا من موسى (ع) أن يكون لهم إلهاً كما لغيرهم آلهة، وفي يوم ثالث يطلبون من موسى أن يروا اللَّه جهرة، كما كان ذلك أيضاً متحقّقاً بالنسبة إلى رسول اللَّه وأمته عندما فتح مكة المكرمة في السنة التاسعة وانتقل إلى جوار ربّه في السنة الحادية عشر، فدخل الناس إلى الإسلام أفواجاً أفواجاً، بعد فتح مكة المكرمة ضمن هذه السنوات القليلة الأخيرة، ولمّا رحل الرسول الأعظم إلى جوار ربّه كانت الأمة بعدُ تحتاج إلى من يجعلها متحضّرة بحضارة الإسلام، واستئصال حضارة الجاهلية، وما كان ليحصل ذلك إلاّ باثني عشر نقيباً، كما أراد اللَّه تعالى ورسوله (ص) للأمة، فكانت الأمة الإسلامية تحتاج إلى أوصياء يربّون المجتمع جيلاً بعد جيل إلى اثني عشر نقيباً حتى تصبح الرسالة حضارة للأمم، فيصبح المسلم أسوة تقتدي به الأمم جميعاً.
أمّا الحجب التي تحجب الإنسان من الوصول إلى الحق تعالى فهي على نحوين: حجبٍ ظلمانية، وهي غشاوة وجهل وقصور وتقصير و... ، فمن دون التخلّص من الحجب الظلمانية لا يستطيع البصر أن يكون حديداً.
وبعد التخلّص من الحجب الظلمانية يعرج المكتسب للحقيقة، لا الإنسان الموهوب كالأنبياء والأوصياء، ليرى الحجب النورية، فأول حجاب نوري هي الأفعال الإلهية، هي الممكنات والآيات، لينتقل بواسطتها إلى الحق تعالى، فهذا يخرق حجاباً، وذاك حجابين وثلاثة وأكثر من ذلك في ميادين الآيات الإلهية، في ميادين الفعل الإلهي، ليعرج بواسطة آيات اللَّه إلى الحق سبحانه، وآيات اللَّه وجودات نورية.
وهناك نفوس أقوى تسير من الحجب الفعلية النورية لكي تشاهد الحق بعد ذلك في مراتب أسمائه وصفاته، ثم لتنتقل من اسم إلى اسم، أي من الأسماء الفعلية إلى الأسماء الذاتية، ثمّ منها إلى محض الوجود الإلهي، فيصبح الشخص من الصدّيقين؛ حيث يصبح يرى الوجود بما هو وجود، ولن ينشغل عن الحق بكثرة ولو كانت الكثرة نورانية.
وهناك نفوس موهوبة لم تكتسب هذه الأمور بسير وسلوك وحركة و... ، كعظماء الخلق، يتكلّم متكلّمهم في المهد، ويجلس جالسهم لكي يتكلّم عن العلوم المختلفة وهو ابن السابعة من عمره، تلك نفوس بحسب ذاتها فعلية كمال وعظم وجود، تستمر في أخذ الفيض الإلهي لتتدرّج في الأنوار الإلهية مرحلة بعد مرحلة حتى تصل هذه النفوس في القوة إلى مرحلة يقف جبرائيل (ع) قائلاً: لكلّ مقام معلوم، فيعرج الرسول ليأخذ من الحق تعالى بلا واسطة، علماً لدنّيّاً، وهو رسول ربّ العالمين، الجامع لشتات عالم الإمكان طرّاً.
والحمد للَّه ربّ العالمين.


[1][1] ــ سورة البقرة، الآية 156 .
[2][2] ــ سورة الرعد، الآية 28 .
[3][3]ــ الأمالي، الشيخ الطوسي: 143 ، ح 46 .
[4][4] ــ سورة الرعد، الآية 17 .
[5][5] ــ مجمع البيان، الشيخ الطبرسي 10 : 86 .

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق