لسماحة الأستاذ الشيخ محمد كاظم الخاقاني
إنّ جريمة القتل من أعظم الرذائل التي بدأ
الإنسان بها على وجه الأرض؛ حيث قتل قابيل أخاه هابيل؛ لمسألة الحسد، وهي التي
بدأها إبليس بالنسبة إلى آدم (ع)، فالحسد يوصل الإنسان إلى مرحلة تُنتزع منه روح
المودة والإخاء، بأن يقتل الأخ أخاه، كما صنع قابيل، وكما ارتكب إخوة يوسف (ع) بالنسبة
إليه لولا اللطف الإلهي لقتلوه، لكنّ اللَّه تعالى ألقى في قلوبهم أن يتخلّصوا منه
ــ بنظرهم ــ بهذه الطريقة الخاصة كالإلقاء في الجب.
فالحسد من أشدّ الأمور قبحاً
على وجه الأرض، والصراعات القائمة على وجه الأرض مطلقاً متعلقة بمسألة التنافس في
غير محلّه، فاللَّه تعالى أراد من الناس أن يتنافسوا ويتسابقوا في الخيرات، فجعل
غبطة تدعو الناس إلى التسابق إلى حبّ الخير، والسعي من أجل الوصول إليه، لكنّ
الصفة إذا تجاوزت عن حدودها، وأخذت جانب إفراطٍ أو تفريط، كانت قبيحة مذمومة،
فالاعتدال غبطة، والإفراط والتفريط حسدٌ وخُمُول، فلا الإنسان الذي لا يهتمّ بأيّ
خير وعزّ معتدل في واقعه، ولا الإنسان الذي يريد الوصول إلى الخير والعزّ ولو
بالعدوان على الآخرين كذلك.
فإذن: حبّ الخير، وحبّ
التوصّل إلى الخيرات، فطرة بشرية يريدها كلّ أحدٍ بفطرته، ومن لم يندفع إلى
الخيرات ليس بإنسان فطري، والصفات النفسانية إذا أخذت جانب الإفراط أو التفريط
كانت ابتعاداً عن الفضيلة، فالإنسان الذي يعيش الحسد يتألّم تارة من نفس النعم
الإلهية التي أنعم اللَّه تعالى بها على عباده، من دون أن يفكّر في أنّه ينالها أو
لا، وهذه هي الحضيض في رذيلة الحسد؛ حيث إنّه
يفكّر فقط وفقط لسلب نعم الآخرين، ويتألّم من نعم أنعم اللَّه تعالى بها على
الآخرين، فهذه هي غاية السقوط في رذيلة الحسد، فروحية تصل في الخبث والانحطاط إلى
مرحلة تتألّم من نعم اللَّه تعالى على العباد، ولا تريد لأحد خيراً، بل تتمنى زوال
النعم الإلهية عن العباد، ولو لم تنل هي منها شيئاً، فهؤلاء من الناس في مقابل
أصحاب النفوس الرفيعة، الذين يؤثرون على أنفسهم ولو كان بهم خصاصة.
أجل، هناك نفوس سعت سعيها حتى
صارت لا تحب إلاّ الخير، وإذا كان أمراً دنيوياً حاول أن يقدّم غيره على نفسه،
وهذه هي القمّة في حبّ الخيرات.
نعم، هناك تقابل بين نفسيتين:
نفسيّة تصل إلى مرحلة الإيثار؛ لحبّها للخير، ونفسية تصل إلى مرحلة في الشقاء،
بأنها لا تريد إلاّ زوال النعم عن الآخرين، ولو لم يكتسب شيئاً
أبداً، فهذان طرفان متقابلان في حبّ الخير وحبّ الشر.
وهناك إنسان إذا وجد نعمة عند
أحدٍ تمنّاها، ودعا ربّه أن يهبه تلك النعمة، بلا منعٍ لنعم الآخرين، وبلا أن يبذل
سعيه بأسباب سلبية لزوالها عن الآخرين، فهذه غبطة، وهي تكون سبباً للتنافس السليم
الصحيح.
فإن نظرنا إلى العالم القائم
اليوم وما تقدّم وما سيأتي سنجد أنّ نسبة التنافس في العالم بالمائة تسعين تنافس
غير سليم، مبني على الحسد، وقد بدأها إبليس، ثمّ قابيل، فالمستعمرون المتسلّطون
على وجه الأرض، وأصحاب الثروات الطائلة الذين يسدون سبل الكسب على الآخرين حسداً،
لو حاسبوا أنفسهم لعلموا أنّ ما لديهم من الخيرات يكفيهم ويكفي أعقابهم، فلِمَ هذه
النُّهمة في التجاوز على الآخرين، والسلب لحقوق المجتمع، والعدوان عليهم فيما
منحهم اللَّه تعالى من النعم؟
وأنا وأنت ننظر إلى الحكّام
فنتعجب ممّا يرتكبون، ونقرأ في التاريخ ما جرى من الجرائم فنستغرب ممّا ارتكبه
المجرمون، لكن لا يترك اللَّه نفساً إلاّ ويختبر تلك النفس بقدرها، فحاكم يعيش
العدوان والحسد بمجاله وبمقدار سلطته، وأنا على قدر إمكاني وسلطتي قد أعيش الحسد
والعدوان، وأشدّ الحسد ــ كما وردت الروايات ــ ما بين العلماء، فيشتد الحسد
والحقد والابتعاد عن الإخاء فيما بين العلماء، فليس معنى الحسد أن يكون الإنسان
حسوداً متعدّياً يعيش العدوان ليسلب أموال الآخرين.
نعم، لمّا كنّا نظنّ النعم
أموالاً وأموراً مادية، راحت الأذهان تتصوّر أن الحسد في ميادين الأمور المادية
فقط، فمن حاول أن يهتك كرامة عالم، ومن حاول أن يلقّن الناس على إنسان بلا عدل،
كان يعيش الحسد، سواءً عاشه في جانبٍ مادي، أو عاشه في جانب معنوي.
فإذن: من جملة أقبح الصفات
الحسد، وهذه الرذيلة من الأمور التي يشير إليها الكتاب المجيد بالنسبة إلى بني
إسرائيل وإبليس وقابيل وإخوة يوسف.
وإن من جملة أهم العوامل التي
تستوجب الحسد هي ضعف الإيمان، فلو كان الإنسان يعيش الإيمان بواقعه لوجد الخيرات
في الباقيات، لا في الفانيات الزائلات، فلا ينافس أحداً في أمرٍ دنيوي؛ لأنه لا
يريد الدنيا إلاّ أداة يأخذ منها بمقدار العبور كالجسر لغايته في مدارج الكمال،
وإن العلاج الأساسي لمرض الحسد هو تقوية الإيمان، وبذل الجهد للرقي بتحقيق أسبابه
الدنيوية والأخروية، بدلاً من انشغال النفس بكيفية إذهاب النعم عن الآخرين.
ومن جملة مناشىء الحسد ــ
أيضاً ــ عدم الإقرار الباطني بالعدل الإلهي، فلعله لا يتجاسر ليقول هذه الكلمة؛
لأنه يرى نفسه مؤمناً، لكنّ البواطن لدى الكثير من الناس قد انطبعت على هذا
الواقع، ولو كان يرى اللَّه تعالى حكيماً عادلاً، ويرى الدنيا دار اختبار زائلة،
ويرى بعض الأمور ليست بنعم، بل لعلّها بلايا توجب السخط والخلود في النار، لما
راحت النظرة في النعم على الجوانب المادّية.
والمرحلة الثانية أن نعرف
معنى العدل الإلهي، فإذا عرفنا معنى العدل، وعرفنا أنه تعالى عادل، وقسّم الأمور
قسمة حكيمة، فمنع فيما كان المنع
خيراً، وبسط فيما كان البسط خيراً، وأيقن الشخص بأنه لو أصبح غنياً لعله سيكون
طاغياً، ولعله يتجاوز الحدود لو أصبح ذا جاه ومقام، ولعل القبض بالنسبة لك ولي
رحمة ظنناها شرّاً، وعليه فيجب على الإنسان أن يطالع بدقة وإمعان معنى العدل
الإلهي حتى يعرف النعم الحقيقية، وكذا الشرور الحقيقية حتى يكون طالباً لما هو من
النعم حقاً حتى لا يورد مستشكلاً: بأنه لمَ أعيش الفقر
وفلان يعيش الغنى؟ لمَ أعيش العجز وفلان يعيش الصحة؟ لمَ ولمَ ولمَ... فلعله يعيش
الكثير من هذه العناوين ولو بدون التفات؛ لأنه لم يعش الاستسلام الحقيقي للقضاء
والقدر الإلهي.
وأيضاً من عوامل الحسد عدم
المعرفة للخيرات والشرور، فلعله تصوّر نعمة ليست بنعمة، ولعله يعيش صحّة كانت نقمة.
ومن جملة العوامل التي ذكرها
علماء الأخلاق ــ أيضاً ــ أنّ البخل والشحّ النفساني من بواعث الحسد، فالبخل
النفساني يدعو الإنسان إلى أن يندفع لمنع الآخرين ممّا أنعم اللَّه تعالى عليهم،
فلِمَ نحسد فلاناً على علمه والرجل عاش حياته في المحن والصعاب، وسهر لياليه حتى
توصّل إلى هذا العلم؟ بل علينا أن ندعو ربنا أن يوفقنا لمثل هذه الأمور.
فعلى الإنسان أن يدعو اللَّه
أن يمكّنه من الأمور إن كانت خيراً، ويقول: يا إلهي، أنت أعلم بالمصالح والمفاسد
التي ترجع إليَّ.
ومن جملة البواعث التي تبعث
على الحسد هي الحقد والبغضاء، فدفع إبليس الحقد والبغضاء والكبر إلى الحسد، يعني
إلى الاندفاع العملي قولاً وعملاً إلى أن يسعى سعيه لدفع بني آدم من الوصول إلى
الخيرات.
ومن جملة البواعث خُبث النفس،
وسوء السريرة، وهذا الكلام تقدّم في مسألة الخواطر: بأنها محلّ العفو الإلهي؛
لأنّها بأسبابها كانت متحققة، وما تحقق بالأسباب الاختيارية كان محلاًّ للتكليف،
لكن منّة من اللَّه تعالى على العباد رفع عنهم عقاب الوسوسة.
ومن جملة الأمور التي تدعو
إلى الحسد ــ أيضاً ــ الكبر الذي هو الطامّة الكبرى التي تكلّمنا عنها كثيراً،
فالمتكبّر في قرارة نفسه ينظر إلى الآخرين باحتقار، وبنظرة لا تعطيهم مكانتهم،
فيقول: هل من المعقول أن مثلي يعيش الفقر ومثل هذا يعيش الغنى؟ فجعل نفسه في محلٍّ
غير محلّها بالكبر، فراح ليعتقد أن كلّ خيرٍ هو أحقّ به من كلّ أحد، وأنّه هو
الحقيقة التي يجب أن تدور مدارها الخيرات.
فروح الإخاء تجعل المجتمع يعيش التواصي بالخير والحق لكافة
الخيرات، معنوية كانت أو مادّية، ولذا فإنّ الإسلام يصرّ بكل شدة على تقوية روح
الإخاء في المجتمع، وعليه أن يتجاوز في الإخاء حدّ المؤمنين إلى قول الإمام علي
(ع) : ( إمّا أخٌ لك في الدين، وإمّا نظير لك في الخلق) ([1][1])، حتى المشابهة في الخلق
جعلها بقيم الإنسانية مدعاة لإجراء العدل والإنصاف، هكذا أراد الإسلام من المسلمين
أن يكونوا خير أمّة، والحال أنّ الحسد من أشدّ الوسائل والدواعي التي تضرب أركان
المودة والمحـبّة بين أبناء المجتمع.
والحمد للَّه ربّ العالمين.
www.alkhaghani.org
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق