إسم السائل : محمد جمعة آل خلف
السؤال : إذا كانت مسألة الفحش من القول حراما شرعا فما هي دائرة الفحش
من القول و بماذا نحدده و نعرفه؟
الجواب :
لما كان الفحش هو القبيح من القول او السيء منه و قد كان من الأمر
الذي لاريب فيه ان الدعوة الإسلامية إنما جاءت لتدعو الناس الى مكارم الأخلاق كما
قال النبي (ص) :(إنما بعثت لأتمم مكارم الأخلاق ) و قد مدحه تعالى قائلا : ﴿
وَإِنَّكَ لَعَلَى خُلُقٍ عَظِيمٍ ﴾ [القلم:4 ] وراحت لتتواتر الأخبار مؤكدة
ذلك من أن أكمل المؤمنين إيمانا أحسنهم خُلُقا و أن الله تعالى ليبغض الفاحش البذيء
فمن ذلك كله نجزم ان حُسن الخُلق شرع و أن خلافه إثم سواء كان سوء الخلق فحشا او
غير ذلك وبذلك حكم العقل و الفطرة و الأدب ايضا و اذا كانت الغيبة من الكبائر و هي
صدق من القول وليست كذبا فما هو محل الفُحش و نظائره من الكلمات التي تخدش خواطر
الناس و تنال من كرامتهم.
فالفحش اذن من المحرمات المقطوع بها بل ما هو دون ذلك ايضا من
المحرمات كأن يطلق الشخص كلمة تحمل في طياتها ولو تلميحا ما فيه إهانة لأحد ولو ان
يقول لزيد يا حائط او يا قُفة او يا بومة ولو كانت الكلمة بما لها من المعنى
اللغوي لا تحمل تحقيرا كأن يقول الشخص لذي الوجه الأحمر يا أحمر او للطويل يا طويل
حيث تكون مؤلمة او مؤذية او كأن يتفلسف الشخص قائلا لشخص يا حيوان معتذرا بأنه لم
يقصد اهانة لأن الانسان حيوان ناطق حيث ان مثل ذلك ايضا يحمل في طياته ملامح
التحقير ولو بنظر العامة.
ولما كانت الكلمات مرآة للمعاني سواء صرح بما تحمل الكلمات او جاء
بها بنحو الكناية او الإيماء فلوازمها من المعاني تكون ثابتة و هي يختلف حالها في
الحرمة شدة و ضعفا ان كانت تحمل تحقيرا لأحد و عليه فلو حملت كلمة الفُحش وراء اصل
سوءها إتهاما لأحد لكانت أشد عقابا مما لو كانت مجرد إهانة كأن تحمل في طياتها
مفهوم الغباء لأحد او الإشارة الى أم او قبيلة كما و أن صدور الكلمات من شخص بما
له من تأثير على الآخرين لمكانة دينية او اجتماعية قد تدفع الى شدة حرمة إضافة على
أصل حرمتها بما لها من التأثير على كرامة الآخرين بخلاف ما لو صدرت من شخص ليس له
بمنظار الناس مكانة او جاها ومقاما.
ولذا نقول لا تقيم الكلمات ولو حرمة بما هي كلمات تحمل معنى و ان
حُدد لها في دار الدنيا جزاء خاص ردعا للعدوان و ذلك لأن الكلمات تُقيم في حسنها و
قبحها بما يحمل الشخص ايضا من نفسية طيبة او خبيثة فهو ايضا يثاب و يُعاقب عليها
يوم الحساب حيث انها تتضاعف بخلاف ما لو صدرت الكلمات القبيحة من جاهل دعاه
لاطلاقها سوء تربية او جهل او ضعف عقل.
ولذا نقول ان الحساب في دار موازين الحق ليس على الأعمال بما هي
اعمال بل ترتبط بصاحبها جزاءا بما هو عليه من المعرفة و النفس والعقل و لذا قد
يرتكب شخصان جريمة كأن يقتل شخص شخصا و آخر يقتل ألفا فجزاؤهما و ان كان واحدا في
دار الدنيا كأن يُقتلا لكن العقاب يوم الآخرة على النيات و على ما ترتب على الفعل
من جرائم و أخطاء ولو كان القتل بدوافع الحقد على المؤمنين لكان اشد استحقاقا
للعقاب.
قال تعالى : (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا يَسْخَرْ
قَومٌ مِّن قَوْمٍ عَسَى أَن يَكُونُوا خَيْرًا مِّنْهُمْ وَلَا نِسَاء مِّن
نِّسَاء عَسَى أَن يَكُنَّ خَيْرًا مِّنْهُنَّ وَلَا تَلْمِزُوا أَنفُسَكُمْ وَلَا
تَنَابَزُوا بِالْأَلْقَابِ بِئْسَ الاِسْمُ الْفُسُوقُ بَعْدَ الْإِيمَانِ وَمَن
لَّمْ يَتُبْ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ).
و كل ما كان منهيا عنه باطلاق الكلمة فهو محرم و الألقاب المنهي عنها
هي العناوين التي تسيء الآخرين حتى لا يعيب الناس بعضهم بعضا فهو نهي عن كل ما فيه
فُحش و عدوان و هو القبيح من القول و ان كان الفحش قد يكون عملا يحمل تحقيرا و
إهانة للآخرين فهو اذن يعم القول والفعل و ان كان المتبادر منه هو القول.
فالفحش اذن هو تلفظ بكلمات نابية يستقبحها العُرف و يتألم منها
السامع بما لكل عُرف من فهم للكلمات و رب كلمة كانت لا تحمل تحقيرا عند قوم او في
لغة ولكنها تحمل ذلك عند قوم او في لغة أخرى ولذا قد تكون فُحشا بلحاظ و اعتبار و
قد لا تكون كذلك بغض النظر عن النيات.
و مما حرمته شرايع السماء و نهت عنه هو سوء الخُلق حيث انها أمرت
بمحاسن الأخلاق لأن سوء الخلق بما يحمل من كلمات إيذاء و عدوان على الآخرين و
منقصة للكرامة الإنسانية مبغوض عند الله في حين ان الله تعالى أراد للانسان ان
يعيش الأدب و حسن الكلمات.
و قد فسر البعض قوله تعالى )عُتُلٍّ بَعْدَ ذَٰلِكَ
زَنِيمٍ ( القلم13 بأن من مصاديقه الفاحش و قد جاء في
الروايات كما عن الإمام الباقر عليه السلام وغيره ايضا : (قولوا للناس احسن ما تحبون
ان يقال لكم فان الله يبغض اللعان السباب الطعان على المؤمنين الفاحش المتفحش) و
عن الإمام علي عليه السلام : (أسفه السفهاء المتبجح بفحش الكلام) .
ومن المعلوم ان المتصف بمثل هذه المساويء الأخلاقية و الرذائل غير
سوي الفطرة لئيم الباطن وقد ورد عن الرسول (ص) : ( إن من أشر الناس من تركه الناس
اتقاء فحشه) و قد بينا ان بتبع قبح ما تحمل الكلمات التي يطلقها الفاحش و على قدر
ما هو عليه من الخُبث الباطني يكون الذم و الجزاء عند الله و لو لمح بفاحشة او فسق
او اتهام بأمر لأحد او صرح بها لكان مزيدا من الذنب العظيم و كيف لا و الغيبة و هي
بيان واقع لا كذب فيه اعتبرت من الكبائر لأنها ايذاء للآخرين فكيف اذن يكون حكم
الفاحش الذي ينال من كرامات الناس و ان الفاحش تارة يفحش كما قلنا لسوء ادب و أخرى
قد يفحش لانه يرى نفسه عظيما و أن لا كرامة للآخرين بأزائه فيكون الذنب اعظم لانه
لجهله المركب الذي ساقه إليه الكبر أصبح يعيش استخفافا بحقوق الآخرين و كراماتهم
وقد قال تعالى : ( وَمَن يَتَعَدَّ حُدُودَ اللَّهِ فَقَدْ ظَلَمَ نَفْسَهُ)
الطلاق 1, كما قال ايضا : (وَمَنْ يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَتَعَدَّ
حُدُودَهُ يُدْخِلْهُ نَارًا خَالِدًا فِيهَا وَلَهُ عَذَابٌ مُهِين) النساء14 .
و أقل ما يُفترض في الفُحش انه من مساويء الاخلاق التي ينبغي ألا
يتصف بها مسلم فضلا عن كونه مؤمنا سالكا سلك ربه.
وما ورد في قوله تعالى : (لَا يُحِبُّ اللَّهُ الْجَهْرَ بِالسُّوءِ
مِنَ الْقَوْلِ إِلَّا مَنْ ظُلِمَ ۚ وَكَانَ اللَّهُ سَمِيعًا عَلِيمًا ) النساء
148, ليس معناه ان الله تعالى يحب الفحش ممن ظُلم بل هو بيان لحق ابداء المظلومية
و ان حملت ما يسيء الى الظالم أمرا ما لم يتجاوز المظلوم حده من بيان المظلومية
الى العدوان بالإفتراء او يبلغ مرتبة كشف ستر بلا دليل كأن يتهم الظالم بشرب خمر
او ارتكاب فاحشة و هو لم يثبت ذلك ببينة, نعم قد تجوز بعض الكلمات لو كانت سبيلا
لاسقاط عدالة اقام عليها البينة ليثب بعد ذلك حقا كان ظاهر المعتدي الظالم مانعا
من الوصول إليها فالجهر بالسوء لمن جهر له بذلك جائز من غير كذب كما تجوز الشكوى للناس
ببيان للمظلومية.
أجل الله تعالى لم يحرم الجهر بالسوء مطلقا بل استثنى منه المظلوم
لكن تحت شرائط و حدود معينة فله ان يكشف وجه الظالم لدفع عدوانه ووصوله الى حقه و
ان كان مع ذلك العفو اولى كما قال تعالى : (وَجَزَاءُ سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ
مِثْلُهَا ۖ فَمَنْ عَفَا وَأَصْلَحَ فَأَجْرُهُ عَلَى اللَّهِ ۚ إِنَّهُ لَا
يُحِبُّ الظَّالِمِينَ ) الشورى 40,كل ذلك للترغيب في حُسن السلوك و الخلق الطيب و
ابتعادا عن الفُحش و مساويء الأخلاق و لكن ليس معنى ذلك ان الله تعالى يشجع
المظلوم على الصبر على ظلامته و اسقاط حقه لظالم و معتد ولولا ان المقام لا يتسع
لشرح اكثر قد يخرجنا مما نحن فيه من مورد السؤال لتعرضنا لشرح هذه الآية الشريفة
لكن في الختام نقول ان حدود التأديب تعزيرا أمر يعود الى القاضي وهو الفقيه و ذلك
لكل فاحش بما يناسبه من موجبات للردع عن العدوان و سوء الأدب و ذلك إنما يحدده
القاضي بما يراه مناسبا بينه و بين الله والسلام عليكم و رحمة الله وبركاته.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق